قبل سنة من هذا التاريخ كتبنا مقالا بعنوان”حراك الريف نسائم الربيع المغربي”، تناولت فيه تظاهرات 18 ماي و التي شملت مدينة الحسيمة و العديد من المدن المغربية تضامنا مع مقتل الشهيد “محسن فكري” ، و رفضا لمنطق التخوين و الإنفصال الذي عبرت عنه الدولة المغربية و مؤسساتها، و المقال تم ختمه بهذه العبارة:” من المؤكد أن نسائم الربيع المغربي و معه العربي قادمة لا محالة، لكن على خلاف ما حدث في 2011 و ما بعدها، فان الشارع المغربي و العربي تعلم دروسا وعبرا سوف تعينه دون شك في اقتلاع جذور الاستبداد و الفرعونية السياسية ، وصياغة مستقبله بيده بعيدا عن وصاية الحكام و حلفاءهم الأجانب..و إلى ذلك الحين لا يسعنا إلا التأكيد على أن الحفاظ على سلمية الاحتجاج واستمرار الاحتجاجات السلمية في الزمان و المكان هو الضمانة الفعلية لتغيير الواقع المعتل..”..

وهاهو الشارع المغربي ينتفض مجددا، وتتوحد جميع طوائف اللون السياسي  تحت شعار واحد و يوجههم هدف واحد، و هو الأمر الذي يرجعنا إلى احتجاجات حركة 20 فبراير التي و حدت الإسلامين و العلمانيين و جمعت اليسار واليمين، تحت هدف و احد هو الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة و محاسبة الفساد و المفسدين…

فطيلة الأسابيع الماضية، فئات واسعة من الشعب المغربي تتضامن مع الريف و مع باقي المظالم التي تشهدها مدن وقرى مغربية، و هذا التضامن و الوعي الجمعي هو صمام أمان ضد الانزلاق للخطاب العنصري، الذي يتم ترويجه و تضخيمه، فالمغرب بشماله وجنوبه شرقه و غربه، يربطه تاريخ واحد و يوحده مستقبل مشترك، التحدي هو بناء وطن لكل مواطنيه بعيدا عن منطق التخوين و التفريق العنصري و الخطاب الإثني الذي يخدم الإستبداد بدرجة أولى و يعرقل تقدم البلاد..

فحراك 20 فبراير و حراك الريف و الحراك الحالي و القادم هو امتداد لحلم بناء الدولة الديمقراطية الدولة التي تحترم كرامة كل مواطنيها، بدلا من الدولة الإقطاعية- الأوليغارشية، التي تعامل مواطنيها بمنطق العبيد الذي عليهم واجبات فقط، هذه الدولة التي تصم الآذان عن كل المطالب المشروعة لعموم المواطنين المغاربة، وتحتج كما هو العادة بالظرفية الاقتصادية أو بمحاربة الإرهاب و التطرف و الحفاظ على الوحدة الترابية…و الأعذار لا تنتهي …و الممارسات الخاطئة للدولة و المستفزة لمشاعر الغالبية لا تكاد تتوقف، وليس هناك إرادة للتوقف عنها و بأحرى إصلاحها و جبر الضرر، فالاعتراف بالخطأ أقرب الطرق لإنهاء حالة الإحتقان الشعبي…

للأسف واقع المملكة لا يبشر بخير، ولا طالما ارتفعت الأصوات بضرورة الإصلاح و التغيير، والتوقف عن النهج الاستبدادي،والأسلوب  التيوقراطي في الحكم، ظروف المغرب و توالي الأحداث الدامية من انتحار عدد من المواطنين بفعل ” الحكرة والقهر” و طحن المواطن “محسن فكري” بشكل درامي، وطحن نساء تحت الأقدام من أجل كيس دقيق، و انتحار رجال ونساء بسبب الفقر و أخرهم هذا الذي انتحر في طنجة و ترك من خلفه 7أطفال، و الأخرون الذين لانعلم بحالهم فهم يعانون في صمت و يشكون همهم لمولاهم، في بلد ينفق بترف  على المهرجانات  و سياسات الاستعراض و التسويق، في وقت تتناسل فيه المؤشرات الدالة على ارتفاع نسب الفقر والبطالة ، و تأكل القدرة الشرائية للأسر المغربية، و ارتفاع معدلات العزوف عن الزواج بسبب الظروف الإقتصادية و الاجتماعية المزرية …فالأحداث و المفارقات في المغرب  تؤكد بأن المغرب من أكثر بلاد الإقليم العربي هشاشة وتخلفا وفقرا..

فالسياسات الاقتصادية و الاجتماعية شبه شاردة ، و لاتدرك حجم المخاطر التي تنتظر البلاد، فالموارد العمومية تخصص بشكل ردئ، و توظف لفائدة القلة المهيمنة على المكاسب و المناصب ، و السياسات الخاطئة تدفع المغرب إلى المجهول، فمن يحلل هذه السياسات يدرك أنها في خير صالح البلاد والعباد، بل إنها في خير صالح الدولة و استمرارية النظام السياسي ذاته، فالمغرب مهدد كغيره من البلاد العربية بالتفكك و التجزئة، و التمادي في السياسات الاستعلائية و الخاطئة سيقود البلاد للمجهول….

لذلك، فإن منطق التخوين و إطلاق الاتهامات جزافا، و سياسة صم الأذان و القمع و الاعتقال و في الاستمرار في السياسات المعادية لإرادة غالبية الناس، لا غاية منها إلا الإضرار بوحدة البلاد و تمزيق النسيج الإجتماعي، فالبلاد تعيش تحت وطأة إدارة خاطئة عاجزة عن تبني السياسات و الاختيارات العمومية السليمة و الناجعة، البلاد تعاني من فساد ينخر مختلف أجهرة الدولة، وغياب الشفافية و المساءلة و محاسبة المفسدين و ناهبي المال العام…

 فالمغرب من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، يتطلع إلى التغيير الحقيقي و ليس الصوري، فالاستبداد السياسي و القبضة الأمنية والفساد المستشري في هياكل الدولة من الرأس إلى القدم، كلها أمور تجعل من التغيير أمرا حتميا، فالبلاد ليس في حاجة إلى إصلاحات شكلية على غرار ما حدث بعد الحراك الشعبي لحركة  20 فبراير  2011 ، و التي بدورها تعرضت لنفس الاتهامات بالانفصال و تنفيذ أجندات أجنبية، التحدي الذي يواجه المغاربة هو الحفاظ على سلمية الاحتجاج وعدم الانجرار إلى سياسة الأجهزة الأمنية و دوالب الدولة العميقة، التي تسعى إلى عسكرة هذه الاحتجاجات ، ندرك جميعا أن الشعب المغربي على الرغم مما يقال فهو شعب على درجة كبيرة من الوعي و له القدرة على التمييز بين الحق و الباطل…

فاللحظة التاريخية التي يعيشها المغرب تقتضي تجميع كل “القوى الديمقراطية الحية” وقوى التغيير ، و كل مكونات الوطن المغربي للوقوف في وجه الاستبداد، والتمادي في الانحدار..

فمن الباطل أن تنهب ثروات البلاد دون حسيب أو رقيب، ومن الباطل ألايحاسب المسئولين عن فشل السياسات العمومية طيلة العقود الماضية، فالمغرب في ستينات القرن الماضي كان مستواه التنموي يعادل ماهو مسجل في كوريا الجنوبية وتركيا مثلا..فلننظرإلى حال هذه البلدان وإلى واقع المغرب التنموي المرير، الذي لازال فيه المواطن المغربي يكابد عناء الحصول على لقمة عيش تحفظ وجوده، و إن كانت دون شك على حساب أدميته وكرامته الإنسانية…

 فالبلد بالرغم من توفره على موارد طبيعية وجغرافية وبشرية هائلة، فهو يعيش مستويات غير مسبوقة من الفقر و التخلف و التوزيع الغير عادل لثروات البلاد.. مطالب أهلنا في الريف و غيرها من المناطق، التي لم تسلط عليها وسائل الإعلام عدساتها، مطالب مشروعة وهي نتاج طبيعي للفساد و الاستبداد وغياب الكفاءة في إدارة شؤون الدولة، و غياب الديمقراطية والمشاركة الشعبية في صياغة وتنفيذ السياسات العمومية …

نود بكل صدق تجنيب البلاد الدخول في نفق مسدود، و نستطيع التأكيد على أن مستقبل البلاد وفق التوجه السياسي الحالي لا يتجه  إلا نحو هذا  النفق المسدود، و إذا كانت السلطة في 2011 قد وجدت من تحاوره ، فان تجربة ما بعد 2011 و ما صاحبها من انتكاسات حقوقية وديمقراطية و الالتفاف على شركاء الأمس، جعلت من أي وعد تقدمه الدولة لا يحظى بالمصداقية، بل إن الإصرار على تجريف ما تبقي من الأحزاب سياسية الوطنية –بالرغم من عجزها و ضعف فعاليتها و خدمتها للنظام المخزني– و تقزيم هيئات المجتمع المدني لن يقود إلا لمواجهة مباشرة بين الدولة و الشارع …نأمل أن يدرك المخزن  أنه يقود البلاد إلى المجهول، و أن المراهنة على سياسة فرق تسد لن تدوم طويلا، و أضرارها أكثر من نفعها، فطريق النجاة لازال ممكنا، شريطة أن يغلب هؤلاء المسؤولين الولاء للبلاد على الولاء  للمناصب و المكاسب،  و تلك هي المعادلة التي لابد منها لتجاوز المشكلات الراهنة، مع أني لست متفائلا بشأن قدرة حكام البلاد على فعل ذلك، لكني بالقدر ذاته متفائل بأن الخير لازال في هذه الأمة، فالقيم و المبادئ التي أطرت و حدة كل الطيف المغربي إبان الاحتجاجات الشعبية ل 20 فبراير ، تدفع إلى التفاؤل بإمكانية تغيير موازين القوى بداخل المجتمع المغربي في اتجاه صياغة عقد اجتماعي جديد يخدم الوطن و المواطن بعيدا عن منطق التخوين و الترهيب، و التفريق، و إلى ذلك الحين فسلمية الاحتجاجات و نبذ العنف، و اتساع صدر الأجهزة الأمنية، و مرونة النظام السياسي و انصاته وتجاوبه لمطالب الشارع و الأغلبية الصامتة، كفيل بتجنيب البلاد ما لا يحمد عقباه، خاصة و أن الإقليم العربي على مشارف موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية  التي يصعب التكهن بمداها… و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..