الحديث عن “القضية الصحراوية” وما تشكله هذه الأخيرة من إشكاليات مرتبطة أساسا بمعاناة الصحراويين المتواجدين بمخيمات اللاجئين، وكمشكل معيق للاندماج المغرب الكبير، يجعلنا نتساءل عن الإمكانيات المطروحة للحل، و إذا ما تجاوزنا الحل الممكن على أرضية المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة منذ وقف إطلاق النار سنة 1991، هل ممكن القول أن المغرب له من المقومات الديمقراطية التي تغري الصحراويين للسير نحو الاندماج مادام جزء من المشكل،  تشكل فيه الديمقراطية الحقيقية والكرامة الإنسانية والعدالة والحرية والاستفادة من الثروات مداخيل مؤسّسة للحل ومساهمة فيه؟

  يقول أستاذ القانون الدستوري أحمد البوز “الحديث عن المشهد السياسي المغربي المليء بالتناقضات من ناحية علمية يبدو نقاشا في حد ذاته نقاشا غير علمي”، وهنا الأستاذ يقودنا إلى عدم إمكانية  بناء أي  تأويل علمي  حول النموذج الدستوري المغربي المعيق  لكل تقدم، فلا المسلكيات المتبعة في صياغة دستور 2011 لم تحترم القواعد القانونية/ الديمقراطية في كتابة المتن الدستورية، ولا مضمون دستوري يفتح المجال إلى دمقرطة النظام، وبذلك ضمان هامش الحرية لممارسة صلاحيات حقيقية للحكومة المنبثقة من الشعب. ليكون المشهد السياسي منتفية فيه  كل معالم الديمقراطية، خصوصا عندما تغيب أسس الشرعية في من يدير سياسة أمور  الشعب.  وهذا ما يقودنا إلى استحضار ما كتبه محمد عابد الجابري معلقا على أهم المحطات التاريخية التي ضيعت فيها الفرصة النخبة السياسية المغربية دستورا مؤسسا لدمقرطة النظام،  في مقالة معنونة ” بالديمقراطية بالمغرب من التأجيل إلى التزوير”، كان أول هذه المحطات،  الحركة الدستورية التي ظهرت سنة 1908، والتي تم التغاضي عن مشروعها بمبرر أولوية التحرير في مواجهة المستعمر على الديمقراطية.

  كذلك إبان الاستعمار الفرنسي كان قد تقدم الجنرال الفرنسي  “جوان” بمشروع إحداث مجلس وطني يمثل الرأي العام المغربي بوضع دستور يجعل من المغرب في طبيعته النظامية  ملكية ديمقراطية”،  إلا أن علال  الفاسي رفض المشروع قائلا الدستور يأتي بعد الاستقلال وليس قبله. التأجيل لم يقف عند هذا الحد حسب الجابري بل سيقترح الفرنسيين كذلك  على الوفد  المغربي المفاوض  برئاسة عبد الرحيم بوعبيد  في ايكس ليبان  “اعتراف فرنسا أولا باستقلال المغرب وثانيا  تكوين حكومة وطنية تشرف على وضع دستور، تليه انتخابات ديمقراطية”،  وهو ما قوبل بالرفض من الوفد المفاوض. 

هذا التأجيل لم يقف عند هذه الحدود بل  استمر أيضا مع الدساتير المصاغة من طرف المهيمنين على  الحقل السياسي بعد (الاستقلال)، من دستور 1962 و 1972 و 1992 و 1996 وصولا إلى دستور 2011 الذي لم يضمن  مدا خيل لتحقيق الديمقراطية، الذي يشكل فيه مبدأ فصل السلط  أحد ركائزها،  لتبقى كل الحكومات المتعاقبة في المغرب لا تعدو كونها حكومات شكلية فاقدة للرأي و القرار، وهو ما يجد أحقيته عند أهل الاختصاص حينما علقت الدكتورة رقية المصدق على حكومة السيد بن كيران الحالمة بالتغيير ” الشرعية الانتخابية لا يمكن أن تكون لها من مصداقية إلا إذا اندمجت في الشرعية الدستورية”، تحليل موضوعي تجسد عمليا مع  إسقاط حكومة الأستاذ عبد الله إبراهيم  المشكلة 04 في  دجنبر  1958 الحاملة لمشروع وطني تقدمي لمغرب ما بعد الاستعمار، و المنتهية صلاحيتها بدون أي مبرر معقول   في 20 ماي من سنة 1960، وهو ما سيتأكد أيضا مع تجربة (التناوب التوافقي) مع الراحل الحسن الثاني. عندما قال عبد الرحمان اليوسفي في عرضه الشهير في بروكسيل ” قد كان قبولنا بقيادة تجربة التناوب مخاطرة أخذنا فيها في الحسبان المصلحة الوطنية و ليس المصلحة الحزبية، واليوم وقد انتهت هذه التجربة بدون أن نفضي إلى ما كنا ننتظره منها، بمعنى التوجه نحو الديمقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الأمام، التي ستشكل قطيعة مع ممارسة الماضي، فإننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام الانتظار سنين على أمل أن نرى إمكانية تحقيق الحلم في انتقال هادئ و سلس نحو الديمقراطية، و نتمنى أن لا نفقد في المستقبل القريب ملكة الحلم و القدرة عليه”.

 ليبقى النسق السياسي المغربي يغلب عليه المهيمن الواحد  دينيا، قضائيا، تشريعيا وحتى تنفيذيا،  في غياب أي إشارات أو مؤشرات تجعلنا نتكهن أو نفترض أننا بصدد نظام سياسي بالفعل يخطو خطوات  نحو الدولة الديمقراطية، ولكن لازلنا نقرأ من واقع الحال أننا لازلنا في التأجيل .

 وعليه وبناء على  الواقع الديمقراطي المأزوم، يسجل في المشهد السياسي المغربي ردة حقوقية لا تختلف فيما شهده المغرب في سنوات الجمر و الرصاص وإن تغيرت طرق استعمال أدوات الإكراه، هكذا جاءت أحدات الريف حاملة تعابير احتجاجية تعبر عن عمق الوضع المادي المزري الذي لا يختلف عن بقية مدن المملكة، حناجر تهتف و تحتج بأرقى الطرق السلمية منددة بالحكرة و الظلم و الفساد، حاملة لشعار الحرية و الكرامة والتوزيع العادل لثروة و محاسبة المفسدين، لتكون مخرجات الدولة لا تخرج عن دائرة العنف و الزج بالسجون و محاكمات تنتفي فيها أبسط شروط المحاكمة العادلة ، نسجل كذلك  الفاجعة التي شهدتها الجماعة القروية سيدي بولعلام بإقليم الصويرة و التي  راح على إثرها 15 امرأة،  نتيجة التدافع على معونات غذائية، لتكتشف هذه الواقعة زيف الإدعاءات التي تجعل من المغرب جنة نعيم، و لتبقى خطابات التنمية ما هي إلا خطابات ديماغوجية لأصحاب المتحكمين في الحقل السياسي،   كيف نفهم من خطاب استقلال السلطة القضائية و هناك من  خرج من السجن برخصة لا تتعدى أربع أيام و لم يعد، و هو المتهم بتبذير أموال عمومية،  كيف نفهم من ” النموذج الديمقراطي الاستثنائي” إغلاق المساجد على الراغبين في التخشع و التضرع إلى الله، و نحن في دولة  إمارة المؤمنين، و هلم جرا من الأحداث التي لا يسعنا المجال إلى الخوض في تفاصيلها و إن كانت في مجملها  مهمة لإدانة  زيف الإدعاءات القائلة بالديمقراطية.

هذا الواقع لا يختلف عن ما تشهده المناطق الصحراوية، و إن كان بدرجات متفاوتة، فالمشهد الحقوقي يعرف مجموعة من الممارسات المخالفة و المناقضة للشرائع و المواثيق الدولية، وهو ما أكدته و أشارت إليه في تقاريرها مجموعة من المنظمات الدولية في مقدمتها ” هيومن رايتش ووتش” و “منظمة العفو الدولية”، تجسدت في الاعتقالات و المقاربة التي تعتمد العنف في التعامل مع الحركات الاحتجاجية سواء ذات اللون السياسي أو الاجتماعي. و إن كان كل سلوك اجتماعي في المنطقة في الغالب يؤول سياسيا، و إن تحدتنا عن موضوع التنمية  فإن واقعها ارتبط كذلك بالديمقراطية الزائفة التي تغيب معها إمكانية مؤسسات منتخبة شرعية ، فقد سارعت الدولة إلى وضع ثقتها في بعض العائلات من القبائل ( الكبرى) في الصحراء، مما مكنها ذلك من الاستحواذ على المجالس المنتخبة بأدوات غير مشروعة ، متكهنة الدولة أن بدعمها لهذه الأسماء، ستدعم استقرار و إدماج أهلها. مما خلف تفاوتات طبقية كانت شرطا موضوعيا لبروز احتجاجات مستمرة، رغم المقاربة الأمنية المشددة في هذه المناطق، مما يجعل خطاب الاندماج غير ممكنا، بفعل السياسات الغير عقلانية و الغير ديمقراطية  للدولة المغربية في تعاطيها مع هذا الملف مما يجسد عمليا مقولة خالد الناصري عندما كان الناطق الرسمي باسم الحكومة في أحد البرامج التلفزيونية ” المغرب بلا صحراء لا يساوي بصلة”، مما جعل الصحراويين يقتنعون  أن الصحراء أرضا و ليست شعبا.

  إن محاولة الدولة في تقديم صورة لامعة للمنتظم الدولي بشكل خاص و للخارج بشكل عام عن استثنائها الديمقراطي، ترد الكثير من التقارير الدولية من بينها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر التقرير البريطاني حول ” مؤشر الديمقراطية لسنة 2017 ” المعد من قبل وحدة ”ذي ايكونوميست انتليجانس  للأبحاث و التحليل “،  الذي يجعل من النظام السياسي بالمغرب نظاما ” هجينا سياسيا”،  ” فالانتخابات تشوبها مجموعة من الاختلالات تمنعها من أن تكون حرة و نزيهة، و الفساد يميل إلى أن يكون واسع الانتشار، سيادة القانون ضعيفة، و السلطة القضائية بعيدة كل البعد عن الاستقلالية، و وسائل الأعلام لا تمتلك الحرية و غير مستقلة إلى حد كبير”.

إلى حدود هذا التشخيص للواقع السياسي و الحقوقي المغربي  الذي لا يجعلنا الإ  أن نسلم بأنه مأزوم، يقودنا إلى إشكالية اندماج الصحراويون و سؤال الديمقراطية بالمغرب؟

يجيب على هذا الإشكال مجموعة من التنظيمات السياسية المغربية ذات المواقف السياسية الجريئة و التي لا تحضى إلى حد ما  بقابلية و برضى من الدولة، نتوقف في البداية على فيدرالية اليسار الديمقراطي الممثلة في  الحزب الاشتراكي الموحد، حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، حزب المؤتمر الوطني الاتحادي، هذا الائتلاف السياسي له ورقة خاصة ” بقضية الصحراء”، تعرض فيه هذه الأحزاب موقفها من قضية الصحراء، ففي مجمل هذا التصور يرى رفاق الأستاذة نبيلة منيب “أن الديمقراطية الحقيقية في المغرب هي المدخل الوحيد في بناء المغرب المتعدد والمشترك في ضل  نظام الملكية البرلمانية التي يسود فيها الملك و لا يحكم، تأسيسا لحكومة قوية وفصل سلط حقيقي وانتصار للحقوق والحريات والتوزيع العدل للثروات، رافضين  التعاطي مع الصحراويين بالمقاربة الأمنية و الريعية واعتبروا هذا النمط من التدبير ما هو إلا تعميق للمشكل و تعبير عن الخلل الواضح في طبيعة شكل النظام السياسي في المغرب”. 

وهو ما أكدته أرضية الأفق الجديد للمؤتمر الوطني الرابع للحزب الاشتراكي الموحد. فرفاق منيب و محمد الساسي بهذا التصور يستلهمون تجربة الشعب الاسكتلندي الرافض للاستقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، عندما عبر الاسكتلنديون بأنه لا مناص من العيش إلا مع مملكة إليزابيث ، الضامنة للحقوق و الساهرة على الحريات،  هذا التصور يتماشى إلى حد مع حزب الأمة المحضور بالمغرب و إن اختلفت منطلقاته الفكرية مع فيدرالية اليسار، فحسب تصور الحزب  “وضع البلاد على سكة الإصلاحات الديمقراطية الحقيقية ودمقرطة الحياة السياسية و مؤسسات الدولة التشريعية و القضائية و التنفيذية و كفالة الحقوق و الحريات ، أرضية خصبة لبناء رغبة في الاندماج”. يفترض كذلك محمد اليازغي وزير الدولة السابق و القيادي السابق في حزب الاشتراكي للقوات الشعبية  على هامش ندوة نظمتها كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بالمحمدية يومه الأربعاء من شهر فبراير  2017″  بأن حل نزاع الصحراء مرتبط بترسيخ الخيار الديمقراطي في أفق الملكية البرلمانية”.

 خيارات كلها تبقى صعبة المنال تستوجب نضالا مؤسساتيا قويا من داخل النسق)، و كفاحا مستمرا في الشارع  من (خارج النسق)، أما واقع الحال فتبقى معه إرادة  الصحراويين في الاندماج مؤجلة إلى حين.