
قصائد أندلسيّة منقوشة على جدران قصرالحَمْرَاء

يرجع تاريخ مدينة غرناطة العريقة إلى ما قبل التقويم الميلادي، تعاقبت عليها حضارات قديمة متعددة على إمتداد التاريخ. إلّا أنّ المؤرّخين الثقات يؤكّدون أنّ غرناطة إكتسبت شخصيتها التاريخية ، والحضارية الحقيقية الأصيلة منذ سنة 1013 خاصّة مع مملكة بني زيري، كما أنّها عرفت مرحلة أخرى من التألّق والإشعاع والازدهار مع بني الأحمر بدءاً من عام 1238 حيث طفق إشعاع المدينة الحضاري ينتشر فى العالم أجمع. وتُعتبرالإحتفالات التي تعيشها المدينة بين الوقت والآخر تكريماً لمختلف الحضارات التي تعاقبت عليها منذ العهد الرّوماني البائد بها إلى اليوم ، إلاّ أنّه خلال هذه الإحتفالات تُسلّط الأضواء بشكل خاص على حقبة الوجود الإسلامي بها . ذلك أنه على الرّغم من تعاقب حضارات متعددة ومختلفة على هذه المدينة، فإنّ الغلبة ،وقصب السّبق، والإشعاع الأبرز، والأكثر شهرة وإزدهاراً يظلّ لقصر الحمراء الذي جعل المدينة تتبوّأ مكانة عالمية من حيث إحتضانها لهذه المعلمة الحضارية والعمرانية التي عرفتها الأندلس على إمتداد التاريخ ، فيما يلي لمحة عن هذه المعلمة الفريدة، وعن عُمرانها وأسودها ، وعن الدّيوان الشعري المنقوش على جدرانها.
آراء أخرى
أولي المعالم السياحيّة فى اسبانيا
غرناطة .. مدينة السِّحر والعِطر، والجَمال والظِلال ،والمياه المنسابة، والموسيقى الحالمة، بلد “الفلامنكو” (الفلاّح المنكوب) والمواويل ذات النغمات الرّخيمة. بها يوجد “قصر الحمراء” ، معلمة حضارية طبّقت شهرتها الآفاق التي أصبحت اليوم من أولى المعالم السياحية والتاريخية وأهمّها فى إسبانيا، التي تذرّ على إسبانيا مداخيل طائلة لا حصر لها، إنّها تتويج لتطوّر الهندسة المعمارية فى الأندلس على عهد بني الأحمر، وهي مُدرجة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ 1984. بغرناطة كذلك “جنّة العريف” (إستقرّت هذه الكلمة فى الإسبانية باسم “ألاريفي” بمعنى العريف أو المهندس المعماري الخبيرفى شؤون البناء) بهذه المدينة كذلك أحياء ومناطق شهيرة مثل حيّ “البِشْرَات” الذي عرف ثورة الموريسكييّن ضدّ الظلم، والعنت، وإنتهاك العهود والمواثيق، وحيّ “البيّازين” ( مربّو ومروّضو وبائعو طائر الباز)، وهو اليوم من أجمل الأحياء العتيقة فى غرناطة،من شعرائها إبن جزيّ،وابن الجيّاب، وإبن زُمرك ، ولسان الديّن بن الخطيب ،وآخرون .
عادت أسُود الحمراء إلى مرابضها لتزأر من جديد فى عرينها بالبّهو الكبير الذي يتوسّط هذه المعلمة الحضارية الفريدة بعد أن خضعت لعمليات ترميم دقيقة، ما فتئت هذه المعلمة تبهر الملايين من الزوّار، وتذهل عقولهم وألبابهم من كل الأعراق والأجناس الذين يتقاطرون عليها كلّ يوم من كلّ صوب وحدب. حتى أصبحت تحتلّ المرتبة الأولى بين مختلف المعالم والمآثر التاريخية والعمرانية الإسبانية من حيث جذبها للزوّار، وهكذا فإنّ كلاًّ من” قصر الحمراء” وملحقته ” جنّة العريف ” قد حققتا أرقاماً قياسية تاريخية خلال السنوات الأخيرة. عادت الأسود وعادت معها المياه المتلألئة تتدفّق من أفواهها بخريرها المتناغم على إيقاعِ أصواتٍ موسيقيةٍ أندلسيّة سحريةٍ صادحة.
رحلة إلى الماضي البعيد
كانت عمليات الترميم قد انطلقت منذ بضع سنوات خضعت لها هذه الأسود لتعيد لها رونقها القديم، وإشعاعها وبهاءها الذين ليس لهما نظير.وها قد أصبح المرمر الأبيض المسنون يغطّي أرضية هذا البهو البهيج ، وتنساب المياه فى لطف بين “السّواقي” التي تملأ المكان كما كانت عليه فى عهدها السابق فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر (كلمة “السّاقية” العربية ما زالت تُستعمل فى الإسبانية إلى اليوم بنفس معناها العربي القديم ).
خضعت هذه الأسود الإثنى عشر الأصليّة لعمليات ترميم دقيقة بعد أن نزع عنها الخبراء كلّ ما علق بها من المواد الغريبة بفعل التآكل والتحاتّ والرطوبة ومرور الزّمن ، وإكتشف المرمّمون خلال عملهم أنّ كل أسد من هذه الأسود يختلف عن الآخر، وهذه الفوارق يمكن الآن مشاهدتها بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل فى فروها، وفكاكها، وخطامها ،وأذنابها ، بل وحتى فى تعابير وجوهها. فضلاً عن تحديث النظام الهيدروليكي أو المائي بعد أن كان قد علقت به بعض المواد المعدنية الكلسية وعوالق أخرى ، كما تمّ تصفية المياه الآسنة، وتنقية المجاري الجوفية ، وتركيب نظام هندسي متطوّر خاص لمراقبة حرارة المياه لتفادي إلحاق أيّ أضرار محتملة سواء بالقنوات والمجاري المائية ، أو بمجسّمات السّباع مع مرور الزّمن ،ولقد أعاد الخبراء إستعمال الممرّات المائية الجوفية الدفينة وإستغلال نفس المياه القادمة من النبع القديم الذي صمّمه المسلمون فى القرن الرابع عشر بأمر من السلطان الأندلسي محمد الخامس من قمّة المنحدرالذي كان معروفاً عندهم باسم “السّبيكة ” .
الأعمال الترميمية البالغة الدقّة التي أنجزت فى هذا الشأن تنقل الزائر الجديد للحمراء اليوم فى رحلة سحرية إلى الماضي البعيد والتي تمّت إستناداً إلى مراجع ومصادر ومظانّ تاريخية تعود للعصرالذي شيّد فيه قصرالحمراء، وبناء على شهادات وأوصاف العديد من المؤرخين المسلمين والأجانب . وحسب المؤرخ الألماني “هيرومينوس مونسير” (1434- 1508) فإنّ أرضية البهو فى زمانه:” كانت كلها مكسوّة بالمرمر الحرّ الأبيض ، وكانت القنوات المائية التي تمخر المكان فى إنسياب بديع والتي تنطلق من النبع وهي ترمز إلى الأنهارالأربعة التي تقود إلى الفردوس” . ويشير الخبير الإسباني “بيدرو سالمرون” : ” أنّ كل الشهادات والروايات فى ذلك الوقت تؤكّد أنّ الأرضية الجديدة هي الآن تماماً كما كانت عليه عندما رآها لاوّل مرّة الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإزابيل بعد دخولهما لغرناطة” 1492.
ساحة السّباع أو بهو الأ سود تضمّ الباحة التي تتوسّط قصر الحمراء بأسُودها الإثنى عشر، والبناءات المحيطة بها مثل قاعة الأختين، وقاعة بني سرّاج، بالإضافة إلى قاعة الملوك (أو قاعة العدل) وقاعة المقربصات، فضلاً عن النافورة التي تتّخذ شكل قصعة مستديرة بديعة الشكل كحوض من المرمر يحملها 12 ضِرْغاماً تمجّ المياهُ من أفواهها وتتطاير فى الهواء لتسقط فى لطف وإنسياب على جنبات النافورة المحيطة بها ، وهو من أشهر أجنحة الحمراء، تحيط به من الجهات الأربع أروقة يحملها 140 عموداً من الرّخام الأبيض الناصع، وعليها أربع قباب مُضلّعة .ويؤكد المؤرخون أن نافورة الأسود على حوضها المرمري المستدير إثنى عشر أسداً من الرخام الخالص كانت المياه تخرج من أفواهها بحسب ساعات النهار والليل، وقيل إنّ مخارج هذه المياه تعطّلت حين حاول الإسبان التعرّف على سرّ وكيفية إنتظام تدفّق المياه بالشكل الزّمني المتواتر الدقيق الذي كانت عليه. تُعتبر نافورات ،وحدائق الحمراء وجنّة العريف نموذجاً فريداً متطوّراً ومُحيّراً لما أدركته هندسة الريّ والسّقي والبستنة، وبلغته الفنون المعمارية الأندلسية فى هذا القبيل من أوجٍ، ورقيٍّ فى ذلك الأوان.
الحمراء ..ألبُوم شعريّ
لشيخ المستشرقين الإسبان الرّاحل “إميليو غارسيا غوميس” كتاب يحمل عنوان :” قصائد عربية على جدران وينابيع الحمراء” : هذا الكتاب عصارة عمل شاق وطويل يمتدّ لسنوات بعيدة ، طفق المؤلف فى وضعه غداة وصوله إلى غرناطة 1930 ليشغل أستاذ كرسي فى جامعتها ، حيث بدأ فى جمع مواد هذا الكتاب ، وفى عام 1943، ضمن الخطاب الذي ألقاه عند قبوله عضواً فى المجمع التاريخي الإسباني تحدّث عن إبن زمرك شاعر الحمراء ففاجأ الحاضرين بالمعلومات التي قدّمها سواء عن هذا الشاعر أو عن الحمراء التي تعتبر فى نظره ظاهرة فريدة من نوعها فى العالم . إنّ قصر بني نصر الكبير يعتبر بمثابة ” مصنع” إعجاب، وهو خلاصة حساسية مفرطة ، وذكاء وقّاد أكثر ممّا هو مصدر ثراء ورفاهية وترف ، يحتوي هذا القصر على ” ديكور” يكاد يشبه أرقى ديكورات المسارح العالمية، بل يفوقها جمالاً وبهاءً لأنّه ديكور حيّ دائمٌ مُوحٍ بالحبّ الذي ينبعث من كل جوانبه. تنفرد الحمراء بخاصيّة مميّزة ومحيّرة بكونها تعتبر” ألبوماً ” شعرياً لثلاثة وثلاثين قصيدة تنتمي لشعراء معروفين أو مجهولين ، كتبت أو بالأحرى نُقشت أشعارُهم على المرمر المصيص الخالص، أو الخشب الصّلب، فى جدرانها ،وهي تكوّن بذلك صنفاً من الأصناف الأدبية التي يمكن أن نطلق عليه بالشعر المنقوش كتابةً ، إنّ نهي القرآن الكريم على تقديم أشكال مُجسّمة للأحياء، قد أفضى إلى إزدهار فنّ الكتابة، أو فنّ الخطاطة حيث بلغ فى الأندلس مستويات فنيّة راقية، قال قائلهُم فى هذا الصدد :
تعلّمْ قِوامَ الخطّ يا ذا التأدّبِ / ولازمْ له التعليمَ فى كلّ مكتبِ
فإن كنتَ ذا مالٍ فخطّك زينةٌ / وإنْ كنتَ مُحتاجاً فأجملُ مكسبِ.
شعراء الحمراء
لا تنفرد الحمراء بهذا المستوى الجمالي وحسب ، بقدر ما تنفرد القصائد المنقوشة على جدرانها كذلك بنفس المستوى، إنّ تكاثف هذه الظاهرة وتدرّجها يمكن أن تلمس بشكل ملحوظ فى القرن الرابع عشر. هناك ثلالة شعراء يمثلون (القصيدة المنقوشة وهم : ابن الجيّاب، وابن الخطيب، وابن زمرك وهو أهمّهم وقد شغل الثلاثة جميعُهم منصب الوزير الأعظم ، وكانوا كتّاباً كباراً للبلاط الملكي،إننا إذن أمام فنّ غنائي بلاطي بمعناه الواسع، إذ كانوا يشرفون بأنفسهم على تزويق وتنميق المباني، كما كانوا يشرفون على وضع القصائد والزيادة فيها، أوالنقصان منها حتى تتلاءم والحيّز المكاني المخصّص لها فى القصر ، كان عملهم ضرباً من ضروب الفنّ، والثقافة، والشّدو، والغناء، وبهذه الرّوح كان الملك يوافق على مقترحاتهم .
يفسّر تعاطي الشّعراء الثلاثة للسّياسة الأخبار المتداولة عنهم والتي لها صلة بهم ، فإثنان منهما اغتيلا نتيجة الصّراعات التي كانت تحتدم فى القصر وهما ابن الخطيب وابن زمرك ، أمّا ابن الجيّاب فقد مات فى سريره فى غرناطة بني نصر، أعماله غير معروفة جيّداً وهي مبثوثة فى كتب، وتآليف مختلفة وضعت فى حقبٍ متفاوتة من التاريخ .وتحتل كل قصيدة من القصائد الثلاثة والثلاثين لهؤلاء الشعراء مساحة تتراوح بين أربعة وعشرين بيتاً من حيث التركيب فى عدّ تنازلي حتى تصل إلى بيت واحد، وأوسط هذه القصائد تتراوح بين أربعة وثمانية أبيات . يتحدّث الشاعر بشكل مباشر إلى شخص الملك المُشيّد أو يستفهم الآثار والمعالم ،أو يشخّص المكان الذي توجد فيه الخطوط المكتوبة شعراً ، القصائد التي تنمّق الجدران، والنافورات، كما توجد فى المِشْوَر وساحة الأسود ،والأبراج وفى جنّة العريف ،هذا التنظيم الطوبوغرافي هو الموجود فى كتاب غارسيا غوميس. هذه التركيبات ليست تصوّرية فى شكل واقعي، فالحمراء لو إختفت فرضاً فإنه سيكون من المستحيل الإقتداء بهذه القصائد لإعادة تشييدها من جديد . كنموذج لهذا الشّعرالمنقوش على جدران الحمراء نقدّم الأبيات التالية لابن زُمرك التي خطّت على حاشية من مَرْمرٍ مَسْنُون، وَذَهَبٍ مَوْضُون ببهو الأسود،إنه يقول فيها :
يذوبُ لجين سال بين جواهر /غدا مثله فى الحُسن أبيضَ صافيَا
تشابه جار للعيون بجامدٍ / فلمْ ندرِ أيّاً منهما كان جاريَا
ألمْ ترَ أنّ الماءَ يجرى بصفحها / ولكنّها سدّت عليه المجاريَا
كمثلِ مُحبٍّ فاضَ بالدّمع جفنُه / وغصّ بذاك الدّمعُ إذ خافَ واشيَا
لوركا والشّعر الأندلسيّ
من القصائد التي تسترعي إنتباه الزّائر على هذه الجدران تلك التي توجد فى قاعة “الأختين” فى(بهو الأسود) التي يبدو فيها ابن زُمرك وكأنه الغسَق اللمّاع الآيل للغروب للقصيدة الأندلسية التي كانت ما تزال تحتفظ بجمالها ورونقها فى عهده ، تشكّلُ مجموع هذه القصائد جمالية مركّبة لا يمكن فصلها عن الإطارالعام الذي توجد فيه.
يشير الباحث الإسباني ” مغيل غارسيا بوسادا” أنّ هذا العمل الأدبي يعدّ ذا قرابة بالشعر الاسباني الحديث، إذ يشير أنّ الشاعر الغرناطي الكبير فدريكو غارسيا لوركا كان قد قال له فى خريف 1932 أنّ فى نيّته وضع كتاب عن إبن زمرك الذي نشرت بعض قصائده فى أحد أكبر الدّواوين جمالاً فى العالم ، والذي صدر فى مستهلّ الحرب الأهلية الإسبانية حيث أجاب المستشرق غارسيا غوميس فى حينه أنه بدوره كان قد أعدّ ديواناً تكريميّاً لهؤلاء الشعراء الغرناطيين القدامى ، ويشير الكاتب أننا نعرف أنّ هذا الديوان لم يكن مكتملاً كمجموع عضوي، وأنّ أجمل محتوياته وأكثرها إثارة هي قصائد الشعراء المسلمين الأندلسيين الذين كان غارسيا غوميس قد نشر بعضها فى ” مجلة الغرب”عام 1928 وأعجب بها لوركا أيّما إعجاب.ويشير الكاتب أنّ السّبب الذي جعله يعمل على إصدار ذلك الديوان الكبير كان هو الحوار الذي دار بين المستشرق غوميس وغارسيا لوركا. إذ عندما كان لوركا يقدّم قصائد ديوانه عام 1935 فى مدينة برشلونة سجّلت الصحافة الصّادرة فى ذلك الوقت بهذه المدينة ما يُفهم منه إعتراف لوركا بتفوّق سكّان الأندلس فى الإبداع الشعري وإعجابه بهم ، حيث قال قبيل قراءة ديوانه أمام الملأ : ” إنّ الأشعار التي يضمّها هذا الديوان هي مهداة إلى الشّعراء العرب الذين كتبوا قصائدَهم على جدران الحمراء”.