قال تعالى في محكم كتابه:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج : 27]، إمتثالا لهذا النداء الرباني توجه نحو مليوني  مسلم و مسلمة، من مشارق الأرض و مغاربها  لمكة المكرمة بغرض  أداء الركن الخامس من أركان الإسلام..وعلى الرغم من تشتت كلمة المسلمين في الوقت الراهن، و اختلاف مواقفهم السياسية و المذهبية، إلا أن الحج فرصة سنوية تزول فيها الخلافات  الفوارق بين مكونات الأمة الواحدة  لتعلو كلمة التوحيد و  أخوة العقيدة الجامعة..وهذا المقال ليس تأصيل شرعي أو فقهي لفريضة الحج ، وإنما  محاولة لتسليط الضوء على هذا الإجتماع البشري الذي من الصعب أن نجد له نظيرا في أي حضارة من الحضارات أو أمة من الأمم ..

 فالأمة الإسلامية التي اقتربت من المليارين نسمة، و تمثل نحو ربع سكان الأرض، و نصف المتدينين بالديانات السماوية، وتمتلك من الإمكانات المادية و المعنوية ما يؤهلها لقيادة ركب الحضارة و إمامة الإنسانية، لكن هذه الأمة مالكة الإمكانيات الروحية و البشرية و الجغرافية و الإقتصادية، تعيش مشكلة الاستضعاف، فطاقاتها الدينية، أصبحت تصور على أنها عائق أمام التحضر و التقدم و الرقي الإنساني، و إمكانياتها الإقتصادية و ثروتها المادية تستنزف وتجفف منابعها و تصب في خزائن الغير بينما الأمة الإسلامية جزء كبير من أبناءها يعيشون الفقر والعوز و الإستضعاف، جزء من أبناء الأمة يطلبون اللجوء لدى الغير و أوطانهم حبلى بالثروات، و قرارها السياسي ليس بيدها في الغالب الأعم.. فالأمة الإسلامية تعيش حالة من الوهن، وأصبحت غثاء كغثاء السيل، و غدت العقيدة الدينية التي جمعت نحو مليوني مسلم في مكان واحد و بلباس واحد ، ويقفون موقفا واحدا، و يؤدون منسكا واحدا، و تتعالى أصواتهم بإختلاف لهجاتهم و لغاتهم بنفس الكلمات و نفس المعنى، غدت هذه العقيدة الصحيحة التي لم يمسها زيف ، محجوبة عن الفعل الحضاري و التنموي، و تأثيرها محدود في صياغة مستقبل الأمة و عزتها…

و أهم مايميز الحح  هو الإجتماع البشري  و الوحدة الدينية بين شعوب و قبائل و أعراق و لغات شتى، ففي الحج تظهر وحدة الأمة الإسلامية، بالرغم من تعددية المذاهب و الفلسفات و التيارات السياسية و النظم السياسية، لكن هذه التعددية لها ضابط وموجه،  يميز الإسلام عن غيره من الديانات السماوية  أو القوانين و النظم الوضعية..

فالإسلام أقر و اعترف  بالتعددية، لكن جعلها محكومة بضوابط أهمها “الوسط” بعيدا عن “الغلو” إفراطا أو تفريطا، و”وسط ” التعددية الإسلامية هو الذي يضبط العلاقة بين “التميز” و “التنوع” و “التعدد” من جهة و بين “الجامع” و ” الوحدة” و ” الرابط ” من جهة أخرى، فمنهج الإسلام ينبذ التشرذم و القطيعة و التنافر الذي لا جامع له، و يعد ذلك من الغلو، كما أنه ضد “الوحدة” المنكرة للخصوصية المانعة من تميز الفرقاء و اختصاصها…

فالرؤية الإسلامية تزاوج بين الوحدة و تقدس التعددية و الاختلاف، فقد قصرت “الوحدة” التي لا تعدد لها على الذات الإلهية وحدها، دون المخلوقات و المحدثات و الموجودات، و جعلت من التعددية في كل الظواهر المخلوقة “سنة” من سنن الله تعالى و “أية”من الأيات التي لا تبديل لها، فهي القانون الإلهي في ميادين الكون و الإجتماع و العمران البشري و قضاياه…

و التعددية في هذا الجانب محكومة بالوسطية الجامعة، قال الله تعالى : {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ } [البقرة : 143]، وهذه الوسطية هي وسطية العدل، فالتعددية في الإسلام لابد و ان تكون تميزا لفرقاء يجمعهم جامع الإسلام، و تنوعا مدهبيا و فكريا يخضع للتصور الإسلامي الجامع، و خصوصيات متعددة في أطار توابث الوحدة الإسلامية…

فوحدة الأمة فيما هو معلوم من الدين بالضرورة هي فريضة إلهية، قال الله تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون : 52]، فلا تعدد في هذا الجانب و لا إختلاف، فالعقيدة و الشريعة و المبادى و الأركان هي من معلوم الدين فهذا أصل الوحدة الجامعة، و قد شبه علماءنا الكرام ذلك بالشجرة الطيبة، فالوحدة هي الأصل و التعدد هو الفروع، وهذه الفروع لا تكون فروعا حقيقية، إلا إذا ارتوت من الأصل وسرت فيها جميعا روح الأصل و مزاجه و صبغته التي بها تتميز عن الأصول الأخرى للمعتقدات..

فالحج فرصة لملاحظة هذا التمايز و التعدد في إطار الوحدة الدينية، و  هو مايمثل أية من آيات الله و سنة من سنن الله، التي ينبغي الخضوع لها وتوظيفها في قضايا العمران و التنمية، فالإسلام يعترف بالقوميات و الإختلاف الأجناس، و ينظر إليها على انها ضرورة للإجتماع الإنساني وأية من أيات الله قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم : 22]، لكن هذا التعدد له جامع مشترك هو الإنسان،بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق، فالعدل و المساواة مبدأ، و”لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى” و لاتمايز بينهم إلا بالحق ، فالقضاء عدل للجميع ، و حساب الله عدل مع الجميع، و الناس على إختلاف طبقاتهم متساوون في الصلاة حيث يقف الناس جميعا بين يدي الله، دون تخصيص مكان لعظيم أو أمير، و في الحج يلبس الناس لباسا واحدا، و يقفون موقفا واحدا و يؤدون منسكا واحدا فمن المستحيل أن تميز بين هذا و ذاك، فالكل الفروق المادية و الفكرية والمذهبية و السياسية تزول…

فالإسلام بوجهنا إلى النظر بإبجابية إلى التنوع العرقي و الإثني، و تعدد الشعوب و القبائل، وضرورة توظيف هذا التمايز لإقامة علاقات تعارف و تعاون، فالحج شكل عبر التاريخ فرصة للتعارف   قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : 13]…و تبادل المنافع و التواصل و الحوار ، ففي عهد الخلافة الراشدة مثلا كان الحج بمثابة برلمان أو مؤتمر سياسي  بين مختلف مكونات الأمة الإسلامية، يتم فيه فض المنازعات و الاستماع لشكاوى المحكومين و الحكام على السواء…

من معجزات الإسلام أنه نظم الإختلاف و ضبط التعدد، و صاغ هامشا واسعا للتنوع الفكري و التطور الحضاري، فهذا التنوع بنظر الإسلام، حافز للتنافس في الخيرات، و سبب في التدافع الذي يصلح و يوجه و يقوم مسارات كل حضارة إنسانية، و باعث على الإبداع و التجديد..قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود : 118] ، لكن شريطة أن يتم كل ذلك في إطار وحدة الدين و المرجعية الإسلامية…

لذلك، فإن الحج فرصة عملية لاختبار  المنهجية الإسلامية في المزج بين التعددية و الوحدة الجامعة، فهذا الجمع البشري الهائل، يأتي من كل فج عميق و يأتون برا وجوا، يدعو المسلمين حجاجا و غير حجاج، إلى التفكر في هذه الشعيرة و مناسكها،و استخلاص الدروس و العبر منها…فالأمة المترامية الأطراف المتعددة الأعراق المختلفة الشعوب و القبائل المتعددة الجنسيات و الألسن، تقف مجتمعة خلف إمام واحد، و تقف في صعيد واحدا، ضابطها الخضوع لله الواحد القهار و امتثالها لمنهج و شرع رب العالمين…

فهذا الانقياد لله تعالى دون سواه ، و الإمتثال للمنهج الرباني في أداء فريضة الحج، و تحمل مختلف المشاق الجسدية و المادية، والتضحية بالغالي و النفيس تقربا لله وخضوغا لأمره،  تحتاجه الأمة أيضا في ميادين التنمية و البناء و العمران،  فمن الخطأ و من غير الجائر شرعا و عقلا، حصر المرجعية الإسلامية في دائرة الشعائر الدينية و إبعادها عن الشؤون الدنيوية، و قضايا العمران البشري ،  فالصحيح هو أن المنهجية الإسلامية  جزءا أساسيا في حل مشكلاتنا الدنيوية و التنموية، إن على مستوى الأفراد أو الجماعات، لأن ذلك يعد شرط من شروط اكتمال الإيمان الديني للمسلم بالله و اليوم الأخر قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء : 59] و التخلي عن هذه المرجعية في الشؤون الدنيوية و قضايا العمران يجعل من الإيمان “ناقص” و خضوعا غير مكتمل لله، فقد قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء : 65]. 

فكمال التوحيد الإسلامي يقتضي إسلامية و إلهية المرجعية في تدبير و إدارة الشؤون الدنيوية، كما في أحكام الحج و باقي شعائر الدين،فمهام الاستخلاف تقتضي ضبط هذه المهام  ببوصلة الأحكام الإلهية، فالاحتكام لمرجعيات غير إلهية في شؤون الدنيا و العمران  يعد تشويه لحقيقة عقيدة التوحيد الإسلامية، و اقتراب من الوثنية..

الجدير بالذكر، أن الوثنيون الجاهليون لم يكونوا ينكرون الله خالقا للكون، لكنهم كانوا يشركون معه طواغيتهم، و مرجعيات غير إلهية في تذبير شؤون دنياهم قال تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [الزخرف : 87]..و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.