
أهم مكون في الثورة الصناعية بالصين

في مقال لنا بعنوان”كسر هيمنة الدولار مهمة صينية بالدرجة الأولى ..لماذا التردد؟”، وحاولنا من خلاله توضيح الأسباب التي تجعل من الصين القوة الاقتصادية العالمية القادرة على إنزال الدولار من عرش السيطرة على الاقتصاد المالي العالمي، لكن قلنا بأن هناك عوائق تحد من حركة هذا العملاق الاقتصادي، ومن ضمنها طبيعة بنية الاقتصاد الصيني و الهيكل الصناعي الذي لازالت تلعب فيه المؤسسات المملوكة للدولة، و مشاريع المؤسسات البلدية والقروية Enterprises TVEs Township and Village-owned دورا مهما ، و هو ما فسره البعض على أنه نقطة ضعف في الاقتصاد الصيني، و أن هذا الأخير ما كان ليتطور وينمو لولا الاستثمارات الأجنبية وفي مقدمتها الاستثمارات الأمريكية، و تفنيدا لهذا الطرح سيحاول المقال تبني تحليل جزئي للتحول الصناعي في الصين بعد 1978، و سيعتمد نموذجا للدراسة المشاريع البلدية والقروية و التي سنرمز لها فيما بعد ب TVEs ، ولتوضيح ذلك سيحاول المقال التركيز على مشاريع TVEs باعتبارها المحرك الأساس للثورة الصناعية في الصين في مرحلة ثمانينات و تسعينات القرن الماضي، و دورها في تأمين الاستقرار و السلم الاجتماعي بالريف الصيني..
آراء أخرى
أولا- دور TVEs في التنمية الاقتصادية :
طيلة تاريخ الصين الإمبراطوري شكلت قطاعات الصناعة اليدوية والتجارة والنقل عصب الاقتصاد، و أثناء القفزة الكبرى للأمام من 1958 إلى 1960 سجلت تحولا كبيرا لليد العاملة الريفية نحو الأنشطة غير الزراعية. فهذه الأنشطة مثلت 6.6 %من العمل الريفي سنة 1957، وتطورت بسرعة بنسبة وصلت نحو %28 في نهاية عام 1958 لتعود مرة ثانية لأقل من 2% سنة 1962، والمعدل المسجل في سنة 1977 ظل أقل من سنة 1957
لكن في الفترة السابقة لعقد السبعينات اتجه التصنيع في الصين نحو تشجيع المؤسسات الكبيرة في الصناعات الثقيلة، ونتيجة لذلك تم استبعاد المناطق الريفية من التصنيع، لكن الإصلاح الذي نفذ في المناطق الريفية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وضع التصنيع الريفي ضمن أولويات التنمية الريفية، ومن عام 1978 إلى عام 1984، تم تبني نظام زراعة الأسرة “family farming system”، ونتيجة لهذا الإصلاح، فإن القيمة الحقيقية للإنتاج الزراعي نمت بمعدل سنوي بلغ 6 ٪ في خلال نفس الفترة.
وقد أسهم النمو الزراعي بشكل أساسي في نجاح التدابير الموالية، فالنمو السريع في الإنتاج الزراعي، ساعد على تحقيق تراكم رأس المال الأولي، الذي لعب دورا حاسما في إقلاع المشاريع الريفية. لذلك، فان الفترة من 1984 إلى 1988 تعد بحق فترة إقلاع التصنيع في المناطق الريفية بالصين، و يمكن التمييز في مسار تطور TVEs بين محطات أساسية أهمها :
1 – المرحلة الجنينية 1949 -1978 : قبل 1978 عانت الصناعات الريفية من التهميش، لكن ذلك لم يحل دون تشجيع بعض الحرف اليدوية والصناعة المتصلة بالأنشطة الزراعية. ففي سياق عملية التجميع الذي شهده الريف الصيني في مطلع الخمسينات، عملت الكمونات الشعبية على تأسيس أنشطة صناعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، لذلك شكلت هذه التجربة الأرضية التي مهدت للتصنيع الريفي، ففي سنة 1977 كان الريف الصين يضم حوالي 1،5 مليون ورشة صناعية تشغل نحو 28،3 مليون أجير .
2- مرحلة التنمية 1979 -1983 :الجلسة العامة الثالثة لمؤتمر الحزب الحادي عشر في ديسمبر 1978 بدأت بإدخال إصلاحات رئيسية في مجال الزراعة. وفي وقت لاحق ، في عام 1979 ، وضع قانون جديد ل TVEs ، ضمن إطار الاقتصاد الجماعي. وقدمت العديد من القرارات المتعلقة بالسياسات العامة لضمان تنمية هذه المشاريع، ولكنها في الوقت نفسه فرضت قيودا عليها. و هو ما ساهم في نمو الإنتاج بسرعة شديدة، مع زيادة فرص العمل ب TVEs حيث ضمت حوالي 32،4 مليون عامل في عام 1983.
3- مرحلة التوسع 1984-1988 : في عام 1984 الإصلاحات الريفية في الصين كانت امتدت إلى القطاعات الحضرية، وشجعت الحكومة القطاع الخاص على التعاون مع المؤسسات العمومية، و تم تغيير اسم مشاريع الألوية والبلديات لتصبح مشاريع TVEs، و اتخذت الحكومة سلسلة من التدابير الرامية إلى تهيئة بيئة مواتية ل TVEsمن قبيل : النقل لمسافات طويلة وأصبحت القوانين تشجع التجارة ؛ السماح للمزارعين بالدخول إلى قطاع النقل، نظام تسجيل الأسرة، والسماح بشكل جزئي للمزارعين بالدخول والإقامة في المدن الصغيرة، ومنح قروض تفضيلية وسياسات ضريبية ل TVEs… ومن ثمار هذه التدابير ارتفعت العمالة بثلاثة أضعاف خلال هذه الفترة، لتصل إلى 95،5 مليون في عام 1988.
4- مرحلة سياسة الانكماش 1989-1991 :في عام 1988 ، عانت TVEs من خلافات سياسية حول دورها في الاقتصاد و برنامج التقشف لمكافحة تضخم الاقتصاد. لذلك فإن الكثير من TVEs تم إغلاقها، فانخفض الإنتاج بنحو 8 % عن ذي قبل. وترتب عن ذلك عودة ملايين المهاجرين إلى قراهم والى الزراعة.
5- مرحلة التنمية الشاملة 1992-1996 : لكن بعد جولة “دينغ شياوبينغ” في الجزء الجنوبي من المقاطعات الساحلية في عام 1992 ، عندما أعرب عن تأييده لبناء “اقتصاد السوق الاشتراكي بخصائص صينية”، و المؤتمر الرابع عشر للجنة مشكلات السلع المنعقدة في ماي من العام 1992 أكدت من جديد على أهمية TVEs في الاقتصاد الصيني، ودعت إلى نبذ التمييز ضد الملكية الخاصة. و نتيجة لهذا التوجه ارتفعت حصة TVEs ضمن الإنتاج الصناعي من الصناعة الى أزيد من 52 % في عام 1994، وبلغ عدد العاملين بها أزيد من 135،1 مليون في نهاية عام 1996 .
6- مرحلة التكيف الهيكلي والمؤسسي والابتكار مابعد 1997 : في أعقاب الأزمة الأسيوية لعام 1997 ، ونظرا لتزايد المشاكل المالية وضعف القدرة التنافسية ل tves ، تم الإسراع بعملية الخصخصة، فعرفت بذلك هذه المؤسسات ، تباطأ بشكل حاد في النمو وانخفاض فرص العمل.
وعموما،فبعد نحو أكثر من ثلاث عقود من نمو المشاريع الريفية و ما شهدته من توسع و انكماش، وتعاقب الإصلاحات و الأزمات ، إلا أن مشاريع TVEs قد غيرت طبيعية المناطق الريفية في الصين، وخلقت ظاهرة تنموية و اجتماعية، فريدة في الصين، فبدلا من ترييف المدن، تم تمدين و تصنيع الأرياف، ففي الفترة من 1978 إلى عام 1997، ارتفع عدد المشاريع الريفية من 1،5 مليون إلى 20،2مليون، وارتفع عدد العاملين من 28،3 مليون مستأجر إلى 130،5 مليون ، أي تم الانتقال من 9 إلى 28 %من قوة العمل الريفية . كما أن حصة المؤسسات الريفية في القيمة الإجمالية للناتج الإجمالى بالمناطق الريفية، قد زادت بشكل ملحوظ، ففي عام 1978 أنشأت المؤسسات الريفية فقط 24 % من مجموع إجمالي الناتج الريفي، لكن بحلول عام 1995 ارتفعت مساهمتها إلى 79 ٪ .
وإجمالي قيمة ناتج المشاريع الريفية في القطاعات الصناعية لم يكن يمثل سوى 9 % من الاجمالى الوطني في عام 1978، وبعد ما يقرب من 20 عاما، ارتفعت المساهمة إلى نحو 58 % في عام 1999. و عليه لم تعد الصناعات الريفية مجرد ملحق بالإنتاج الزراعي؛ بل أصبحت محركا أساسيا في النمو الاقتصادي للصين و على الرغم من تراجع دورها نسبيا في الوقت الراهن إلا انها لازالت من ضمن رافعات الاقتصاد الوطني للصين، فماهي العوامل الكامنة وراء نجاح تجربة التصنيع الريفي عبر مشاريع TVEs؟
ثانيا عوامل نجاح التصنيع في المناطق الريفية الصينية:
عدة نظريات وضعت لتفسير نجاح التصنيع الريفي، فهناك نظرية الثقافة Culture theory والتي أكدت على دور الثقافة التعاونية cooperative culture بالقرية الصينية في تعزيز تنمية المؤسسات الريفية، وهناك نظرية النمو الجديدة التي أوضحت أهمية العوامل الخارجية الايجابية الناجمة عن تراكم المعارف ، و رأس المال الاجتماعي في تعزيز النمو المستدام.
كما ركز البعض على أهمية حقوق الملكية في تعزيز النمو السريع للمؤسسات الريفية، و الدور الايجابي للحكومات المحلية، فالحكومات المحلية ساعدت المؤسسات الريفية لتتمكن من الوصول إلى الموارد المالية والمادية ، وعلى الرغم من سلامة كل هذه التفسيرات إلا أن عوامل نجاح التجربة متعدد و أكثر تنوعا و يمن حصرها في:
1- تراكم رأس المال: في المناطق الريفية خلال السنوات الأولى للإصلاح، كان نتيجة مباشرة لعاملين :الأول :تراجع استراتيجية التنمية القائمة على تشجيع الصناعة الثقيلة ، و رفع أسعار المنتجات الزراعية مما ساعد على توفير عوائد مالية مهمة. الثاني : كان لتنفيذ نظام مسؤولية الأسرة في الزراعة بالمناطق الريفية، أثارا مهمة في استعادة المزارعين لحوافز العمل وهو ما رفع من وثيرة الإنتاج الزراعي والدخل في النصف الأول من الثمانينات.
هذين العاملين أسفرا عن زيادات كبيرة في المدخرات الريفية، فإجمالي الودائع في عام 1993 كان أكبر26 مرة عن العام 1978، فالنمو الأولي للمداخيل النقدية وتراكم رأس المال في المؤسسات الريفية، كان مصحوبا بسوق كبيرة للسلع الاستهلاكية الأساسية، والتي تركت شاغرة لوقت طويل نتيجة لإستراتيجية التنمية المتبعة قبل عام 1978. فالهيكل الصناعي الصيني قبل 1978 تميز بهيمنة الصناعة الثقيلة، فالاستثمارات العمومية كانت تتجه نحو الصناعات الثقيلة بينما تم إهمال الصناعات الخفيفة، فأقل من 10 % من الاستثمار كان موجها لمنتجات الصناعة الخفيفة في الفترة مابين 1952 و1978، وهو ما نجم عنه نقص حاد في السلع الاستهلاكية.
و مع اعتماد الإصلاح وسياسة الباب المفتوح في أواخر السبعينات و أوائل الثمانينات، وارتفاع الدخل في كل من المناطق الحضرية والمناطق الريفية في الفترة من 1978 إلى 1992 ، ازدادت نفقات الاستهلاك بمعدل سنوي بلغ في المتوسط 6،5 %و 5،8 على التوالي ، وهي معدلات أعلى بكثير عن معدلات النمو في الفترة من 1952 إلى 1977 (1،8 % و 3،0 % على التوالي) . فارتفاع النمو في الطلب على السلع الاستهلاكية خلق فرصة مثاليه لنمو وتوسع الصناعات الريفية.
أما بالنسبة لقنوات التمويل، فالمؤسسات الريفية اعتمدت بشكل أساسي على ادخار الأسر والاقتراض من الأسواق المالية غير الرسمية، بينما دور القروض المصرفية الرسمية ظل هامشيا. وفي المراحل الموالية لتطور و توسع هذه المشاريع ، لعب الاستثمار الأجنبي المباشر دورا محوري في تمويل التصنيع في المناطق الريفية بالصين فبالرغم من أن تدفقات الاستثمار الاجنبى المباشر لم تكن تتعدى 263 مليون دولار في العام 1978، لكن بحلول عام 1997 وصل حجم التدفقات إلى أزيد من 64،4 مليار دولار، وجزءا كبيرا من الاستثمار الأجنبي المباشر ذهب لتمويل الشركات بالمناطق الريفية وخاصة بالمقاطعات الساحلية.
2- الهيكل الصناعي: الهيكل الصناعي للمؤسسات الريفية انعكاس لميزة المناطق الريفية في الصين، و التي تتميز بوفرة اليد العاملة بينما تعاني من محدودية الأرض والموارد الطبيعية ورأس المال، ومن خلال المقارنة الدولية يظهر أن الميزة النسبية للريف الصيني تقع في الصناعات كثيفة العمالة. فالمناطق الريفية تتوفر على مخزون من رأس المال يقل بكثير عن ماهو متاح للمدن، لكن بالمقابل يتوفر الريف على يد عاملة أكثر من المدن. فمشاريع TVEs إعتمدت أكثر على الاستخدام الكثيف للعمل مع توظيف أقل لرأس المال، مقارنة بالمؤسسات المملوكة للدولة في المدن.
3- دينامكية الملكية: خلافا للمؤسسات الصناعية في المناطق الحضرية، التي تهيمن عليها الملكية العامة، فالصناعة الريفية في الصين تتسم بتعدد أنواع الملكية، لكن نمط الملكية الغالب هو ملكية الحكومات المحلية للمؤسسات الريفية، فالعلاقة بين الحكومة المحلية والملكية ونجاح المؤسسات الريفية، كانت محور اهتمام أكاديمي واسع النطاق، وذلك لتفسير لماذا نجحت المشاريع المملوكة للحكومات المحلية في تحقيق هذا الأداء الجيد.
ففي المراحل المبكرة من الإصلاح بالمناطق الريفية، ارتفع بالتدريج عدد الشركات الخاصة، كنتيجة للإلغاء الرسمي لنظام “الكميونات” و انطلاق الإصلاحات التي مست المؤسسات العمومية بالوسط الحضري في عام 1984، وهو ما شجع القطاع الخاص بالوسط الريفي على خلق المشاريع الريفية.
4- تشابك العلاقات مع الصناعة في المناطق الحضرية: التصنيع في المناطق الريفية استفاد منذ البداية من حركة التصنيع بالمناطق الحضرية، وتمثلت هذه الاستفادة في بداية عملية التصنيع الريفي في نقل التكنولوجيا من الصناعة بالمناطق الحضرية إلى الصناعات الريفية، لكن مع نهاية الثمانينات، نقل التقنية من المناطق الحضرية إلى الصناعة الريفية بدأ يتخذ مسارا آخر. إذ بدأت المشاريع الريفية تقيم علاقات شراكة وتعاون مع المناطق الحضرية وهو ما شكل قناة رئيسية لحصول المؤسسات الريفية على التكنولوجيات الجديدة، و جزء من العلامات التجارية التي تغزو الأسواق العالمية، هي نتاج لمشاريع TVEs، لا سيما في ميدان السلع البيضاء كالثلاجات و الغسالات….
لذلك، فان الإصلاح الزراعي الذي شهدته الصين بعد 1978، وتشجيع التصنيع الريفي يمكن اعتبارهما الشرارة الأولى التي حفزت نمو وتوسع الاقتصاد الصيني، وولدت ما يسمى ب “عدوى التنمية”، و التي عمت باقي قطاعات الاقتصاد الصيني، واتسعت لتشمل مناطق جديدة في الصين.. فالاقتصاد الصيني لم بعتمد في نموه على الفقاعات المالية و المضاربة، و الاستثمارات الأجنبية بالدرجة الأولى، فدور هذه الاستثمارات كان في المراحل الموالية، فالادخار الريفي و تراكم رأسمال تشكل من مصدر زراعي تم تحول للاستثمار في الأنشطة غير الزراعية بالريف، و اعتمد على الميزة النسبية للصين وهي وفرة اليد العاملة، وهو درس على بلداننا أن تستوعبه، فالاعتماد على الذات و التفكير من خارج الصندوق، و توظيف المتاح من الإمكانيات البشرية والمالية، يمكن أن تشكل البديل العملي للخضوع المهين و المدمر، لوصفات و إملاءات المؤسسات المالية الدولية التي تهدم أكثر مما تعمر.. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…