
عندما يموت الأنا الأعلى... يهيمن الهو الأعلى

يعاني الكيان الإنساني في العالمين الوضعيين التابع و المتبوع الكثير من الأمراض الفتاكة التي توارثها عبر الأجيال جراء الإهمال الممنهج الذي يحاصر كل دعوة لإدراك الذات بكل أبعادها الواقعية و المثالية و الاجتماعية، و الاعتماد عليها في قيادة انتفاضة على الجمود الفكري و كسر القيود المكبلة للبحث العلمي و التحرر الحضاري و تقوية اليقين بكونهما السبيلين السليمين لتجاوز الصعاب و إعداد العلاجات القوية لكل المصائب و الآفات التي تطال هذا الكيان.
آراء أخرى
و إذا كان لهذه المعاناة من أثار صعبة و عامة في حياة التابعين فالواقع يختلف، حيث يستطيع المتبوع و المتبوعين على السواء، إلا أن الأمر على مستوى التحكم في التابع، استغلال صعوباته فيحوله إلى مستهلك طيع و خاضع بشكل ما و مدمن لإرادته المتسلطة على كافة مظاهر و مكامن الحياة الإنتاجية، فلا تستطيع أفكار العالم التابع القول بقوة علمها أو فكرها أو تحرر و استقلالية قرارها الاقتصادي أو السياسي أو تماسك مكونات نسيجها المجتمعي فبالأحرى امتلاكها لوسائل التكافؤ و التوازن النووي أو التكنولوجي لحماية كيانها، و هذا يجعل استقرار الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية رهينا بمدى انضباط التابعين للمتبوعين.
و إذا كان الأمر هنا بارزا في العلاقة ما بين الدول على الصعيد العالمي، و بين التابعين منها و المؤسسات الاقتصادية و المالية العابرة للقارات، و التي لا تقبل بأي وجه كان تحرر قطر من مديونيته لها، بل هي أصبحت تتحكم ليس في تعيين رؤساء الدول و الحكومات و الانتخابات و صياغة الدساتير و تصنيع النخب و المشاهد المسماة بالديمقراطية، فإن من ويلات هذا الاحتلال الجديد التحكم في أنفاس المرء كمجال حيوي و تشكيل أنساقه البيوعصبية و النفسية و الاجتماعية و الثقافية و البيئية و الزمنية بكل المدخلات التربوية و الصحية و السياسية و الاقتصادية و المالية و القضائية و الفنية و الرياضية و الثقافية و الدينية و المدرسية و الإعلامية و القانونية، لا تمت للنمو و لا للفطرة السليمة و ما تتطلبه من عناية بأية صلة.
إنها وضعيات تفسح الأبواب واسعة لكل فرد يتطلع إلى حماية فرديته من إمكانية السباحة في محيطات النصب و التحايل على العيش و لو تطلب الأمر التضحية بعزته و شرفه و كرامته و إنسانيته، فلا قيم و لا أخلاق و لا قوانين و لا ديانات يمكنها أن تحول دون مصلحته الفردية المؤطرة بهيمنة الهو الداخلي و الهو الخارجي العابر للقارات، و الذي يسجن الذات في دهاليز الصراع بين ضمير المتكلم الذي يمثل الذات كفاعل Sujet ، و بين الهو الذي يحاصرها في نطاق المفعول Objet . و هو المتمثل في السموم التي يمررها عبر المدخلات السالف ذكرها لتطال كافة أنساق المجال الحيوي للفرد عبر النسق الاجتماعي بغرض تكريس فرديته و عدم انتقاله إلى شخصية غير قابلة للقولبة، لأنها تمتلك كل شروط الدينامية المؤمنة إلى تحقيق الذات عبر تحيين Actualisation طاقات الابتكار فيه و التحلي بالتلقائية.
إنها مدخلات التنميط و التدجين و التسطيح التي تحول دون قدرة المرء على التفكير أو حتى الكلام بأسلوب يختلف عن ذلك الذي نمط عليه، فعندما يقوم الباحث بعمل استطلاعي في أي موضوع من المواضيع أو يحضر فيه ندوة من الندوات كثيرا ما يصدم بمعاناة المتصل بهم من التصدعات و الاضطرابات التي تطال الأنساق المكونة لمجالاتهم الحيوية عبر الوظائف التجريبية التي تخطط و تبرمج و تنفذ عبر تلك المدخلات، بغرض الحرص على إعدام الشخصية و ما تتميز به من سمات و خصوصيات و استقلال و تكريس الفرد المؤطر بالهو الذي يحول دون إدراك الاختلاف بينه و بين فرد أخر، و هو ما يسهل عمليات التنشئة و تحول الفرد الأدمي إلى مجرد رقم قد يكون متاعا في مرحلة الطفولة، و قد يعتبر مشكلة و مصدر إزعاج في فترتي المراهقة و الشباب، و قد يتحول إلى عالة عندما ينحدر إلى فئة كبار السن.
وفق هذا النهج الهيمني، تحول ما يسمى بالأبحاث و الدراسات التي تعدها ما يسمى بمكاتب الدراسات الارتزاقية عبر الصفقات العمومية و الخصوصية المشبوهة، و كذا ما يسمى بالخطط المتخفية وراء المصطلحات المثيرة مثل الحداثة و الحكامة و العرضاتية و التنمية البشرية و ربط المسؤولية بالمحاسبة، و ما تفرزه من تقارير نمطية لقطاعات حكومية أو شبه حكومية أو تلك التي تدخل في ما يعرف في بعض الدساتير بالمؤسسات الاستشارية، ففي تقرير واحد يستطيع تنحية تسمية معينة ووضع تسمية أخرى و يتم تقديمه للاستهلاك الإعلامي المنمط و الإلهاء السياسوي و الحزبوي بغرض تعميق التدجين و التسطيح و تكريس هيمنة الهو الداخلي و الهو الأعلى.
عندما يعود الباحث لقراءة تلك الدراسات و التقارير التي ترفعها العديد من أجهزة الإلهاء أو امتصاص الغضب أو تقديم درائع الامتهان و التبخيس أو تبرير الهجوم على الفتات المتاح من رمق للحماية من الانقراض ولتأمين استمرار الهيمنة و الاستغلال، كما هو حال التقارير المتعلقة بنظم التقاعد و التغطية الصحية و التربية و التكوين و الطفولة و السجون و الجريمة و نظام الأسرة و الإسكان و الصحة و الشباب و التميز ضد النساء.
و إذا كان من أعظم ما يتطلع إليه الباحث في الظاهرة الإنسانية هو الإدراك العلمي المتجدد للمرء، والإسهام في تمكينه من الاقتدارات الفكرية و العلمية و الإبداعية المركبة و المهارات التقنية و الاجتماعية لتيسير ولوجه السليم للحياة و تصنيعها و الإسهام في قيادتها بقيم حضارية جديدة، و اعتماد مناهج و برامج و أرضيات جديدة، غايتها مكافحة الهو الأعلى الذي قتل الأنا و انقلب على الأنا الأعلى و طرده من كافة الأسر و المدارس و الجامعات و من المؤسسات السياسية و الاقتصادية و السوسيوثقافية و الإعلامية، بل طرده حتى من البياع و الكنائس و المساجد.
هذا المأزق الذي يعانيه الباحث الأكاديمي يصعب إدراكه من قبل المشتغل المنضبط للنمطية الخدمية التي كثيرا ما يحضر فيها الكلام و السمع و البصر، فبالأحرى التساؤل المركب. إنه في أحضان مسيرة الشقاء بالذهن من أجل الرؤية النيرة الشاملة و الغريزة من أجل الرؤية النيرة الشاملة و الغريزة بثراءات العطاءات المتجددة، من أجل الإدراك العلمي للإنسان و للحقيقة و للواقع و للأشياء و للكون برمته.
إن مسؤولية الباحث هي تيسير القدرات على رؤية ما بين الأشياء و الأفكار الديالكتيك. إنها مهمة رؤية للحقيقة بكل أبعادها المتكاملة و المتناقضة والمتحولة، و منها الوحدة و الصراع و التوازن و الحركة المستمرة و التغير الدائم. إنها مهمة إدراك الوجود الإنساني المركب الذي يصعب التواجد الفعال للحياة بكل مقوماتها في غياب أحضانه التي عبرها ينتقل الكائن الإنساني من خانة الفرد إلى دائرة الشخص الذاتي القوي على الإسهام في بناء الشخص المعنوي الخاص و العام…بمعنى المرء و الجماعة المرؤوية التي توجد في كل امرء ووجود المرء داخلها.
إن الشخصية المروئية الحقة لا تنمو و تتقوى على دروب الفكر و الإبداع و العلم و لا تتواجد و تنتج و تشارك إلا في أحضان الشخصية المروئية المعنوية، خاصة كانت أم عامة بعيدا عن التنميط و قبولا بالاختلافات في الميولات و الاتجاهات و المقومات السوسيوثقافية و التركيز على إدراكها في تحقيق التواصل الفعال و توظيفها في التكامل الحضاري البناء و المتخلص من كافة صنوف الحقد و العدوان و التمييز بكافة أشكاله.
إنه تكامل المختلفين في سبيل صياغة متطلبات الوجود المنتج عبر تقوية الشخصية المروؤية المعنوية المتسمة بالتماسك الحريص على حماية خصوصية الشخصية الذاتية و إنمائها، من خلال توسيع و تعدد رحاب الإبداع و التفكير و التعبير و كل مستلزمات الأمن النفسي و السوسيواقتصادي الذي لا مكانة في الظلم أو الإقصاء أو حياة القطيع أو هيمنة الهو أو الهو الأعلى بقناعة مفادها أنه من الصعب على المرء استشعار شخصيته و إدراكاته الحرة و المستقلة إلا من خلال حضوره داخل الشخصية الإنسانية المعنوية، لأن تفكيره و إبداعاته و كل ما يعبره عنه هو و رسائل و نداءات موجهة إلى الأخرين، فإذا انعدم هؤلاء اندثرت شخصيته و تلاشت أناه و تقلص منسوب تفكير و اقتدارات و مهارات ولوجه للحياة و تصنيعها و الإسهام في قيادتها.
و إذا كان هذا الأمر قد عرف و يعرف عدة تباينات عبر التاريخ الإنساني، حيث يلامس الباحث ببساطة هذا الأمر في الحقب المتقدمة التي تدل بعض مظاهرها على بداية التمايز و التكامل، إلا أن النظر إلى حركة التاريخ لا يتم بكيفية جيدة إلا من خلال رصد مستوى دينامية علاقات الإنتاج و ديالكتيك المرء الإنساني و الجماعة الإنسانية.
لم يعد أي باحث في الظاهرة الإنسانية يقبل بأي علاقة المرء بالجماعة علاقة انصهار و اختلاط، فلا تعريف له و لا هوية إلا بالجماعة الإنسانية التي ينتسب إليها، و التي لا قيمة له و لا حضور عندما يكون خارج أحضانها. فالجماعة حسب هذا الإدراك هي الأصل و المرء مجرد ممثل لها، و هذا يعبر عن هيمنة الخلط و الامتزاج و انعدام التفاضل التي كانت تطال غالبية الجماعات في العصور القديمة عكس العصر الوسيط الذي كان مبدعا للفردية التي تختزله الجماعة في كيانها الفردي و المتمثلة في السيد أو الرئيس أو الملك أو الزعيم الذي يعتبر هو القبيلة أو الشعب أو الأمة، و هو وعي ما يزال يعرف امتدادات تتجلى في الحكم الفردي، و في أحسن الظروف نجد الأمر ينتقل إلى النخبة أو الصفوة أو الثلة أو الطبقة التي تنصب كيانها على أنه ضمير المجتمع و طليعته، فهي القادرة المقتدرة و الجماعة المرجعية و مركز التفكير و تصنيع القرارات و صيانة التوازنات و من كيانات يعود ميلادها و نشأتها و تطورها إلى الأفكار و المعاملات و العلاقات الإنتاجية الظالمة، و ما تولد عنها من طبقية و ظلم و تسلط على وسائل الإنتاج، و استحواذ على الثروات و احتكار المعارف و العلوم و توظيف النسب و الدين في هيمنة الاستبداد، و هو ما هللت و تهلل له العديد من الكتابات المحسوبية على البحث في علوم الحقوق و الحريات التي تكرس على نحو بازغ أو مقنع عن التطلعات الاستبدادية التي تحرص على استمرارية تخلف الإدراك لدى المروؤية الذاتية أو المعنوية لتقوية هيمنة الهو الداخلي المتمثل في الفرد الإنساني أو الهو الأعلى المتمثل في هيمنة السوق كمحتل جديد بعد قتله للأنا و اغتصابه لاختصاصات الأنا الأعلى – نستسمح فرويد و الفروديس على هذا الاقتباس- .
إن الهو الأعلى الذي يعبر عن البناء النفسي لفرد أو ثلة Oligrachy التي كثيرا ما تنحدر من سلالات تتحكم في موازين القوة و تستطيع توظيف سطوتها في تكوين قيم مضادة و متناقضة منها المال هو كل شيئ و الإنسان ذئب لأخيه الإنسان. فالمال أهم من المروئة، إنه يقوي البعض دون البعض و يسهم في تمزق النسيج الاجتماعي و يسود الهو الأعلى المتمثل في هيمنة الشهوات على الاقتصاد و السياسة و الدين و التربية و التعليم و البحث العلمي و الإعلام و القضاء و الفن و الثقافة، فينتشر الفساد و يسود الظلم و يقمع التمرد ضد جشع الهو الأعلى، فيتم قمعه بكل وسائل الترهيب بالإضافة إلى امتصاصه عبر لهايات التسلية و الخطابات التوهيمية المتعددة المصادر، و بتوسيع نطاقات المقامرة و الاقتراض الاستهلاكي و كل صنوف التحايل على العيش الذي تتوسع الجهود الإبداعية فيها بغاية التطبيع مع الفساد و الظلم و الاقتناع بهما كقيم اجتماعية يفرضها الواقع المعبش الذي يجب الخضوع له و ليس إخضاعه و علاجه و تغييره إيجابيا.
لقد أصبح الهو الأعلى هو كبير المجتمع. إنه الرأس بالنسبة للجسم الإنساني الذي يختص العقل و الجهاز العصبي المركزي و الجهاز العصبي اللاإرادي، فهو المتحكم في كل أطراف الجسم، و يفرض على المرء الإقامة الجبرية في حدود كيانه البيولوجي و الفزيولوجي و يروضه على القبول الطوعي بالتنازل عن مروؤيته لفائدة امرء أخر أو لجماعة ليس لكونه أفضل منه علما و خلقا و مردودية حضارية، ولكن لأنه أقوى منها مالا و يستطيع أن يشتري الذمم، و أن يكيف النظم و القوانين و يهيمن على الإعلام و التعليم و أسواق المال و الأعمال و يحاصر فرص الشغل مرتديا أقنعة الزعامة الملهمة و القيادة النزيهة و الحكم بأمر الله.
فالهو الأعلى لا يمكن استشفافه كتصرف معزول في قطر من أقطار العالم التابع، بل هو النهج الذي يعتمد من قبل الدولة العميقة العابرة للقارات للسطو على مقدراتها و إفراغ أناسها من إنسانيتهم. و الخوف كل الخوف هو أن الحاملون لشعارات استثباب ما يسمونه بالعدالة الاجتماعية المتمثلة في حصول المرء على قدم المساواة على فرص لبدل جهود في عمليات الإنتاج السوسيواقتصادي قد يتحولون إلى مجرد خدم للهو الأعلى، يوظفهم في تحقيق ملذاته التي لا تأبه بالفكر و البرمجة على حساب الكائنات المحاصرة في سجون الاحتياجات البيولوجية، و التي يرغمهم البحث عن إشباعها على التواطؤ مع حملة تلك الشعارات سواءا بالصمت و عبر الإدلاء بالصوت فيما يسمى بصندوق الاقتراع ، و عبر هذا يتحول و يتوطد استبداد الهو الأعلى.
إذا كان من غير المقبول القول بالوساطة و التمثيل و القبول بتدبير الشأن العام، بل الدعوة تصبو نحو تصنيع القرار السياسي و التقرير في الشأن العام على قادة التشارك. و انطلاقا من المشروع المجتمعي الذي يستمد مشروعيته من الناس الأقوياء على تحضيره و مناقشته و إعماله و تطويره، و الذي لا يعتبر الحزب حزبا و لا الانتخابات استحقاقات و لا الديمقراطية تعاقدا من أجل التمكين الإنساني باشتراطه كمعيار أساسي لتأسيس الأحزاب، و الذي يجب أن تتسع الحريات بشأنه، فقد يصعب الانتقال بالمرء الإنساني من خانة الفرد إلى رحاب الشخص بالتعويل على ما يسمونه بالصفوات أو النخب التي أثبتت عبر التاريخ الإنساني عدم قيمتها لأنها مجرد أدوات وسيطة متصوفة في خدمتها للهو الأعلى و لو تطلب الأمر جلد ذواتها.
إذا كان من الصواب القول بأن العالم محيطنا المشترك يجب التفكير بمصيره على مستوى البحث العلمي التقني المتجدد باستمرار العمل بما يصلح بأسه على مستوى التطبيق و التقييم و التطوير بالتركيز على الوطن كبيت مشترك، فإن هذا الصواب لا يمكن حصره في الحرص على البقاء و الحماية ضد الانقراض، بل إن تأمين صدقيته على أرض الواقع تستدعي التركيز على بناء الشخص المروئي الذاتي و المعنوي للبقاء إلى رحاب الوجود الحضاري الفعال.
إن الأمر يتطلب تحرر الجميع من صنوف اللهث وراء أحداث تتسارع وثيرتها بقوة تعجز أذهاننا و مؤسساتنا و أجهزتنا عن إدراكها عبر الملاحقة و المتابعة و الفهم و التحليل و التفسير، فيتحتم على صدرونا و تكتم أنفاسنا بقدر لم نكن نتوقعه أو ننتظره. فالحذر ثم الحذر من استتباب الهو كذوات و أن نستمر و نتطبع مع هجمات الهو الأعلى. هذا الطوفان الذي قتل القيم النبيلة و قتل الطموح المشروع و أنتج العبوديات الجديدة المتمثلة في الاتجار بالبشر و اتساع صنوف الجهل و طمس الأعين و انسداد الأفق. إنه الطوفان المدمر. فلنتقي فتنة لا تصيب الذين ظلموا منا خاصة.