
الواقع السياسي في المغرب وعوامل نمو وبروز حركات الإسلام السياسي

في المغرب منذ قرون تشكل المخزن كسلطة مركزية حاكمة. يرمز تاريخيا منذ حكم السعديين إلى مخازن الضرائب العينية التي تستخلصها إدارة وأعوان السلطان من الأفراد ومن القبائل. والمخزن سياسيا مصطلح خاص بالمغرب يَدُلُّ على مؤسسة حكم تقليدي يتألف من مؤسسة السلطان والبرجوازية الكمبرادورية والأعيان والملاكين الكبار للأراضي وزعماء القبائل الموالين للسلطان والقياد وكبار العسكريين ومُدراء ورؤساء الأمن يترأسهم السلطان كحاكم مطلق السلطات.
آراء أخرى
ويمارس الملك اليوم حكمه عبر مؤسسة الديوان الملكي وزارة الداخلية ومؤسسة الولاة والعمال والقياد والشيوخ والمقدمين ومديرية الشئون العامة وأجهزة الأمن (المديرية العامة للأمن، قوات التدخل السريع، القوات المساعدة) والمخابرات ومؤسسة الجيش.
وتشكل وزارة الأوقاف و المجلس العلمي الأعلى (الإسلامي) الذي يتألف من فقهاء إسلاميين موالين للمخزن المؤسسة الإيديولوجية لشرعنة الحكم والنظام السياسي.
طبيعة النظام السياسي في المغرب و الواقع الحزب
تشكلت أُسُسُ النظام السياسي المغربي الراهن، لحظة الاستقلال الشكلي، على أساس مفاوضات “إيكس ليبان” الشكلية وإعلان “سل سان كلود” الذي منح المغرب استقلالا شكليا وأرسى أسس الاستعمار الفرنسي الجديد في المغرب بحماية المصالح الاقتصادية الفرنسية.
وسيبدأ إثر هذا الاستقلال الشكلي فرز طبقي سياسي وتناقضات داخل مكونات الحركة الوطنية، “حزب الاستقلال” و”حزب الشورى و الاستقلال” و”الحزب الشيوعي المغربي” وجيش التحرير. وهو الفرز الذي أدى سنة 1959 إلى انفصال يسار الحركة الوطنية عن حزب الاستقلال بتشكيل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية واستفراد المؤسسة الملكية بالحكم بعد إسقاط حكومة عبدالله إبراهيم في 21 ماي 1960 والتي كانت قد تشكلت في 24 ديسمبر 1958.
وأصبح التناقض والصراع على السلطة أكثر جلاء و وضوحا بين المؤسسة الملكية قائدة البرجوازية الكمبرادورية الناشئة والفلاحين الكبار (الإقطاع) و مصالح الاستعمار الجديد الفرنسي وبين قوى المعارضة اليسارية التي انبثقت من داخل قوى حركة الاستقلال الوطني والمقاومة الوطنية وجيش التحرير والتي عارضت و قاومت السيطرة الاستعمارية الجديدة الفرنسية والإسبانية بعد الاستقلال الشكلي سنة 1956. وهي معارضة ومقاومة شكلها الجناح اليساري الراديكالي المتبلور داخل الحركة الوطنية و جيش التحرير والحزب الشيوعي المغربي، ثم سينضاف إلى الصراع على السلطة اليسار الماركسي-اللينيني بعد تشكل تنظيماته “23مارس” وإلى الأمام” سنة 1970 و”لنخدم الشعب” سنة 1971. وهو صراع دام لمرحة أكثر من ثلاثة عقود (من إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم إلى موافقة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على دستور 1996 وتنصيب عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أولا في فبراير 1998).
أفرزت هذه المرحلة واقعا سياسيا خططت المؤسسة الملكية والمخزنية لصياغته وبَلـْـقــنَـتِـه وتشتيته منذ سنة 1959 بخلق أحزاب إدارية صورية كـ”الحركة الشعبية” ثم “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية”. ومنذ تأسيس هذين الحزبين الإداريين لا زالت صناعة الأحزاب الإدارية مستمرة. وتتمثل اليوم في التجمع الوطني للأحرار وغيره وصولا إلى تأسيس “حزب الأصالة والمعاصرة” من طرف صديق الملك محمد السادس فؤاد عالي الهمة، الذي شغل منصب الوزير المنتدب في وزارة الداخلية قبل أن يشكل “حركة كل الديمقراطيين” التي ستتحول إلى “حزب الأصالة والمعاصرة” في 9 غشت 2008.
واليوم يشهد الواقع الحزبي تحولات إيديولوجية وسياسية بالنسبة لبعض الأحزاب “اليسارية”، “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” و”التقدم و الاشتراكية”، وهي تحولات تمثلت في تخلي قياداتهما اليوم عن تصوراتها الديمقراطية و”الاشتراكية” وعن تقاريرها الإيديولوجية اليسارية التي تأسست على أساسها، واندمجت في بنيات النظام السياسي المخزني التبعي. وتشكلت “فدرالية اليسار الديمقراطي” من “الحزب الاشتراكي الموحد” و”حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي” و”المؤتمر الوطني الاتحادي” بعد تجميد “تجمع اليسار الديمقراطي”. ورَفَضَ “النهج الديمقراطي” الانتماء لـ”فدرالية اليسار الديمقراطي” لأنها أرادت فرض شروط ثلاثة على “الملكية البرلمانية والانتخابات والصحراء” على كل حزب أراد الالتحاق بـ”فدرالية اليسار الديمقراطي”!!
وحقيقة الأحزاب المخزنية أو الإدارية هي أنها لا تملك رؤية سياسية ولا مشروعا مجتمعيا واضحين ولا برنامجا سياسيا مرحليا واضحا أو برنامجا بعيد المدى واضح. فتصورها وبرنامجها هو ما تبلوره المؤسسة الملكية من قرارات وبرامج ومشاريع ممارسات ولا تعمل قيادات هذه الأحزاب، وحتى بعض الأحزاب مثل حزب الاتحاد الاشتراكي و حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، سوى على مباركة ما يقرره الملك والتصفيق مقبل امتيازات الوظائف السامية ودعم مادي.
ويلجأ المخزن لصناعة أحزاب جديدة موالية للقصر في كل مرحلة من مراحل الصراع السياسي كلما بدأت تضعف وتتآكل الأحزاب الإدارية القديمة وتسير نحو الاندثار. في هذا السياق تم تشكيل “حزب الأصالة والمعاصرة” للتحكم في الواقع الحزبي والسياسي. ومعروف أن هذه الأحزاب تتلقى الدعم، بشكل مباشر أو ضمني، من طرف أجهزة وزارة الداخلية ولها وظيفة إشهارية لنظام المخزن وإخضاع المجتمع له. كما أن هذه الأحزاب الإدارية القديمة تنتج في بعض الأحيان خطابا “نقديا” للأوضاع عندما ينتقدها المخزن ويتخلى عنها والإدارة و وزارة الداخلية، ومع ذلك لم تتغير طبيعتها الإدارية وتوظيفها لمواجهة القوى السياسية والنقابية والمدنية اليسارية الديمقراطية الحقيقية والحركات الاحتجاجية الشعبية والإضرابات العمالية، كما توظفها السلطة في نشر الالتباس والشعبوية واللا وعي والجهل في الواقع السياسي والاجتماعي.
إنه واقع سياسي عبثي، واقع تتحكم فيه من خلف الستار مؤسسات وقوى المخزن غير منتخبة وحاضرة بإمكانيات مالية وإدارية كبيرة وبتأطير سلطوي وبإدارة المؤسسة المخزنية السياسية والدينية والرمزية، عبر شبكة علاقات اجتماعية وسياسية يتحكم فيها المخزن. ويبدو هذا الواقع السياسي كأنه قدر لا فكاك منه: مؤسسة ومركب وزارة الداخلية والولاة و العمال و القياد و الشيوخ و المقدمين و فقهاء المجلس العلمي الأعلى الديني والزوايا الدينية…
لذلك كانت مهمة أحزاب المخزن ومؤسساته هي القضاء على ما بلورته “حركة 20 فبراير” من نهوض جماهيري ديمقراطي طـَـالبَ بنظام سياسي ديمقراطي.
في هذا الإطار لم يَمَلّ رئيس الحكومة السابق ورئيس “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي السابق، عبد الإله بن كيران، من قول وتكرار بـ”أنه هو وحزبه من حافظوا على استقرار البلاد”، و”أنقذوا البلاد من الفتنة” حسب زعمهم، عندما خرجت جماهير “جماهير 20 فبراير” إلى الشارع مطالبة بالديمقراطية وإسقاط الاستبداد والفساد. وبالطبع كان يعني صراحة استقرار سلطوية النظام السياسي المغربي لأن هذه السلطوية هي التي مهدت له الطريق وهيأته لمرحلة ما بعد تجاوز عاصفة “حركة 20 فبراير” لأن سلطوية النظام السياسي تتوافق مع مشروعه السلطوي الإسلاموي. لذلك لم يتوقف موقف وخطاب الحكومة السابقة ورئيسها عبد الإله بن كيران، من 2012 إلى تنحيته، وأمين عام سابق لـ”حزب العدالة والتنمية”، عن ترسيخ سلطوية المؤسسة الملكية واستفراد الملك بالقرار السياسي.
من “حركة 20 فبراير” إلى حراك الريف وجرادة و غيرهما
شكل نضال “حركة 20 فبراير” منعطفا سياسيا نوعيا في تاريخ المغرب برفعها شعار “إسقاط الاستبداد وإسقاط الفساد” وقد زلزل نضال الحركة أسس النظام السياسي الذي أصبح يبحث عن أسلوب لاحتواء هذا الزلزال السياسي والاجتماعي الذي يهدد استمراره. غير أن هذا الشعار بقدر ما يحمل جانبا أساسيا من النضال الديمقراطي العام، الذي خاضته وتخوضه القوى الديمقراطية واليسارية الحقيقية بقدر ما، يكتنفه الغموض وعدم الدقة سياسيا في الهدف السياسي المُرَادُ تحقيقه وفي الخطة السياسية الكفيلة بتحقيق هذا الهدف؛ لأن ممارسة التغيير السياسي الديمقراطي تتطلب وضوحا في التصور السياسي والبرنامج والهدف والشعار الرئيسي والهدف الأساسي والخطة السياسية المزمع السير على نهجها.
لكن التناقضات السياسية بين القوى الديمقراطية اليسارية التي انخرطت في “حركة 20 فبراير” حول البرنامج السياسي وأهداف نضال “حركة 20 فبراير” وعدم تبلور قيادة سياسية موحدة بين شباب “حركة 20 فبراير” والقوى اليسارية الديمقراطية والتناقض حول التحالف مع “جماعة العدل والإحسان”، كل هده التناقضات أثرت سلبا على القوة السياسية لـ”حركة 20 فبراير” وشتت وحدتها وأضعفت موقعها في الصراع السياسي آنذاك. مما مكن
لقد تراجعت واندثرت آمال شباب وجماهير “حركة 20 فبراير”، كحركة شعبية وطنية جماهيرية ديمقراطية، في تحقيق نظام سياسي ديمقراطي رغم استمرار روحها ومضمونها داخل الحركات الجماهيرية مثل “حراك الريف” و “حراك جرادة” و”موجة مقاطعة ثلاث منتجات استهلاكية” وغيرها من الحركات الاجتماعية الاحتجاجية التي تبلورت بعدها، لأن “حركة 20 فبراير” في الواقع لم تنتقل من حركة يحكمها عموما كثير من العفوية السياسية وقليل من التنظيم ، رغم أنها تحمل شعارات اجتماعية/سياسية وبرنامج مختزل، إلى حركة ديمقراطية جماهيرية لها قيادة سياسية ديمقراطية شعبية وطنية ملتزمة ومُطَـوِّرَة لتصور ولأهداف ديمقراطية ومتوفرة على آليات وقواعد منظمة تتجاوز تناقضاتها الثانوية و وَاضِعَةً حَدّاً سياسيا فاصلا مع النظام المخزني التبعي.
كما بين واقع حراك الريف وجرادة و “موجة المقاطعة” وغيرها أن تراجع لـ”حركة 20 فبراير” ليس سوى تراجعا ظرفيا لنضال الحركة الجماهيرية المطالبة بالديمقراطية عموما، ما دام الواقع لا زال حاملا للعوامل وللشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أنتجت “حركة 20 فبراير” وجماهيرية نضالها الديمقراطي.
لكن حراك الريف بين مرة أخرى أغلب أحزاب وقوى اليسار الديمقراطي الراديكالي ليست مُهَيَّـأة سياسيا وتنظيميا وثقافيا، وعيا وممارسة، للاضطلاع بمهام قيادة موحدة لحركات النضال الديمقراطي للجماهير الشعبية ولغيرها من الحركات الاجتماعية التي اقتحمت الشارع السياسي مما أربك حسابات السلطة السياسية التي تلجأ للقمع والاعتقال والمحاكمات لنشطاء الحراكات الاجتماعية، كما استمر حضور أغلب قيادات الأحزاب الديمقراطية اليسارية السياسية والنقابات في نضال الحراكات الاجتماعية ضعيفا إن لم نقل غائبا.
وكما أن حضور المثقفين الديمقراطيين واليساريين المغاربة “كتيار ثقافي وطني ديمقراطي” كان ضعيفا وغير مؤثر في مسار انتفاضة “حركة 20 فبراير” استمر غياب المثقفين في نضال الحراكات الاجتماعية الجديدة مما يُـفـْـقِد الحركة نسبيا في عمقها و”قيادتها” المفترضة الأثر الفاحص و النقدي سياسيا وثقافيا وفكريا لدينامية وفعل الحركة الجماهيرية الديمقراطية. إن واقع مجتمعنا يعيش عموما تناقضا مستمرا بين خطاب المثقف الديمقراطي واليساري وبين الوعي الثاوي والفعل الديمقراطي الاجتماعي العفوي للجماهير.
ولا نتفق مع الدكتور محمد سبيلا حين يؤكد أنْ “ليس من مهمة المثقف إن ينزل إلى الأزقة و الدروب، و يواكب المهرجانات و الاجتماعات، و يصرخ بأعلى صوته. بل إن دوره الملاحظة و التحليل، و فتح النقاش المعمق حول القضايا بروح نقدية اسـتشرافية، والمساهمة في عقلنة الرؤية والثقافة والممارسة” … ويضيف “…هذا ليس استقالة من التاريخ، بل حفرا في أعماقه البعيدة. (محمد سبيلا: “النخبة السياسية والنخبة الثقافية في مغرب ما بعد الاستقلال”).
يشكل حراك الريف وجرادة وغيرهما من تعبيرات الاحتجاج الشعبي التي يشهدها المغرب بعد أكثر من ست سنوات امتدادا لروح “حركة 20 فبراير”. لذلك أصبح الحكم والطبقة السائدة ونخبها السياسية يتخوفون من أن يمتد النضال الطبقي الجماهيري لحراك الريف وجرادة وغيرهما ليشمل جميع الطبقات الشعبية في مناطق أخرى من المغرب. وهذا ما دفع الحكم في المغرب إلى اللجوء إلى سياسة “العصى والجزرة”، ” القمع والاعتقال والمحاكمة و حوار الوعود وإعلان النوايا” في تعاملها مع الحركة الاجتماعية الاحتجاجية الجديدة. و تجلى واضحا ذلك في قمع احتجاجات الجماهير الشعبية واعتقال ومحاكمة نشطاء الحركات الاحتجاجية والتضامنية، واعتقال و محاكمة صحافيين واكبوا وكشفوا استبداد و فساد بعض المسئولين والإدارة والسلطة في مناطق عدة أهمها منطقة الريف وجرادة، وتندرارة، ومن جهة ثانية في “إحياء” مشروع “الحسيمة منارة الريف” وخطاب التهدئة و تحميل الطبقة السياسية والإدارة تردي الأوضاع الاجتماعية للطبقات الشعبية، بل وإعلان “فشل النموذج التنموي” من طرف رئيس الدولة في خطاب أمام البرلمان يوم 13 أكتوبر سنة 2017 وإقالة أربع وزراء وموظفين كبارلإدارتهم علاقة ما مع ما يسمى”مشروع الحسيمة منارة الريف”.
ورغم ذلك عرف النضال الجماهيري في الريف تطورا غير مسبوق دام لشهور بدءً من حادث وفاة بائع السمك محسن فكري في أكتوبر 2016. وأمام امتداد واستمرار النضال الجماهيري، الذي تحول في منطقة الريف إلى نضال ضد “الحكرة” وسياسة التفقير والإقصاء الاجتماعي، سيلجأ النظام السياسي من جهة إلى عسكرة المنطقة.
وانضاف للنضال الجماهيري الديمقراطي “حركة 20 فبراير” و”حراك الريف وجرادة” و غيرهما من الحركات الاجتماعية الاحتجاجية شكل نضالي جديد تمثل في حركة “المقاطعة الافتراضية ” التي زلزلت ثلاث مؤسسات إنتاج مواد استهلاكية ( “منتجات سنترال دانون” ، “محطات بنزين و غازوال إفريقيا” ، “ماء سيدي علي”).
وقد تبين أن الأوضاع الاجتماعية المزرية التي تعانيها الجماهير الشعبية في الريف وفي عدة مناطق من المغرب ليست ناتجة عن سوء التدبير الحكومي، رغم أن الحكومات المتتالية تتحمل قسطا مهما من المسئولية، بل هي سياسة مرتبطة بالطبيعة الطبقية للنظام السياسي ورأسماليته الكمبرادورية التبعية التي تخدم مصالح أقلية قليلة من المجتمع متمثلة في طبقة البرجوازية الريعية وفي مصالح الاقتصاد الرأسمالي الاستعماري الجديد الفرنسي خصوصا والإسباني والأمريكي.
وبالتالي لم تنتج هذه السياسة الاجتماعية و الاقتصادية منذ الاستقلال الشكلي سنة 1956 سوى تطور التخلف وتعميق الاستغلال الطبقي وتفقير وتجهيل جماهير الشعب المغربي وإقصائها الاجتماعي وتفشي البطالة في المجتمع والفوضى والجرائم.
إن واقع التخلف الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والثقافي الذي تعانيه الطبقات الشعبية يفند خطابات النظام السياسي ونخبه وإعلامه بادعاء أن المغرب يشكل استثناء في المنطقة المغاربية والعربية وتتوفر فيه شروط بلد صاعد اقتصاديا وبلد الانتقال الديمقراطي والاستقرار السياسي والاجتماعي.
لا بد من تسجيل تخاذل أهم قيادات المركزيات النقابية، وخصوصا “الاتحاد المغربي للشغل” (ا.م.ش) و”الكنفدرالية الديمقراطية للشغل”(ك.د.ش)، بعدم اتخاذ وممارسة موقف المشاركة في النضال الجماهيري للطبقات الشعبية منذ “حركة 20 فبراير” وصولا إلى حراك الريف وجرادة وغيره من الحركات الاجتماعية التي تستمر عفوية .. ويظهر أن لقيادة الـ ا.م.ش و الـ ك.د.ش موقف عزل البروليتاريا كأهم قوة اجتماعية نضالية منظمة مؤثرة بالنظر لموقعها في مسلسل الإنتاج في الصراع الديمقراطي السياسي والطبقي عموما عن نضال الحركات الاجتماعية العفوية. لذلك فرضت عدم مشاركتها كنقابات في انتفاضة ونضالات “حركة 20 فبراير” و الحركات الاجتماعية العفوية في الوقت الذي تم فيه إجهاض وضرب الحقوق النقابية الأساسية للطبقة العاملة، وفضلت ما يسمى “اتفاق 26 أبريل” 2011 التي قدمها لها النظام السياسي في عز تمنامي قوة وجماهيرية “حركة 20 فبراير”، وساهمت في آلية “التفرج” على عمل “لجنة دستور 2011”.
لقد شكل عزل النضال النقابي عن الانخراط في نضالات “حركة 20 فبراير” الحركة الاجتماعية الديمقراطية المناضلة أحد أهم العوامل التي أدت إلى حد مهم إلى عجز الحركة الجماهيرية الاجتماعية عن بلورة بديل ديمقراطي متماسك لتجاوز تناقضات القوى الديمقراطية واليسارية الراديكالية.
إن السائد في الواقع النضال السياسي الديمقراطي في المغرب، بعد تراجع نضال “حركة 20 فبراير” وقمع حراك الريف وجرادة وغيرهما من الحراك الشعبي الجماهيري هو التناقض بين الفعل الحزبي الديمقراطي واليساري من جهة وبين نضال الطبقات الشعبية العفوي.
عوامل نمو وبروز حركات الإسلام السياسي
إن هذا الواقع السياسي المغربي وانغلاق آفاق تغييره الديمقراطي وواقع اجتماعي سياسي شعبي متخلف ومأزوم هو الذي أفرز نمو وبروز حركة الإسلام السياسي ومهد لها الطريق منذ نهاية ثمانينات القرن العشرين، ومكنت القوى الإسلام السياسي، وخصوصا الراديكالي، من النمو والظهور كبديل لحركة التحرر الوطني واليسار، وأهم هذه العوامل:
– دخول أنظمة البلدان العربة والإسلامية أزمة عميقة كنتيجة لهزيمتها في يونيه 1967 ضد االنظام الصهيوني المدعوم من قبل الامبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وفشلها في تحرير فلسطين واستمرار سيطرة الأنظمة القوى الرجعية والقوى القومية العربية في الشرق العربي وتدخل القوى الامبريالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عسكريا لضرب أنظمة القومية العربية في مصر والعراق وسوريا وليبيا.
– واقع أزمة حركات التحرر الوطني، وخصوصا التيارات اليسارية، التي لم تتمكن من بلورة جبهة وطنية ديمقراطية لمقاومة ولمواجهة سيطرة أنظمة البرجوازية الكمبرادورية المحلية والسيطرة الامبريالية الأمريكية والاروبية.
– انتصار الثورة الإسلامية الشيعية الإسرانية التي انتصرت بإضراب وبكفاح عمال النفط ونضال الفلاحين والطلبة اليساريين والنساء وأخطأوا لأنهم قبلوا بتسلم آية الله الخميني السلطة بعد سقوط نظام الشاه يوم 16 يناير 1979.
– أزمة وتشتت جميع القوى اليسارية والديمقراطية الإصلاحية وعد استطاعة ممارستها السياسية إحداث تغيير جوهري في الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية والمغاربية من اجل تحقيق انتقال ديمقراطي.
– استمرار ضعف القوى اليسارية اديمقراطية الراديكالية والماركسية الثورية في البلدان العربية و”الإسلامية”، بالنظر لعجزها عن قيادة النضال الديمقراطي الجماهيري وتوعية وتنظيم الطبقات الكادحة وعموم الجماهير الشعبية.
كل هذه العوامل ساهمت في تلميع صورة حركات الإسلام السياسي وحركات الإسلام الجهادي، مما أضعف وضع الحركة اليسارية الاشتراكية في البلدان العربية والإسلامية.
لكن سياسة حركات الإسلام السياسي، المعتدلة والراديكالية لم تستطع أن تشكل بديلا واقعيا لأنظمة البرجوازية الكمبرادورية في المنطقة العربيية والمغاربية بالنظر لأنها لا تملك مشروعا مجتمعيا له رؤية وبرنامج سياسي ديمقراطي لاقتصاد وطني متحرر ومجتمع المواطنة والديمقراطية. بل دينامية وممارسات حركات الإسلام السياسي البرجوازية وحركات الاسلام السياسي الراديكالي الجهادي، ومثال النظام الوهابي في السعودية والنظام الشيعي في إيران ومشروع طالبان وداعش يوضح فشل نموذج الدولة الدينية والمجتمع الديني.
وواقع العنف والاقـتـتال والهمجية الذي لازال مستمرا في سوريا والعراق واليمن عمق أزمة المجتمعات العربية وكرست مظاهر التخلف والتبعية واحتجاز التطور.
ولم تشكل الثورة الإيرانية بديلا ديمقراطية بعد أن حولها الخميني إلى ثورة مضادة قادها وقمع ثورة الشعب الديمقراطية العفوية خلق شروط عودة البرجوازية الإيرانية للسلطة تحت قيادة المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي ورجال الدين الشيعية الذين استولوا على السلطة وأقاموا نظاما استبداديا باسم الدين الشيعي تحرسه مؤسسة الحرس الثوري. ورغم أن الحكم الإيراني الجديد آنذاك نص في دستوره على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدستور الإيراني، إلا أن المرشد الأعلى يمكنه التدخل دون قيد قانوني في عمل تلك السلطات. الرئيس الإيراني هو رئيس السلطة التنفيذية، لكن تحديد أولويات السياسة الداخلية والخارجية واتخاذ قرارات الحرب والسلام هي من صلاحيات المرشد الأعلى؛ والقوات المسلحة وقوات الأمن تابعة لسلطة المرشد الأعلى الذي يسيطر كذلك على المؤسسات القضائية.
وتعد مؤسسة “الحرس الثوري الإيراني” أقوى مؤسسات النظام الإيراني. وهي خاضعة فقط للمرشد الأعلى.
إن واقع الحكم والسلطة باسم الدين الإسلامي في بعض دول الثقافة الإسلامية كرس إيديولوجية الاستلاب والانغلاق وسط فئات شعبية دون أن تبلور بديلا يتأسس على الحرية والديمقراطية ومناهضة التبعية الاقتصادية ونشرت في العالم صورة مشوهة لشعوب البلدن المغاربية والعربية والإسلامية.
وبالتالي أثر هذا الواقع على كل مفاهيم التحرر والنهضة والديمقراطية والتنمية في وعي فئات عريضة من هذه الشعوب وشَوَّه ثقافتها الوطنية والانسانية من خلال محاولة تطبيق شريعة مفوتة ومتخلفة وثقافة ميتافيزيقية انتشرت في أوساط الجماهير الشعبية، بل أثرت في وعي الطبقة العاملة والجماهير العفوية الفقيرة والمحرومة خصوصاً التي أصبح يصدق على هذه الفئات الشعبية المغاربية والعربية مقولة كارل ماركس الدين هو “تنهيدة المخلوق المضطهد وسعادته المتخيلة لرسم روح عالم بلا روح وقلب عالم بلا قلب، إنه أفيون الشعب” (1)
ويالتالي يشوه الإسلام السياسي، من موقع السلطة أو من موقع المجتمع، الصراع الطبقي السياسي عالميا الذي هو صراع مصالح اقتصادية وجيوسياسية بين أنظمة وقوى الرأسمالية المتقدمة المعولمة وبين شعوب ما يسمى العالم الثالث ونضالها من أجل التحرر والتقدة الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والمساواة، وتشويه هذا الصراع الذي أصبح يتمظهر إيديولوجيا كصراع بين بلدان “الثقافة والحضارة العربية الإسلامية” و بين “الثقافة والحضارة الغربية المسيحية والملحدة”.
هامش
(1) ماركس “نحو نقد فلسفة الحق الهيجلية” 184