العَلَاقَة بين السِيَاسَة والأَخْلَاق (من خِلَال نَـقْد الأستاذ محمد سَبِيلَا)
دخل أستاذ الفلسفة، السيد محمد سَبِيلَا، في حرب ضد كل ما هو «نضالي» أو «اشتراكي». وأخذ يُبشِّر باكتشافاته ”الفلسفية“ الجديدة. كأن محمد سبيلا وَصَل، في آخر حياته، إلى خُلاصات ”مُنِيرة“، أو ”حَكيمة“. وخلال أكثر من شهر، فتحت جريدة “المساء” لمحمد سبيلا رُكْنًا متواصلًا على صفحتها الأخيرة، تَسْتَجْوِبُه عن فُتوحاته ”الفلسفية“ الخارِقَة.
آراء أخرى
ويزعم محمد سبيلا أن ”المناضل الاشتراكي“ لا يختلف عن ”الإرهابي الإسلامي“، من زاوية مناهج التَّـفكير، والقِيَم، والأهداف، والأساليب. وقد سبق لِي أن اِنْتَـقَدتُ هذه الأطروحة، ولا دَاعيَ هنا لتكرار ذلك. [أنظر مقال رحمان النوضة، “نَقْد أَنْصَار الرأسمالية”، (https://wordpress.com/read/blogs/19553947/posts/2431)].
ومعظم تصريحات محمد سبيلا تَصُبّ في نفس الاتجاه. حيث يقول: «الاشتراكية هي أكبر كذبة»، و«الاشتراكية هي مُجرد وَهْم». و«المناضل الاشتراكي لا يختلف في جوهره عن الإرهابي الإسلامي»، إلى آخره. ومعظم المناضلين الاشتراكيين، المُتواجِدِين عبر العالم، يعرفون جيدًا هذه الأطروحات القديمة. لأنها ظهرت منذ ظهور الطُمُوح إلى التحرّر من الرأسمالية، أو منذ بُرُوز الرَّغْبَة في الانتقال إلى الاشتراكية، خلال القرن الثامن عشر.
أنا احترم السيد محمد سبيلا، وأعتبر أنه من حقّه أن يُدافع عن أفكاره وقناعاته. لكنني أختلف معه، وأعتبر أنه من حقّي، أنا أيضًا، أن أنتـقد أطروحاته السياسية.
يتكلّم محمد سبيلا كأنه يُحلّل تجربة ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، أو كأنه ينتـقد أفكاره، وتصوراته، وسُلُوكِيَّاته. لكن عندما يَتَمَعَّن القارئ في أطروحات محمد سبيلا، يجد أنها أطروحات يَمِينِيَّة، وأنها تُدَعِّم وتُنَظِّر لمواقف وسُلُوكِيات تيار السيد إدريس لَشْكَر اليَمِينِي، الذي يُسيطر حَالِيًّا على هذا الحزب. ومحمد سبيلا يتبرَّأ من سلوكيات تِيَّار ادريس لشكر، لكنه يلتقي معه في العُمق، على مستوى الأفكار، والمبادئ السياسية. لأن ادريس لشكر يُطَبِّق بالضّبط الأطروحات السياسية اليَمِينِية التي يُبَرِّرها محمد سبيلا.
ويدافع صراحةً محمد سبيلا على مَنْظُور بورجوازي للعمل السياسي. ومُعظم أعضاء ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، وكذلك معظم أعضاء الأحزاب اليَمِينِية، أو الرأسمالية، الموجودة في العالم، يقولون نفس الشيء الذي اكْتَشَفَه محمد سبيلا في آخر حياته. وهو أن «السياسة هي فَنُّ النِّفاق والانتهازية». ومعظم مناضلي البلدان الناطقة بالعربية، يُدركون أن مثل هذه القِيَم والتصوّرات الانتهازية، هي التي سَاعدت على تخريب أوطانهم.
ويدافع محمد سبيلا مرارًا عن «مُرونة الفاعل السياسي الذي يمكن أن يَنْقَلِب 180 درجة، وأن يبرّر ذلك» (المصدر: جريدة “المساء”، العدد 3670). وأضاف محمد سبيلا: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، من الشُّروط البِنْيَوِية العُضْوِيَّة الأساسية للعمل السياسي. و[الشَّخص] الذي لا يتوفّر على هذه الشروط، لا يمكنه أن يَلِجَ عالم الفِعْل السياسي» (نفس المصدر السابق). وزاد محمد سبيلا قائلا: «الكَذِب فَضِيلَة سياسية، بل إنه ضرورة سياسية». وكُلُّنا نعرف أن محمد سبيلا لا ينفرد بهذه الأطروحات، وإنما مجمل السياسيين الانتهازيين، أو الفاسدين، أو المُستبدّين، سواءً في بلادنا، أم في بلدان أخرى، يُؤْمِنُون بهذه الأفكار، ويمارسون مثل هذه السُّلُوكِيََّات.
ونتساءل: لمن يكتب محمد سبيلا هذه الأفكار؟ ولمن يوجّه هذه النصائح؟ هل يوجّهها إلى الفاعلين السياسيين الذين يُهَيْمِنُون على المغرب وَيَفْتَرِسُونه؟ إذا كان هذا هو قَصْدُ محمد سبيلا، فإن هؤلاء السياسيين المُفْتَرِسِين، لا يحتاجون إلى الاكتشافات النظرية لمحمد سبيلا. فَغَرَائِزُهم تَكْفِيهِم لكي يُطَبِّقُوا هذا التوجُّه. وهل يوجّه محمد سبيلا نصائحه هذه إلى المناضلين الثوريين؟ إذا كان هذا هو هدف محمد سبيلا، فإن “إرْشَاده” سيكُون عملًا غير مُجْدي. لأن المناضلين الثوريّين يَرْفُضون كل سياسة تُعَاكِسُ العَدْل أو الأخلاق. ويُبَـيِّـنُ التَمَعُّن في أطروحات محمد سبيلا أن اجتهاده هو عمل يَمِينِي، بل “رِجْعِي”، ويَضُرُّ بالمُجتمع، ولا يفيده.
عندما أََصِفُ أفكار محمد سبيلا بِكونها «رِجْعِيّة»، هل أمارس السَبَّ، أو القَذْف؟ كلَّا! ولماذا؟ لعدّة أسباب. محمد سبيل يقول «المَكْر، وسوء النّية، من الشروط البنيوية العضوية الأساسية للعمل السياسي… والكذب فضيلة سياسية، بل إنه ضرورة سياسية». وحينما يتكلّم محمد سبيلا عن الكَذِب، أو النِّفَاق، فإنه محمد سبيلا لا يَنْتَقِد هذا الكَذِب، وإنما يُنظِّر خِصْلَةَ النِّفَاق، ويُبرّرها، ويمجّدها. كيف ذلك؟
إذا فحصنا مختلف بلدان عالم اليوم، سنجد أنها نوعان: نوع من البلدان (مثل المغرب، والجزائر، ومصر، والعراق، والسعودية، والإمارات، إلى آخره)، تُمَارَسُ فيها ”السياسة“ فعلًا كَـ ”فَنِّ الكَذِب، والانتهازية، والنّفاق، والغِشّ، والفَسَاد“. ويوجد نوع ثان من بلدان العالم، تَفْرِضُ فيها ”دولة الحق والقانون“ (ولو كانت نسبية) بأن يَـتَـقَيَّـد فيها كل الفاعلين السياسيين بالقوانين، وبالأخلاق. لهذا نجد مسؤولين كبار في هذه الدول، ولو كانوا هم رؤساء هذه الدول، يُحاسَبُون في هذا النوع الثاني من البلدان، ويُعاقبون على كل كَذِبٍ، أو غِشّ، أو فَساد، ثَـبُـتَ ضِدّهم.
وكأمثلة على ذلك، نجد أن الرئيس “دُونَالْدْ تْرَامْب”، في الولايات المتحدة الأمريكية، مَا زال مُتابعًا في قضايا تتعلق بالجنس، وبِالغشّ في الانتخابات (عبر تواطؤ جهات من طَاقَمِه الانتخابي مع أطراف مجهولة في رُوسْيَا)، وتتعلّق بِالتهرّب من بعض الضرائب. ونجد في فرنسا أن الرئيس الأسبق “جاك شيراك” تُوبِعَ، وَحُوكِم في عدّة قضايا، أبرزها قضية رَشْوَة المَاس (diamants) عُمَر بَانْغُو، رئيس الغابون السابق. ونجد أن الفرنسي “دُومِينِيك اطْرُتْسْكَانْ”، رئيس “صندوق النّقد الدولي”، ارتكب اعتداءً جنسيًّا على خادمة في إحدى فنادق مدينة “انْيُويُرْكْ”، فاعْتُقِلَ فَوْرًا، ثم حُوكِم، ثم عُوقِب. ورغم أن “اطْرُوتْسْكَانْ” كان مُرشَّح “الحزب الاشتراكي” الفرنسي لرئاسة الجمهورية الفرنسية، ورغم أنه كان الأكثر حَظًّا للفوز في الانتخابات الرئاسية، اضطُرّ “اطْرُتْسْكَانْ” إلى الانسحاب كلّيًا ونهائيا من ميدان السياسة. ونجد أن الرئيس الفرنسي “نِكُولًا سَارْكُوزِي” تُوبِعَ وحُوكم في قضية تمويل جزء من حملاته الانتخابية بأموال تُعْتَبَر غير شرعية في الحملة الانتخابية. ونجد في كوريا الجنوبية أن البرلمان صوّت بالأغلبية المُطلقة لصالح إِقَالَة رئيسة الجمهورية السابقة “بَارْكْ جُونْ هِي” [Park Geun-hye]، ثم وافقت المحكمة الدستورية في كُورْيَا على عزلها من منصب رئاسة الجمهورية، بعدما ثَبُتَ تورّطها في رَشَاوَى ممنوحة من طرف شركة “سَامْسُون”. ونَقرأُ أو نَسمعُ أمثلة أخرى مُشَابهة، في كل أسبوع، أو في كل شهر، تحدُث في هذه البلدان المتقدّمة. فَمَا مَعنى هذه الأحداث أو الأمثلة؟
معناها أن الدولة التي تكون ”دولة حق وقانون“ (ولو نسبيًّا)، لا يُسمح فيها لأي فاعل سياسي، ومَهْمَا عَلَى شأنه، أن يخرق القانون، أو الأخلاق، أو أن يُمارس الكذب، أو الغشّ، أو الفساد!
وأمام مثل هذا المشهد السياسي العالمي، نجد أن محمد سبيلا، بِتَنْظِيره لِلْكَذِب والنفاق، يدفعنا إلى تقليد النوع الأول من البلدان المُتخلّفة، بدلًا من أن يَحُثَّنَا على الاقْتِدَاء بالنوع الثاني المُتقدّم من بلدان العالم. وعليه، فَدَعَوَات محمد سبيلا تكتسي طابعًا مُتَخَلِّفًا، أو “رِجْعيا”.
وقد حاول محمد سبيلا الاستعانة بأفكار الكاتب “مَاكْيَافِيلِّي”، والاستناد عليها. لكن، على عكس ظنون محمد سبيلا، تبقى أفكاره متخلّفة حتى بالمقارنة مع أفكار المُفكّر ”مَاكْيَافِيلِّي“، لأن هذا الكاتب، في بعض فقرات كتابه المُسَمَّى ”الأمير“، يشير إلى أن كل سياسة لا ترمي إلى تحقيق العدل في المجتمع، يكون مآلها حتمًا، وفي آخر المطاف، هو الفشل والإفلاس والزوال. [وقد فَصَّلْتُ في ذلك في كتابَيْيَّ بالفرنسية: (Le Politique)، (L’Ethique politique)، ويمكن تحميلهما بالمجّان من مدوّنتي (https://LivresChauds.Wordpress.Com)].
وأضاف محمد سبيلا: «من الصَّعْب تحويل الإنسان إلى كائن عَقْلَانِي»، أو عَادِل. ولو كان محمد سبيلا هنا يعني من خلال كلمة «صَعْب» أن محاولة «تحويل الإنسان إلى كائن عقلاني» أو عادل، هي عمل يتطلب جُهْدًا جَبَّارًا، ونضالات مُجتمعية مُتواصلة، وطويلة الأمد، لَكُنْتُ قد اتـفـقتُ معه. لكن إذا اعتبرنا أطروحات محمد سبيلا الأخرى اليمينية، نُدْرِك أن محمد سبيلا يعني: أن محاولة تطوير الإنسان إلى كائن عقلاني أو عادل، مَآلُهَا الحَتْمِي هو الفَشَل.
وإذا كانت أطروحات محمد سبيلا السابقة صحيحة، ماذا يبقى لنا إذن في هذه الحالة؟ لا يبقى لنا، حسب ”فلسفة“ محمد سبيلا، سوى القَبُول بواقع المجتمع كما هو، بِفَسَادِه واسْتِبْدَاده، والقَبُول بالرأسمالية المُتَوَحِّشَة، والخُضوع للاستغلال الرأسمالي. ولا يَبقى لنا سِوى أن نَرضى بأن نكون كلّنا حيوانات تَفْتَرِس بعضها بعضا، بدون شفقة، ولا أخلاق، ولا عدل، ولا مبادئ، ولا حقوق إنسان. وإلى متى؟ إلى أن تؤدّي أنانية البشر، وانتهازياتهم، وحماقاتهم، إلى فناء البشرية.
ولكي نسير في هذا التوجّه ”السًّبِيلَاوي“ (نِسْبَةً لِسَبِيلَا)، لا نحتاج لِـ ”فلسفة“ محمد سبيلا، ولا إلى أية ثقافة، أو عِلم، أو تكوين. وإنما يكفي أن نَطلق العِنَان لِغَرَائِزِنَا الحيوانية، وأبرزها الأنانية، والانتهازية، والنفاق، والغِشّ، والغَدر، والخِدَاع، والخِيَانَة، والفساد، والاغتناء غير المشروع، وغير الأخلاقي. وهذا ما لا يقبله أي مواطن يتشبَّـثُ بالأخلاق، أو يطمح إلى العَدل المُجتمعي. ومن منظوري الشخصي، لا يمكن أن يكون أي عمل سياسي مُحْتَرَمًا، أو نَبِيلًا، أو مَقبولًا، إلَّا إذا كان مُلْتَزِمًا باحترام العَدل والأخلاق. [أنظر كتاب رحمان النوضة: “L’Ethique politique”، ويمكن تحميله بالمجان من مدوّنته: (https://livreschauds.files.wordpress.com/…/livre-lc3a9thiqu…)].
وكثير من المناضلين الحاليين بالمغرب (في سنة 2018)، لا يعرفون أنه من بين نُقَط الخِلَاف النظري والسياسي الذي كان موجودًا (خلال سنوات 1970) بين “الحركة الماركسية اللِّينِينِية” بالمغرب من جهة أولى، ومن جهة ثانية “الحركة الإتِّحَادية” (أي الحركة التابعة لحزب “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، وخَلَفِه فِيما بعد “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”)، جوهر هذا الخلاف هو: أن “الحركة الماركسية اللينينية” كانت تُصِرُّ على أن يلتزم كل فاعل سياسي باحترام الأخلاق (إذا كانت حَمِيدة)، والقوانين (إذا كانت عَادِلَة). بينما “الحركة الاتحادية” كانت تقبل الفَصْلَ بين السياسة والأخلاق. وكانت “الحركة الاتحادية” تزعم أن العمل السياسي يَسْتَوْجِب بالضرورة قدرًا مُحَدَّدًا من الكذب، أو التحايل، أو النِّفَاق، أو الغشّ، أو الانتهازية. بينما ترفض مبدئيًّا “الحركة الماركسية اللينينية” أي سُلُوك انتهازي في العمل السياسي. وقد خُضنا صراعات سياسية ونظرية، مريرة، وحادّة، مع المناضلين “الاتحاديين”. وكنا نقول لهم: كل عمل سياسي لا يلتزم بالأخلاق، يتحوّل، في آخر المَطاف، إلى جَرائم جِنَائِيَّة. وكانت “الحركة الماركسية اللينينية” تقول “للإتحاديِّين”: إن القَبُول بِقَدْرٍ قليل من الانتهازية في العمل السياسي، يُؤدي حَتْمًا إلى تَلْوِيثِ العمل السياسي كُلِّه بالغشّ، والنِّفاق، والخِداع، والغَدر، والاستبداد، والفساد، والاِسْتِلَاب (aliénation). وهو ما ليس في صالح الشعب.
من خلال الملاحظة السَّابقة، أنا لم أقصد أبدًا (كما تصوّر البعض) أن المناضلين “الاتحاديين” كانوا دائما يَكْذِبون، أو يَغُشُّون، أو يُنَاوِرُن. على عكس ذلك الظّن، كانت لنا علاقات متعدّدة، ومتنوعة، ومُتفاوِتَة، مع بعض المناضلين “الاتحاديين”، وخاصة في أجنحته اليسارية. وَنُكِنُّ (في الماضي، وفي الحاضر) لكل هؤلاء المناضلين “الاتحاديين” التقدير والاحترام.
وبالمقابل، أنا لا أزعم أن مناضلي “الحركة الماركسية اللينينية” كانوا، أو ما زالوا، كلهم مَعْصُومِين من الأخطاء، وأنهم يحترمُون الأخلاق. بل كانت، أو مَا زَالت، لنا نحن أيضا أخطاء، أو نقائص، أو نقط ضعف، أو حتى انحرافات (أنظر في هذا المجال كتابي النقدي تحت عنوان: “نقد أحزاب اليسار بالمغرب”، ويمكن تحميله بالمجَّان من مدوّنتي الشخصية المذكورة سابقَا).
وفي تقديري، ما يطرحه اليوم السيد المحترم محمد سبيلا، كمناضل سَابِق في “حزب الاتحاد”، لم ينزل فجأة من السَّمَاء، أو من عَدَم. وإنما هو بالضَّبْط امْتِدَادٌ لذلك التَصَوُّر الذي أشرتُ إليه سابقًا (أي تصوّر علاقة غير صَارِمَة بين السياسة والأخلاق). وأطروحات محمد سبيلا هي تعبير عن آراء كانت (وما زالت) منتشرة داخل “حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، وداخل “حزب الاتحاد الاشتراكي”. وتاريخ “حزب الاتحاد” يشهد على ذلك، ويؤكّده.
ومُعظم الانشقاقات، والصراعات السياسية، التي اشْتَعَلَت داخل “حزب الاتّحَاد”، كانت دَائمًا تُطْرَحُ فيها، وَلَوْ جُزئيا، إشكالية الصراع حول مدى الالتزام بالأخلاق، سواءً في العمل الحِزبي، أم السياسي. ويمكن لأي مُهْتَم أن يبحث مثلا في مواقف، وممارسات، وأقوال، وكتابات، بعض المسؤولين في “حزب الاتحاد”، خلال سنوات 1970، ثم خلال سنوات 1980، وخاصة في ما جَرَى “داخل” الاجتماعات الحزبية الداخلية. وسيكتشف هذا الباحث أن الثقافة السائدة في “حزب الاتحاد” كانت تسمح، أو تَتَقَبَّل، ما يعبّر عنه اليوم عَلَنِيَّةً السيد محمد سبيلا في مجال “العلاقة بين السياسة والأخلاق”. وَلَوْ أن محمد سبيلا يقدم اليومَ هذا النوع من “العلاقة بين السياسة والأخلاق” كَاكْتِشَاف شخصي جديد، بينما هو في الواقع فكر قديم جدًّا.
ورغم أن السيد محمد سبيلا اختلف مع قيادة ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، ثم ابْتَعَدَ عَنْ (أو طُرِدَ مِن) هذا الحزب منذ سنوات، وذلك في إطار صيرورة تَـفَكُّك وانحلال هذا الحزب، فإن الأفكار اليمينية التي يُبشِّر بها محمد سبيلا، تنتمي عُضويًا لظاهرة انحلال ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، وتعبّر جيّدًا عن التِّيه الفكري، أو الانحراف القِيمي، اللذان أصابا “حزب الاتحاد الاشتراكي”.
وفي العمق، فإن انحطاط أفكار محمد سبيلا، تَرْتَبِطُ عُضْوِيًّا بالانحطاط السياسي والأخلاقي الذي سقط فيه “حزب الاتحاد الاشتراكي”، رغم أن محمد سبيلا ابتعد عَن (أو طُرِدَ مِن) هذا الحزب منذ سنوات. بل إن تفريط “حزب الاتحاد الاشتراكي” في قِيَم الأخلاق الإنسانية، سَاهَمَ في تَسْهِيل تَنَامِي الحركات الإسلامية الأُصُولِيّة اليَمِينِية المُتَطَرِّفَة.
وقد قال محمد سبيلا مِرارًا وتكرارا، إن «الاشتراكية هي مُجَرَّد وَهْم»! لِنَفْتَرِض أن كلامه هذا صحيح. في هذه الحالة، ما هي نتيجة هذا التصريح؟ نتيجته المباشرة هي الاعتقاد بأن الحقيقة الوحيدة القائمة، الحَتمية، والأَبَدِيَّة، في العالم كلّه، هي “الرأسمالية”! بِمَعْنَى أن محمد سبيلا، المناضل السابق في “حزب الاتحاد الاشتراكي”، كأنه يقول لنا: «لا تَحْلُمُوا بالوُصُول في مستقبل بعيد إلى الاشتراكية؛ إنها مستحيلة؛ وما عليكم سوى أن تخضعوا للرأسمالية، رغم كل ما فيها من اسْتِغْلَال، واستبداد، وفساد». هذا هو ”التبشير الفلسفي الجديد“ الذي يُبَشِّر به محمد سبيلا!
ويشعر أحيانًا قارئ استجوابات السيد محمد سبيلا، كأنّ هذا الأخير لا يدرك النتائج المُجتمعية لِتصريحاته. فإذا اعتبرنا مثلًا مَقُولَات محمد سبيلا، التي تزعم أن الكذب، والتَحَايُل، والخِداع، والغِشّ، والانتهازية، هي سُلُوكِيَّات «ضرورية»، أو «حَتميّة»، في العمل السياسي، فيجب، في هذه الحالة، لكي نكون منطقِيِّين مع أنفسنا، أن نضع قوانين تَنُصُّ على أن «مُمَارَسَة الكذب، والتحايل، والخِداع، والغِشّ، والانتهازية، والاغْتِنَاء غير المشروع»، لا تُشَكِّل جرائم، ولا تَجُوز مُحاسبتها، ولا مُعاقبتها. لأن هذه السُلُوكِيَّات تُعْتَبَر «طبيعية»، بل «ضرورية»، و«حتمية». وسنكون، في هذه الحالة، قد أَبَحْنَا إخضاع المُجتمع إلى ”قانونَ الغابة المُتَوَحِّشَة“. وسنكون قد بَرَّرْنَا قِيَّام مجتمع الافْتِرَاس المُتبادل، والمُعَمَّم. وهو ما لن نقبله أبدًا.
قد يظنّ بعض القرّاء أنني أبالغ في نقد أطروحات محمد سبيلا. وقد يعتبر قرّاء آخرون أن أطروحات محمد سبيلا ليست خطيرة، لأن هذا الأخير يطرحها فقط في ميدان السياسة. وهذا الرّأي غير سليم. لماذا؟ لأن “السياسة” ليست مفصولة عن المَرَافِق الأخرى المُكَوِّنَة لِلحياة المُجتمعية. بل “السياسة” هي التي تُؤَثِّر وتُدَبِّر كل تفاصيل حياة المواطن (في الزواج، والعائلة، والتجارة، والإنتاج، والمبادلات، والحي السكني، وفي مكان العمل، وفي المِهنة، والاقتصاد، والعلاقات المُجتمعية، والثقافة، والقَضَاء، وأجهزة الدولة، إلى آخره). فَإذا نحن قَبِلْنَا، أو تَسَاهَلْنَا، مع أُطْرُوحَة محمد سبيلا التي تقول: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، من الشروط البِنْيَوِية العُضْوِية الأساسية للعمل السياسي. و[الشخص] الذي لا يتوفّر على هذه الشروط، لا يمكنه أن يَلِجَ عالم الفعل السياسي»، فالنتيجة الحتمية لتلك الأطروحة هي: انتشار المَكْر، والغِشّ، والتَحَايُل، والانتهازية، والنِّفَاق، والخِداع، في كل مَرَافِق حياة المُجتمع، بما فيها العائلة، والتجارة، والمهنة، والحَي، والاقتصاد، والمبادلات، والقَضَاء، والدِّين، وكل التفاصيل الأخرى من حياتنا اليومية. ولا يُمكن لكل عاقِل إِلَّا أن يرفض هذا الانحراف (الذي يَدْعُونا إليه محمد سبيلا).
فنحن نطمح لتشييد مجتمع يخضع للعَقل، ولِلتَكَامُل، وللعَدل، وللتَضامن. بينما محمد سبيلا يدفعنا نحو مجتمع رَأْسَمَالِي حَيَوَانِي، يسمح بِحَرّّية الغَرَائِز الأنانية، ويَحْكُمُه الافْتِرَاس المُتَبَادَل، والمُعَمَّم! بمعنى أن محمد سبيلا يُنادي إلى قَلْب «الفلسفة» إلى عكسها، ويَدْعُو إلى قَلْب «السياسة» إلى نَـقِيضِها. وبدلًا من أن يُشَجِّعَ محمد سبيلا على مُمَارَسَة سِيَاسة نَبِيلَة، وحَكِيمَة، وعَادِلَة، فإنه يُشَجِّعُ على خَوْض سياسة مُتَحَايِلَة، ومُنَافِقَة، ومُخَادِعَة. حيث أن محمد سبيلا يُبْعِدُنَا عن «الإنسانية»، ويُقَرِّبُنَا من «الحَيوانية». وهو ما نرفضه.
وأتذكّر هنا أنه، بعدما خرجتُ من الاعتقال السياسي، وبعدما عَمِلْتُ مؤقّتًا مع أصحاب مُقَاوَلَة جريدة “لِيكُنُومِيسْتْ” (L’Economiste)، الصّادرة بمدينة الدار البيضاء بالمغرب، انطلق هؤلاء المقاولين في مشاريعهم الإعْلَامِية في سنوات 1990. واكتشفتُ فيما بعد أن هؤلاء المقاولين كانُوا مُتحمِّسِين لِشَنَّ حرب أيديولوجية، قِوَامُهَا الدِّفاع المُسْتَمِيت عن “اللِّيبِيرَالِيَة الرأسمالية”. وكان شعارهم المُفَضَّل آنذاك هو: “كل ما هو غير مَمْنُوع بالقانون، فهو مُبَاح” (Tout ce qui n’est pas interdit, est permis”). وأدركتُ فيما بعد أن الغاية الخَفِيَّة من هذا الشِّعار، هي بالضبط نُكْرَان الأخلاق (في ميدان الاقتصاد)، وتجاوزها، ودَوْسُهَا في الوَحَل. ولماذا؟ لأن الرَّأْسَمَال لا يخضع للقوانين إلَّا إذا كان مُكْرَهًا، أمَّا الأخلاق، فإن الرَّأْسَمَال لا يقبل أن يَعْطِيَها أيّ اعتبار. ولأن الرَّأْسَمَال يقول: «كُلّ مَا هُو غير ممنوع، فَهُوَ مُبَاح». ومحمد سبيلا يلتقي بالضّبط مع هذا التِّيَار الرّأسمالي المتوحّش.
وخلال قراءة استجوابات محمد سبيلا، نُحِسّ كَأَنَّ هذا الأخير، يٍُريد الاِكْتِفَاء بِـ «القوانين»، ويَنْقُص من قِيمة، أو من ضَرورة، «الأخلاق» في المجتمع. وكأن محمد سبيلا لا يُدرك العلاقة العميقة الموجودة بين «القوانين» و«الأخلاق».
ومحمد سبيلا لا يُدرك، في السَّيْرُورَة التاريخية للبشرية، أن “الأخلاق” سَبِقَت “القوانين”. ولا يفهم محمد سبيلا أن أساس “القوانين” هو بالضّبط “الأخلاق”. ومُبَرِّر وُجُود “القوانين” (العَادِلة)، هو بالضّبط واجب احترام “الأخلاق”. لأن الأخلاق تَسْتَمِدُّ مبادئها من القِيَم الإنسانية (مثل السَّلَام، والخَير، والتَوَاضُع، والتَضَامُن، والاِحْتِرَام، والحُب، والعَدل، والإِيثَار، والمُسَاواة، والصِّدْق، والنَّزَاهَة، والاسْتِقَامَة، والصَّفَاء، والإْشْفَاق، والرَّأْفَة، والعِفَّة، والزُّهْد، إلى آخره). وكل القوانين الأساسية كانت في أصلها التاريخي مُجَرّد أخلاق. ثم تحوّلت هذه “الأخلاق” فيما بعد إلى “قوانين”. ثم تَعَدَّدت القوانين وتَشَعَّبت. وعليه، فالقَبُول بِدَوْسِ الأخلاق، ولَوْ جُزْئِيًّا، يؤدِّي بالضرورة إلى خَرْقِ القوانين، وإلى إِبَاحَة الجَرائم المُتنوّعة. وكل سياسة لا تَلْتَزِم بالأخلاق، تَتَطَوَّر بالضَّرورة نحو الهَمَجِيَة. ومن بين الخِلَافات الجوهرية بين اليَمِين واليَسَار، هي بالضّبط أن اليَسَار يَسْتَوْجِب من أنصاره الالتزام بالأخلاق، بينما اليمين يَزْعُم أنه يكفي الالتزام بالقوانين. وهو ما لا يستوعبه السيد محمد سبيلا.
فالمُشَرِّع (في أيّ مُجتمع كَان) يُحاول وضع «قوانين» تُجَرِّم بعض الأفعال الإجرامية، ويُحَدِّد عُقوباتها. لكن أيّ مُشرّع كان، في أيّ بلد كان، لا يستطيع أبدًا أن يَفْحَصَ، وأن يُـقَنِّـن، كل الأفعال التي تُجَسِّد جُرْمًا، أو التي تكون في صيرورة التحوُّل إلى جَريمة. وكأمثلة على ذلك، يُنَبِّهُنَا خُبراء القانون إلى صُعُوبة تجريم سُلُوكِيَّات مثل: الكذب، أو التحايل، أو الغشّ، أو المَكْر، أو الرّشوة، أو الانتهازية، أو المَحْسُوبِيَة، أو الزَبُونِيَة، أو اسْتِغْلَال النُفُوذ (abus de pouvoir)، أو استغلال مَوَاقِع تَضَارُب المَصَالِح (situation de conflit d’intérêts)، أو ارتكاب جريمة المُطَّلِعِين من الدَّاخِل على المُعْطَيَات الحَاسِمَة (délit d’initiés)، إلى آخره.
ومجمل المُجتمعات المتحضِّرة في العالم تُدرك أنه لا دَاعِيَ لِتَقْنِين وتَجْرِيم كل الممارسات التي تُحْدِثُ ظُلمًا، أو ضَرَرًا، سواء لِلفرد، أم للجماعة. وأنه يكفي أن نضع مَنْظُومة مُخْتَصَرة من «القوانين» التي تُجَرِّم الجرائم الرّئيسية، الواضحة، والمُتَمَيِّزَة. أما الجرائم الأخرى التي يَصْعُب وَصْفُها، أو التي يَتَعَذَّرُ تَعْرِيفُها، أو التي يَسْتَعْصِي ضَبْطُها، أو التي يَتَوَعَّرُ إِثْبَاتُها، فمن الممكن أن نَتْرُكَها لِمَجال «الأخلاق». وفي نفس الوقت، يلزم أن نُرَبِّي جماهيرَ الشعب على تَلَافِي كل التصرُّفات غير الأخلاقية، ونَبْذِها، وذلك بالضّبط من خلال التربية على «الأخلاقية» النَبِيلَة. ويمكن للقاضي، عند الضّرورة، أن يستعمل الأفعال التي «تَخْرُق الأخلاق الحَمِيدَة» كَمُؤَشِِّر على وجود سُوء النِّية، أو كَحُجَّة على قَابِلِيَّة الشخص المُتَّهَم لارتكاب جرائم متنوّعة.
لِنَرْجِع الآن من النظرية إلى الواقع الملموس. وسنجد مثلًا في المغرب أن المِلْيَارْدِير عزيز أخنّوش لم يَكُن يهتمّ بالسياسة. ثم “اشترى” أو “اِقْتَنَى” رئاسة “حزب التجمّع الوطني للأحرار” من عند كاتبه العام السابق المِلْيَارْدِير صلاح الدّين مَزْوَار. وأصبح عزيز أخنّوش وزيرا للفلاحة، ولِمَا جاورها. ومعلوم عن المِلْيَارْدِير صلاح الدين مزوار أنه تَقَلَّد في السّابق عدّة وزارات، واستفاد من نُفُوذِه، ونَمَّى كثيرًا ثرواته الشخصية. ويقول لنا عزيز أخنّوش بِابْتِسَامَة تُظْهِرُ أسنانه: «أنا أُكَرِّس حياتي لخدمة الوطن». ويفهم أفراد الشعب من كلام عزيز أخنّوش أنه يستغِل نُفُوذَه في مؤسّـسات الدولة لخِدمة وتنمية شركاته الخُصُوصِية. ومنذ أن تَقَلَّد مسؤوليات عُليَا في الدولة، نَمَّى بسرعة كبيرة ثرواته العائلية. ونجد نفس الشيء تقريبًا لدى المِلْيَارْدِير حفيظ العلمي، وهو أيضًا وزير في الحكومة الحالية، إلى آخره. لِنَقُمْ الآن بِتَمْرِين تَطْبِيقِي: المُعْطَى: قَال محمد سبيلا: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، من الشروط البِنْيَوِية العُضْوِية الأساسية للعمل السياسي». سُؤَال 1: هل يكون «المَكْر» في الكَلام أم في الأفعال؟ جواب 1: «المَكْر» الموجود في الكَلام ما هو إلَّا مظهر من مظاهر «المَكْر» في الأفعال، وهما معًا مُتلَازِمَين. سؤال 2: هل المِلْيَادِيرَات المذكورين سابقًا مارسُوا «المَكْر»؟ جواب 2: نعم، لأنهم يستغلّون مواقع مسؤولية في أجهزة الدولة، ويُوجَد في هذه المواقع تَضَارُبُ المَصَالِح (conflits d’intérêts)، ويَسْتَغِلُّون فيها نُفُوذَهم لِخِدْمَة مصالح مُقَاوَلَاتهم الخُصُوصِيَّة. سؤال 3: مِن مِنْظَار مَقُولَة محمد سبيلا السابقة، هل ارتكب المِلْيَارْدِيرَات المذكورون سابقًا جُرْمًا؟ جواب 3: لَا، لأنه، من منظار سبيلا، «المَكْر، وسُوء النِّيَة، من الشروط البِنْيَوِية العُضْوِية الأساسية للعمل السياسي»… ابْرَافُو عليك، أَحْسَنْتَ، أجوبتك صحيحة، ونقطتك في التَّمْرِين هي 10 على 10.
ما معنى كل كلامي السَّابق؟ معناه أنه، على عكس ظنّ السيد محمد سبيلا، يستحيل تدبير المجتمع (أو الدولة) بِـ «القوانين» فقط . فالقوانين ضرورية، لكنها لا تكفي وحدها، ويجب بالضَّرُورة أن نُكَمِّلَ القوانينَ بِـالأخلاق النَّبِيلَة. حيث نحتاج، في نفس الوقت، إلى أن يحترم مجمل المواطنين منظومة مُحَدَّدَة من «الأخلاق النَّبِيلَة». وكل شخص يخرق تلك «الأخلاق الحَميدة»، يجب أن يُحاكم (إذا كان القانون يسمح بذلك)، وإلَّا وَجَب على المجتمع أن يَدْفَع ذلك الشخص المُذْنِب إلى إِصْلَاح نفسه، مثلًا عبر النَّـقْد، أو الضَّغْط، أو العَزْل، أو الإِقَالَة، أو التَنْدِيد، أو الاِسْتِهْجَان، إلى آخره. مع الحِرص دائما على أن يبقى الهدف هو مساعدة المريض على معالجة مَرَضِه، وليس الهدف هو قتل المريض (لِلْخَلَاص من المرض)، أو حِرمانه من حقوقه، أو تعذيبه، أو هَلَاكِه، أو قَتْلِه.
وتَـتَّسِمُ الأفكار التي يُبشِّر بها أستاذ الفلسفة محمد سبيلا، بكونها مُحَافِظِة (conservatrices)، ويَمِينية (de droite)، وَمُنَاصِرَة للرّأسمالية المُتَوَحِّشَة.
وعندما يُقَدّم لنا السيد محمد سبيلا أطروحاته السّابقة، يظهر مُعْتَزًّا بنفسه. لأنه يعتقد أنه اكتشف أفكارا “جديدة”. ويريد محمد سبيلا إفادة الشعب بهذه الاكتشافات “الفلسفية” الجديدة. فيقدّم للشعب هذه النصائح التالية: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، من الشروط البنيوية العضوية الأساسية للعمل السياسي. و[الشَّخْص] الذي لا يتوفّر على هذه الشروط، لا يمكنه أن يَلِجَ عالم الفعل السياسي»! مسكين محمد سبيلا ! إنه لا يعرف جيِّدًا المجتمع الذي يعيش داخله ! ولماذا ؟ لأن شعب المغرب لا يحتاج بَتَاتًا إلى مثل هذه النصائح ! ولماذا لا يحتاج الشعب إليها؟ لأن مُجمل الشعوب النّاطقة بالعربية، ومجمل الشعوب المُسلمة، أصبحت اليومَ هي “البَطَلَة” في العالم، وهي التي تجاوزت كلّ الأرقام القياسية في مجالات الكَذِب، والمَكْر، والغِشِّ، والاحْتِيَّال، والتَّزْوِير، والنِّفَاق، والغَدْر، والخِيَانَة، والرَّشْوة، والنّهب، والفَسَاد، والاغتناء غير المشروع، واقتصاد الرِّيع، إلى آخره. ولا ينافسنا في هذا الميدان أي شعب آخر. فأرجوك أيها السيد محمد سبيلا المحترم، لَا تَزِدْنَا «كَذِبًا» وَ«مَكْرًا»! يكفي مُجتمعنا مَا هو غارق فيه من «فساد» و«استبداد»!… وقد سبق لِي أن فضحتُ هذا الواقع، وانتقدته بِدِقَّة، في كتابي: “نقد الشعب” (ويمكن تحميل هذا الكتاب من مُدَوَّنَتِي). ولا دَاعِيَ للتَّفْصِيل أكثر في هذه القضية هنا.
وغَالِبًا مَا يتكلّم محمد سبيلا، في مقالاته، أو استجواباته، كَـ «فَيْلَسُوف». وفي الواقع، محمد سبيلا ليس «فَيْلَسُوفًا»، وإنَّمَا عَمِل كَمُدَرِّس لِمَادَّة الفلسفة. وهما أمران مُختلفان. ولَا تُقْبَلُ المُطابقة بين صِفَة «مُدَرِّس للفلسفة»، وصفة «فَيْلَسُوف». حيث لا نَطْلِق صِفة “الفيلسوف” سوى على الشخص الذي أنتج أعْمَالًا، أو كُتبًا، “فلسفية”، تكون معروفة، ومُتَدَاوَلَة، وَتَـتَمَـيَّزُ بابتكاراتها، ويَعْتَرِف الخبراء بِقِيمَتها الفَلسفية، أو العِلمية، أو الأَكَادِيمِية. وهذه الشروط لَا تَتوفّر في شخص محمد سبيلا.
وفي استجواب حديث، سأل صحافيٌّ محمد سبيلا عن «تَطَوّر الفلسفة، وعن أطروحاتها الحديثة». وأجاب محمد سبيلا بِجَواب، أَقَلُّ ما يمكن أن يُقال عنه أنه غريب. حيث أجاب محمد سبيلا قائلًا: «وَثِيرة تطوّر الفلسفة هي وثيرة مُذهِلَة… فالعَقل هو صَنَم الحَداثة المَعْبُود؛ والديمقراطية الحديثة هي حُكْم الرُّعَاع والدَّهْمَاء؛ والسياسة الحديثة هي مُجَرَّد عَتَه (débilité) مُنَظَّم؛ والدولة مُجرّد أُكْذُوبَة وَمَسْخ بَارِد؛ والاشتراكية هي مُجرّد حَسَد اجتماعي؛ وحقوق الإنسان هي مُجرّد أَفْكَار تَحَايُلِيَّة لِلْغَوْغَاء» (عن جريدة “المساء”، العدد 3696، ليوم 25-09-2018). ولم يَذْكُر محمد سبيلا لا حُجَجَه، ولا مَرَاجِعَه، ولا انتقاداته. ومَا دام محمد سبيلا ينشُر هذه الأطروحات ولَا يَنتقِدُها، فمعنى ذلك أنه يُساندها، أو يَنْبَهِرُ بِها.
وما نَسَاه محمد سبيلا، هو أن «الرُّعَاع»، و«الدَّهْمَاء»، و«الحُسَّاد»، و«الغَوْغَاء»، ليسوا هم سُكّان كوكب بَعِيد؛ وليسُوا هم الآخرون الخارجون عَنَّا، وإنما «الرُّعَاع» هم جماهير الشعب. و«الرُّعَاع» هُم أَنَا، وأَنْتَ، ونحن. و«الرُّعَاع» هم محمد سبيلا. و«الرُّعَاع» هم كل المواطنين. ومَا نَسَاه محمد سبيلا هو أن «الرُّعَاع» هم بَشَر، وأن «الرُّعَاع» هم الإنسان. وإن كنتُ أنا أيضًا أعتبر أن شَعْبَنَا مُتخلّف حَالِيًّا، فإنني أناضل من أجل إِصْلَاحه. والمناضلون هم الضَّحَايَا الأَوَّلِين لِتَخَلُّف الشعب.
وهُنا أَسْأَل محمد سبيلا: كَيف نَتَعَامَل مع «الرُّعَاع»، و«الدَّهْمَاء»، و«الحُسَّاد»، و«الغَوْغَاء»؟ هل نَضْطَهِدُهم؟ هل نَقْمَعُهم؟ هل نَرْمِيهم في البحر؟ هل نَقتُلُهم؟ هل نُصْلِحُهُم؟ وإن كان محمد سبيلا يُوافِق على إِصْلَاحِ «الرُّعَاع»، آنذاك أَسْأَلُه: مَا الذي فَعَلْتَه يا محمد سبيلا خلال حياتك كُلِّهَا بِهدف المُشَاركة في إِصلاح «الرُّعَاع»؟ هذا هو التَحَدِّي الحقيقي المطروح على محمد سبيلا، وعلى أمثاله. فالمطلوب هو النضال، بهدف تَغْيِير المُجتمع، وليس الاكتفاء بوصفه.
وفي الختام، لنحاول توسيع تفكيرنا. إذا نحن أنهينا هذا المقال عند هذه النقطة، فإننا سنكون قد “ظلمنا” السيد محمد سبيلا. و”الظلم” مرفوض، لأنه يتنافى مع “الأخلاق”، حتّى ولو كانت المساطر “القانونية” القائمة لا تجرّم هذا “الظلم”. فإذا أنهينا هذا المقال هنا، فإننا سَنُعطي للقارئ انطباعًا خاطئًا، بأن كل شيء في بلاد المغرب هو على أحسن ما يُرَام، وأن المشكل الأساسي في المغرب هو أن شخصا اسمه محمد سبيلا قال: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، والكذب … [ضروريِّين] في العمل السياسي».
لكن الحقيقة هي أن محمد سبيلا ليس حَاكِمًا، ولا وزيرًا، ولا مسؤولا كبيرا في الدولة، ولا مُنْتَخَبا في البرلمان، أو في المجالس المحلّية، وليس فاعلًا اقتصاديا هامًّا، ولا زعيمًا حزبيًّا. وإنما محمد سبيلا هو مجرد مواطن متواضع، يدرّس الفلسفة، ويتكلّم، ويخطب، ويكتب، وينشر. لكن محمد سبيلا لا يؤثّر، لَا في الحياة السياسية، ولَا الاقتصادية. بل المشكل الأساسي في بلاد المغرب، هو أن معظم أفراد الطَّبَقَة الحَاكِمَة، وكذلك أفراد الطبقة السياسية، ومُعظم الفاعلين الاقتصاديين، ومعظم المسؤولين الحزبيين، معظمهم لا يتكلّمون، ولا يَخْطُبون، ولا يكتبون، وإنما يمارسون يوميًا، في العَلَن أو في السِرِّ، يمارسون الكذب، والتَحَايل، والخِداع، والغِشّ، والنِفاق، والتَزْوِير، والنّهب، والفساد، والاستبداد. مُعظمهم يخرقون القانون، ويَدُوسُون الأخلاق. هذا هو المشكل المُجتمعي الحقيقي. ومَأْسَاتُنا الكبيرة، هي أن غالبية شعبنا، هي أيضًا، تسبح في الجهل، والتخلّف، والخضوع، والانحطاط. بل تُمارس غالبية أفراد شعبنا، ومنذ زمن طويل، تلك السُّلُوكِيَّات المنبوذة التي يبرّرها اليوم محمد سبيلا، مثل الأنانية، والكذب، والغش، والانتهازية، والاغتناء غير المشروع، في مُجمل الميادين. لكن هذا موضوع آخر (حَلَّلْتُه في كتابي “نقد الشعب”).
وواجبنا، ليس هو الانشغال بمواطن بسيط مثل محمد سبيلا، وإنما هو نـقد هؤلاء الأشخاص الأقوياء، السائدين في المجتمع، وفضحهم، ومحاسبتهم. لأنهم، في كل يوم، يخرقون القانون، ويدوسون الأخلاق. فمحمد سبيلا يتكلّم ولا يؤثّر، بينما أفراد الطبقات السائدة والمُسْتَغِلَّة، المستبدِّين والفاسدين، يُؤَثِّرُون، وَيُقَرِّرُون، وَيُحَدِّدُون مَصِيرنا، مصير القَمع، والقَهْر، والخُضُوع، والاستبداد، والاِسْتِغْلَال، والتّفـقير، والتخلُّف، والألم، والانحطاط المجتمعي. فالمشكل الهام يوجد هنا، وليس في محمد سبيلا. وبه نختم هذا المقال.