تتعدد الأسماء التي تطلق على المسلم والمسلمة المواظبين على واجباتهم الدينية، حيث يوصفان بالملتزمين أو المتدينين أو المحافظين، ويقصد بها التعبير عن المؤمنين بدين الإسلام، المتشبثين بأحكامه عقيدة وعبادة ومعاملات، وهذا المعنى ينسحب على الأفراد والجماعات على حد سواء، لكن مفهوم التدين أو الالتزام الديني، يختلف من شخص لآخر، ومن جماعة لأخرى، ومن بلد لآخر، ومن الملاحظ أن حالة التدين في المجتمعات العربية عرفت في سنوات الثمانينات والتسعينات انتعاشا ملحوظا، بالتزامن مع  الصعود القوي لما يصطلح عليه بالحركات الإسلامية، والتي تدعو إلى نموذج للتدين خاص بها يختلف عن الأخرى.

وإذا كانت من أبرز مظاهر التدين في التي هيمنت خلال الفترة التي ذكرنا آنفا، إقبال النساء على اللباس المحتشم (الحجاب)، وحرص الرجال على إعفاء لحاهم، وكانت هذه المظاهر الخارجية، تعبّر إلى حدّ ما عن نوع من التدين غير التقليدي، في مقابل التدين الشعبي البسيط، وكان هذا التدين الظاهري أو الخارجي، دليل كاف على أن صاحبه، ينتمي إلى إحدى الجماعات الإسلامية، خاصة إذا تعلق الأمر بفئة الشباب، لدرجة أنه في كثير من الأحيان يختلط على عامة الناس، التمييز بين المتدين المستقل والمتدين المنتمي لجماعة معينة، وفي المغرب على سبيل المثال، معظم المغاربة لا زالوا ينظرون إلى نموذج التدين الذي تدعو إليه الجماعات الإسلامية، سواء في شقه الإخواني أو السلفي، نظرة سلبية، رغم الانتشار الذي حققته داخل المجتمع، والمراجعات التي قامت بها هذه الجماعات من أجل الاندماج الكامل، لكنها لم تستطع تكييف نموذجها مع الواقع، وهو ما يتم التعبير عنه بإطلاق وصف “الإخوان” على الملتحين والمحجبات، وإن كان هذا الوصف لم يعد حاضرا بكثافة في التداول اليومي.

وتجدر الإشارة، إلى أنه في الوقت الذي عرفت فيه الدعوة إلى نموذج التدين الخاص بالجماعات الإسلامية تراجعا، شهد نموذج التدين السلفي الوهابي، القادم من الخليج العربي انتشارا واسعا في معظم الدول العربية بما في ذلك المغرب، وهذا راجع إلى الأموال الضخمة التي تصرفها دول الخليج لنشره خارج بلدانها، بالإضافة إلى فتح الأنظمة العربية المجال أمام نشر الدعوة السلفية داخل مجتمعاتها، للحدّ من هيمنة الجماعات الإسلامية، خاصة أن نموذج التدين السلفي يختلف كليا عن النماذج التي تدعو لها تلك الجماعات، لأنه تديُّن يقوم على التشدد في الأخذ بالأحكام الشرعية، ويعتمد على قراءة حرفية للنصوص، كما يعطى أهمية بالغة للمظهر الخارجي، بدعوى اتباع السنة النبوية، بحيث يحرم على المتدين السلفي ارتداء اللباس العصري، وهو ما يجعل مسألة التعرف على متّبعيه سهلة للغاية. 

ويبدو أن من أهم العوامل التي أدت إلى فشل الجماعات الإسلامية المغربية في تعميم نموذجها في التدين على نطاق واسع، اختلافها حول مضمون التدين، وإن كانت تتفق في مرجعية الإسلام، فهناك جماعات تركز عملها على التربية الروحية والعمل الدعوي (جماعة العدل والإحسان نموذجا)، وجماعات أخرى تعطي الأولوية للتأطير الفكري والسياسي(حركة التوحيد والإصلاح نموذجا)، وبالإضافة إلى اختلافها حول أولويات العمل الإسلامي، ونموذج التدين الذي ينبغي الالتزام به، لا يوجد بينها تعاون أو تنسيق على أرض الواقع، وذلك لاختلاف مقاربتها السياسية، وفي كثير من المحطات النضالية والأحداث العربية والإسلامية تكون مواقفها متباينة، لكنها في المقابل، تقوم بالتنسيق والتعاون مع فصائل يسارية وعلمانية.

وإذا كانت أدبيات التيار الإسلامي، تصف مرحلة انتعاش الدعوة بـ”الصحوة الإسلامية”، فإن هذه الدعوة عرفت في السنوات الأخيرة تراجعا ملحوظا، بسبب انشغال مكونات هذا التيار بالسياسة، وتقلص مساحة الاهتمام بالعمل الدعوي، وأخذ نموذج التدين الذي تدعو إليه يبتعد عن جوهر الدين، ويتشبث بالشكليات والمظاهر الخارجية، وهذا ما جعل نموذج التدين الذي دعت إليه تلك الجماعات، يواجه تحديات فكرية وعملية، ويطرح أسئلة حارقة حول حدود العلاقة بين العمل الدعوي والسياسي، وكيفية تدبير الاختلاف مع المكونات الأخرى، والعلاقة مع السلطة، والحفاظ على الشعبية، واستمرار نموذجها في التدين داخل المجتمع..

والملفت أن المجتمعات العربية عرفت في السنوات الأخيرة، تطورا في وضعية التدين، حيث بدأ يتبلور نموذج غير مألوف، يميز ويركز على مضمون الدين دون الشكل، يتبناه بعض “نجوم” العمل الإسلامي السابقين، الذين قاموا بمراجعات فكرية جذرية، وتحولوا إلى دعاة للنموذج الجديد، الذي يحاول الجمع بين متطلبات العصر ومضمون الدين، والابتعاد عن الصورة النمطية للمتدين التي تغلّب المظهر الخارجي على الباطني، وقد طرح هذا التوجه أخيرا، مسألة التدين دون التزام شكل معين، مثل إعفاء اللحية وارتداء غطاء الرأس (الحجاب)، وفي هذا السياق، أثارت عودة بعض الممثلات المصريات إلى المجال الفني، جدلا كبيرا وسط المجتمعات العربية، وخاصة عندما تخلي بعضهن عن “حجابها” وتراجعن عن الاعتزال، وفي خضم هذا الجدل، برز الخلاف داخل الأوساط الإسلامية وخارجها، بين الذين يعتبرون غطاء الرأس (الحجاب) فريضة إسلامية، ودليل على تدين المرأة المسلمة، وآخرين يرون أن تغطية الرأس ليس دليلا على التدين، والمفارقة العجيبة وسط هذا الجدل، أن الرأي الأخير يتزعمه دعاة وفاعلين سابقين في مجال العمل الإسلامي، كانوا إلى عهد قريب، يعتبرون تغطية رأس المسلمة واجب شرعي، لا يمكن التنازل عنه، مع العلم أن الفقهاء المسلمون لا يميزون بين شكل التدين ومضمونه، لكن إبعاد العلماء عن عامة الناس، دفعهم إلى الوقوع في كثير من الأخطاء، بعضهم اختزل الدين في مظاهره، والبعض الآخر اهتم بالمضمون وأهمل بعض المظاهر التي تعدّ جزء لا يتجزأ من الدين، والصحيح هو أن يجمع المتدين بين إصلاح ظاهره (السلوك) وباطنه (القلب)، من غير إفراط أو تفريط، وبعيدا عن الغلو والتشدد، حتى يتحقق الانسجام والتوازن والاعتدال، ويكون المسلم متصالحا مع ذاته.