
مذكرة البستنة (المذكرة رقم 867/14): ماذا بعد الكارثة؟

منذ أكثر من عقد، أقدمت وزارة التربية الوطنية على إصدار مذكرة تنظيمية، هي المذكرة رقم 867/14 الصادرة سنة 2014. عُرفت المذكرة بين الفاعلين التربويين باسم: مذكرة البستنة، وأسالت مدادا كثيرا، وكانت موضوع انتقادات كثيرة، لكن الصمم الوزاري كان سيد الموقف. ويبدو أن فتح النقاش العمومي حولها من جديد أصبح أكثر من ملح.
الواقع أنه سبق لي أن نشرت منذ حوالي تسع سنوات مقالا عنونته بالمذكرة رقم 867/14، ألم يحن وقت الاعتذار عنها؟؟؟
للأسف، منذ ذلك الوقت إلى الآن لم يحدث أي تطور في الموضوع. فقط، في لحظة معينة، صرح أحد مسؤولي الوزارة بأن المذكرة أسيء تأويلها؛ لأنها، في الواقع ـــــــ بحسب تعبيره ـــــــ لم تكن تستهدف بالتغيير إلا عقوبة التوقيف، أما غيرها من العقوبات فلم تكن معنية، وبالتالي لا يجوز تعميمها. تسربت أيضا بعض الأخبار تفيد أن الوزير السابق حصاد كان ينوي إصدار مذكرة تُراجع المذكرة السابقة، وتنظم العلاقات داخل المدرسة بشكل أكثر موضوعية وعقلانية، غير أن زلزال الحسيمة جرفه قبل أن يتم الأمر.
عمليا، إذا، ما تزال المذكرة تجثم على صدر المؤسسات التعليمية، وتقيد أيدي المجالس التربوية، وتدخلها في دوامة من العبث، تجعل مداولاتها وقراراتها، في كثير من الأحيان، متناقضة ومثيرة للسخرية أو الشفقة، ينتج عنها تعقيد أكبر للمشاكل ومراكمة لها، وتقود، في أحيان أخرى، إلى إخراج مشاكل كان من الممكن معالجتها تربويا إلى مخافر الشرطة وردهات المحاكم.
موضوع هذه المذكرة هو إعادة ترتيب العقوبات التي كانت تقترحها المجالس الانضباطية داخل المؤسسات التعليمية، في حق التلاميذ الذين تُـعرض حالاتهم عليها.
والحاصل أن القراءة المتأنية لهذه المذكرة، تجعل المرء يطرح جملة تساؤلات حول مدى سلامة المسار الذي قطعته هذه المذكرة قبل صدورها. وهل خضعت لأي نقاش حقيقي سابق على تبنيها، أو تجريب يفحص مدى إجرائيتها، أو غير ذلك مما ينبغي أن يحدث في العادة قبل تعميم نص نراهن عليه لتقويم وتنظيم العلاقة بين أفراد مجتمع المدرسة؛ لأنه إذا كان الهدف هو تصحيح مسار معين، فلا بد أن يكون البديل أكثر قدرة على على القيام بهذه المهمة، وفق ضوابط تتيح للمدرسة أجواء أفضل للاشتغال، وللقيام بأدوارها المنوطة بها. أما عندما يكون المنتوج خالقا لارتجاج فج تنهار فيه التوازنات، وينتج عنه إباحةٌ وهدرٌ مجاني لكرامة مكون أساسي في العملية التعليمية، أفلا يحق لنا التساؤل عن مدى سلامة اختيار هذا النص التنظيمي وعن خلفياته الحقيقية؟ نبني تساؤلاتنا على الملاحظات التالية:
1 ـ تنطلق المذكرة من قراءة « إحصائية » لنوعية العقوبات التي تُـتخذ في المجالس التأديبية، و تلاحظ أن« التوقيف عن الدراسة هي العقوبة الأكثر شيوعا واستعمالا». وهو ما ستبني عليه ملاحظاتها اللاحقة. ونحب أن نلفت الانتباه إلى أن هذا الحكم، عدا أنه غير مسنود بأي إشارة مرجعية لدراسة ما قد تعطيه مصداقيته، فهو يعفي نفسه من مساءلة المعطى، وقراءته موضوعيا في السياقات التي أنتجته، مثلا نوع المخالفات المرتكبة، وحجم الأضرار المترتبة . . . ويكتفي بإدانة غير مُبررة أو مُعللة.
2 ـ تمــر المذكرة بعد ذلك إلى مناقشة نتائج هذه العقوبة على التلميذ، و منها الحرمان « من مجموعة من الحصص الدراسية التي يصعب عليه استدراكها » أو تعميق الهوة بينه و بين المدرسة، أو جعله عرضة للتأثيرات السلبية للمحيط الخارجي للمدرسة. وهي المناقشة التي ستؤسس عليها لاحقا «قطيعة» مع طرق العقاب السابقة.
هنا نشير إلى أن المذكرة، في نقدها للحرمان، تخرق مبدأ كونيا للعقاب القانوني، وهو مبدأ الحرمان نفسه الذي يظل مبدأ ثابتا في مفهوم العقوبة، ولا يجوز بحال حذفه. قد نختلف في درجته أو نوعيته حسب طبيعة الفعل المرتكب، مراعاة لمبدأ التناسب، أما الإلغاء التام لمبدأ الحرمان فهو ضرب لفلسفة العدالة ولروح القانون. وفي جانب آخر تُـقدم، بقصد أو بغير قصد، صورة مغلوطة عن طرق تدبير العقوبات في المجالس التأديبية، وتعفي، بشكل غير مفهوم، الأسر من تحمل مسؤولية وتبعات ممارسات بناتها وأبنائها. فلا يعقد أي مجلس تأديبي، في واقع الحال، إلا بعد استدعاء ولي أمر التلميذ، ويُخبر هذا الوليُّ بنتائج الاجتماع وبقرارات المجلس، بل هو يُشرك فيه، حتى يتعاون مع المدرسة في تأطير العقوبة. أي أن المجالس تتصرف بكامل المسؤولية، وتُنسق مع الأسر فيما يتعلق بقراراتها. وعلى الأسر، بعد ذلك، أن تتحمل مسؤولية ما يفعله أبناؤها؛ بينما منطوق المذكرة يوحي بأن المدرسة ترسل التلميذ إلى الشارع، لتلقي به إلى أحضان الانحراف.
3 ــ بناء على المعطيات المرتبكة السابقة ، تقرر المذكرة « اعتماد عقوبات بديلة»، تتمثل في «تقديم خدمات ذات نفع عام» داخل المؤسسة التعليمية، « على أن يتم إخضاع [التلميذ] لها خارج أوقات دراسته » ، كما أنها « يجب أن تحفظ كرامة و اعتبار التلميذ المعني، و ألا تعرضه لأي تجريح، أو تحقير».
إن هذا البناء المطلق للغة المذكرة في الشق المتصل بتحديد العقوبة يجعلها مُجانبة لفلسفة القانون من ناحيتين على الأقل. الأولى أنه حتى داخل الفلسفة الجديدة للقانون والتي تقترح مفهوم العقوبات البديلة، فإنها لا تطرح هذا الخيار بشكل مطلق، بل تقيده، وتحدد له شروطا خاصة، يتصل بعضها بنوعية الخطأ أو الجرم، فلا عقوبة بديلة إلا مع نوع محدد من الأخطاء، وتحديدا الأخطاء البسيطة (من ضمن معاييرها ألا تكون من الأخطاء التي تمس السلامة البدنية للأغيار)؛ ويتصل بعضها الآخر بالفاعل الذي يُـشترط لاستفادته من هذا النوع من العقوبات حُسنُ سلوكه وانعدامُ السوابق لديه. أما الناحية الثانية فتتمثل في خرقها لمبدأ قانوني كوني آخر، هو تناسب العقاب مع الخطأ، فالعدالة تقوم جوهريا على تصنيف أنواع الأخطاء القانونية المحتملة، وتقسيمها إلى أنواع ودرجات؛ ثم تقوم بابتداع أشكال عقابية متدرجة وغير موحدة، لِـتُـــرتِّــبَ لكل نوع من الأخطاء القانونية الجزاءات المناسبة. أما عندما يتم الاقتصار على عقوبة فريدة، مع احتمال تنوع الخطأ القانوني، فلا يمكن أن يصدر مثل هذا الاجتهاد إلا عن سوء تقدير يضرب عرض الحائط تاريخا من الاجتهادات القانونية التي أدت تراكماتُها إلى التمييز بين أشكال الجرائم التي يرتكبها الناس إلى ثلاثة مستويات متدرجة: المخالفات والجنح والجنايات، مع ترتيب عقوبات متفاوتة في درجاتها لكل واحد من هذه الجرائم. وليس هذا التدرج أمرا اعتباطيا في القانون، بل هو أساس بناء العدالة، وأساس تحقيق التكافؤ بين الحقوق والواجبات. وأي نص قانوني لا يستهدي بهذا التوجه، ولا يميز بين أنواع العقوبات بناء على أنواع الجرائم أو الأخطاء، إنما هو نص يقع خارج فلسفة القانون والعدالة.
والأغرب أن الوزارة نفسها عندما تفكر في معاقبة موظفيها، فهي تستحضر مبدأ التدرج في العقوبة، من الإنذار مرورا بالتوبيخ والحذف من لائحة الترقي والانحدار في الرتبة أو في الدرجة وصولا إلى العزل من غير توقيف الحق في التقاعد أو العزل مع توقيف الحق في التقاعد . . . أو أكثر من ذلك. فكيف يمكنها تبرير تغييب ذات المبدأ في المذكرة التي ستنظم بواسطتها العلاقات بين مكونات المدرسة؟
وحتى نكون أكثر وضوحا سنبتعد عن الأخطاء التي قد تتم بين الزوج: أستاذ/ تلميذ، ونركز على الزوج: تلميذ/ تلميذ، ولنفترض ـــــ وفي الواقع إن الأمر يتعدى الافتراض إلى التمثيل بالحالات الحقيقية ـــــ أن تلميذا اعتدى على قرينه بالإهانة العلنية، أو بالضرب، أو، في حالة الاختلاف الجنسي، بالتحرش، وأن مستوى العنف قد بلغ درجة ألحقت أضرارا جسدية، أو نفسية جسيمة بالتلميذ المُعْتَـدى عليه (حالات الاعتداء الأخيرة استعملت فيها أسلحة بيضاء، تتراوح بين شفرات الحلاقة والسكاكين)، فكيف نفكر في كرامة التلميذ المُعـْـتَدي ونسكت عن كرامة التلميذ المُعتَدَى عليه؟ كيف يمكن لهذه الوصفة التي تركز على الحفاظ على كرامة المخطئ أن تنصف الضحية، وتصون كرامته؟ هذا ما لا تجيبنا المذكرة عنه، وينبغي لها.
يضاف، إلى هذه الهِـنات والزلات، عيب آخر، يمس واقعية هذه العقوبات من حيث ممكناتُ تطبيقها. فخلا تنظيف ساحة ومرافق المؤسسة، فإن كثيرا من المؤسسات التعليمية في المغرب هي بدون مكتبات أو مطاعم أو بساتين أو مرافق صحية، مما يتعذر معه تنويع العقوبات. كما أن شرط إنجاز العقوبات خارج الحصة الدراسية للمعني بالأمر يستوجب تحديد المسؤول عن تتبع العقوبة. فهل ستعين الوزارة الوصية أشخاصا مكلفين بهذه العملية؟ أم أن بعض الأساتذة، أو بعض الإداريين هم من سيقتطعون من وقتهم المُوَجه للخدمة الجماعية للتلاميذ وقتا، يُجهل وضعه التنظيمي، لتتبع تلميذ واحد معني بالعقوبة؟ يملك هذا السؤال كل شرعيته أمام الخصاص المهول الذي تعاني منه الموارد البشرية في القطاع، مما يجعل توفير المسؤول عن تنفيذ الإجراء «العقابي» يصبح في ذاته تحديا حقيقيا، إن لم يصبح عقوبة حقيقية، وغير مستحقة، لمن سيتكفل به.
يمكن أن نضيف نقطة أخرى لا تخلو من أهمية، وترتبط بالوظيفة العامة للقانون. فليس هدف القانون هو العقاب فقط، أي معالجة الأخطاء والجرائم التي وقعت بالفعل، وإنما هو منــع وقوع مـزيد من الأخطاء والجرائم عبر الردع الذي لا يتحقق إلا بشرطين اثنين، هما حتمية العقوبة وصرامتها. لكن المذكرة في أفقها العقابي الفريد والمحدود، تُــعــدم، بقصد أو بدون قصد، خاصية الردع، وتفتح باب التسيب؛ لأن التلميذ يعرف أن أقصى ما يمكن أن يواجهه، كيفما كان نوع الخطأ الذي سيرتكبه، هو العقوبات البديلة والناعمة.
كل هذه الملاحظات، و ربما يظهر غيرها، تجعل المذكرة معيبة في بنائها، من حيث إمكانيةُ تطبيقها، و من حيث فشلُـها في توفير التناسب اللازم بين الخطأ والعقاب، ومن حيث انتصارُها للجناة وإهمالها للضحايا. ومن ثم فهي بعيدة عن توفير النّصفـة اللازمة للإحساس بالأمان، ولخلق فضاء يُمَدِّن التلميذ و يربيه على احترام التوازن القائم بين الحقوق والواجبات، ويُـعِده ليصبح مواطنا صالحا، يحترم المؤسسات، ويساهم في بنائها، ويتحمل مسؤولية أفعاله إيجابا وسلبا. والأخطر من هذا أنها عندما لا توفر العدالة داخل جدران المؤسسة، ولا تحقق «القصاص» بصيغ تربوية منصفة، تشرع الباب لخروج مشاكل المدرسة خارج أسوارها. وهو ما يجعل العقوبة تنتقل من الأدنى إلى الأعلى: فأقصى ما كان يمكن أن يواجهه التلميذ في المدرسة، وفي الحالات المبررة، هو أن يجد نفسه في مؤسسة أخرى، أو خارج أسوار المؤسسات العمومية. مما يُـبقي له، من جانب، ولأسرته الباب مفتوحا في المدارس الخاصة، ومن جانب آخر، تُـقدم الصدمة وضعا يرغم المعني بالأمر وأسرته على ضرورة إعادة التفكير في سلوكاتهم واختياراتهم وتحمل تبعاتها. أما عندما يخرج العقاب من أسوار المؤسسة ـــــــــ وهو ما قد يضطر إليه البعض بسبب قصور المذكرة ـــــــــ فإنه يصبح مفتوحا على مسارات معقدة، وانعكاساتها أخطر بالنسبة للتلميذ؛ لأن أدنى ما يواجهه التلميذ، في هذه الحالة، هو التعرض لتجربة الاعتقال والمبيت في مخافر الشرطة، أما الأقصى فلا أحب حتى التفكير فيه.
مناسبة هذا النقاش هو تواصل واستفحال الاعتداءات التي تطال العاملين بقطاع التربية الوطنية، والقطاعات المجاورة (التكوين المهنــي) وأحدثها، حتى لا أقول آخرها، مقتل الأستاذة هاجر. ومن أجل ألا نحرف النقاش ونبقيه في حدود المطالبة بمعاقبة التلميذ، وهو أمر، بطبيعة الحال، لا يمكننا إلا أن نناصره، نعتقد أن النقاش الحقيقي ينبغي أن يذهب إلى ما هو أبعد من الأحداث المتفرقة التي ينفجر قليل منها عندما تلتقطه عين متلصصة، ويبقى أكثره طي الصمت، حتى تفجره أرقام الهروب الجماعي من القطاع، والذي تكشفه كل سنة أرقام الراغبين في الهروب من مهنة المتاعب والمذلة عن طريق التقاعد النسبي، أو عن طريق مباريات تغيير الإطار.
إن المدان ليس هو هذا التلميذ أو ذاك، ولا هذا المدرس أو ذاك، فالجميع في نهاية المطاف مجرد ضحايا لسياسات تعليمية توالت دون رؤية وطنية حقيقية، تغلب فيها المصالح الحزبية الضيقة أحيانا، والهواجس الأمنية للدولة، والمقاربات الحساباتية الضيقة أحيانا أخرى، عندما تُـقَـدم المدرسة بأنها قطاع غير منتج. والحال أن تاريخنا المعاصر يؤكد بالملموس أن البلدان التي راهنت على التعليم استطاعت أن تحقق نهضتها، و في حالات معينة، في زمن قياسي.
نعم هناك مشاكل بالجملة في المدرسة المغربية، وهناك كثير من الأخطاء التي تُـرتكب داخلها، ولكن العلاج لا يأتي من تحميل رجل التعليم وحده مسؤولية ما يحدث. وحتى لا نشتت النقاش المتشعب أصلا، نبقى في حدود تنظيم العلاقات داخل المؤسسات التربوية، فمن حق الوزارة، بل هذا واجبها، أن تفكر في التجديد، وأن تبحث عن بدائل، لكنها ينبغي أن تكون بدائل تتسم بالواقعية، وتبررها رغبة في الارتقاء، لا حقد غير مبرر على نساء ورجال التعليم، إذ لا يمكن تبرير منطق مذكرة البستنة إلا من رؤية تنطلق من إدانة مسبقة لنساء ورجال التعليم. وهو منظور مرتبط بعقلية يبدو للأسف أنها سائدة عند كثير من المسؤولين المركزيين في الوزارة.
يمكن للوزارة قبل أن تصدر مثل هذه الوثائق التنظيمية أن تجتهد قليلا، وتستفيد من خبراء القانون المقارن، وتنفتح على التجارب المختلفة. وسنكتشف، آنذاك، أن دولا أكثر تقدما منا في بنائها الديموقراطي، و في مسارها الحقوقي لا تتحرج في طرد التلاميذ الذين لايشتغلون لاستحقاق مقعدهم، بل لا تتحرج من متابعتهم قضائيا إذا لزم الأمر. ولن يكون هذا الانفتاح، طبعا، بغاية الاستنساخ، ولكن بغية تركيب نموذج أفضل، وأكثر إنصافا، وأكثر ملاءمة لبيئة المجتمع المغربي. وأهم من هذا علي الوزارة أن تكون قادرة على تتبع أثر تشريعاتها على المؤسسات التعليمية، وأن تكون قادرة، بل ومبادرة إلى تطويرها أو تغييرها، كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
بإمكانها، كذلك، بدل التفكير في العقوبات البديلة، التفكير في تقليص الحاجة إلى العقاب (العلاج الوقائي). و لكن في هذه الحالة على الوزارة أن تضع يديها في جيوبها، و تُرَشِّـدَ نفقاتها، و تقلص من الإنفاق المركزي، و تعمل على التأهيل الفعلي للمؤسسات التعليمية، و ذلك عن طريق توفير البنيات التحتية اللازمة، من فضاءات (مكتبة المدرسة، قاعات العروض الثقافية و المسرحية، قاعات وسائطية . . .) وأدوات و وسائل التنشيط ( آلات موسيقية، أدوات الرسم، أجهزة العرض، أجهزة تنظيم الصوت . . .) مع ـــــــ و هذا هو الأهم ـــــــ إعادة النظر في تعامل الوزارة مع التنشيط الموازي في المدارس العمومية، و الذي لا تبذل فيه أي مجهود، و تتركه مرهونا للمجهود الذاتي للمدرسين وللتطوع. و لن يكون ذلك إلا بإدماج التنشيط الموازي (الأنشطة الثقافية و الفنية و الرياضية) كجزء من بنية المدرسة الجديدة، مع التفكير الجدي في توفير الموارد البشرية اللازمة لإنجاح الرهان، سواء عبر إضافة مكونات بشرية جديدة، تستجيب بتكوينها التخصصي لبعض التحديات الراهنة للمدرسة، من قبيل المساعدين النفسيين والاجتماعيين والمختصين في التنشيط التربوي، أو عبر استغلال الموارد البشرية التقليدية، من خلال إدماج التنشيط التربوي ضمن ساعات العمل الرسمية، أو، على الأقل، بإحداث تحفيزات مادية ومعنوية للمنشطين التربويين، فلا يعقل أن يبقى أحد الأوراش الكبرى القادرة على خلق التوازن داخل المدرسة، و امتصاص العنف، ومحاربة التطرف في كل تمثلاته الثقافية والقيمية و الدينية، و إعادة البهجة و روح الإبداع إلى مدارسنا مرهونا للصدفة و لكرم بعض المدرسين هنا و هناك، والذين، غالبا، لا يجدون حتى التقدير و الاعتراف الرمزيين، في الوقت الذي ترزأ فيه ميزانية الوزارة تحت أعباء التعويضات الخيالية، وغير المبررة، لعدد من المسؤولين المركزيين.
ما المطلوب إذن؟
النقاش حول أسباب العنف داخل المدرسة هو نقاش أكبر من أن تستوعبه هذه الورقة، وهو أمر أشد تركيبا وتعقيدا من أن يختزل في طبيعة العلاقة بين المدرس والتلميذ، كما تريد كثير من القراءات المتسرعة أو المغرضة أن توهمنا. إنه يمس الأسرة والإعلام والدولة، ويرتبط بمختلف التحولات التي تلوي عنق حاضرنا. ولكن لا يجوز بأي حال، كما أسلفنا، أن يدفع رجل التعليم وحده الفاتورة، علما أن هذا العنف بدأ ينمو بوتيرة مخيفة، ولم يعد مقتصرا على التعليم وحده، لقد أصبح عملة رائجة في شوارعنا وفي مستشفياتنا بل حتى في مساجدنا . . .
لابد إذن أن نفصل بين أمرين، هما المعالجة الشمولية لهذا الأمر، وهي معالجة لن تتم داخل جدران المدرسة، بل تحتاج نقاشا مجتمعيا، وقرارات سياسية شجاعة، وانخراطا مسؤولا، تتعاون فيه المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية، وكذا المؤسسات الإعلامية؛ والمعالجة الآنية التي تستعجلها الأحداث الجسام التي صارت تعيشها المدرسة العمومية ( مقتل الأستاذة هاجر، التلميذة التي أصابت زميلاتها بضربات سكين، المدير الذي شُـــجَّ رأسُــه، التلميذة التي عنفت أستاذتها وصفعتها، التلميذ الذي كسر أنف أستاذه، التلميذات اللواتي استعملن شفرات الحلاقة لحل خلافاتهن مع زميلاتهن في المدرسة. . .). ولن تكون هذه المعالجة الآنية، في انتظار المعالجة الشمولية، ممكنة إلا بإعادة التفكير في الإطار القانوني الذي ينظم العلاقة بين أفراد مجتمع المدرسة بما يحقق العدالة والإنصاف، ويوفر الأجواء التربوية السليمة لتحقيق أهداف المدرسة. وحتى يحدث ذلك لابد أولا من إلغاء مذكرة البستنة التي خلقت من المشاكل أكثر مما حلت، بنص صريح وواضح، وتقديم بديل أكثر نضجا في فهم ما يقع داخل المدرسة المغربية، وفي التمييز بين ما هو قابل للمعالجة التربوية وما يتجاوزها، فما صار يحدث في المدرسة المغربية يتجاوز في كثير من الأحيان المخالفات (بالمعنى القانوني) إلى الجنح، بله الجنايات.
ولا بد في اعتقادي من التنصيص صراحة على أن العقوبات ينبغي أن تتناسب مع الأخطاء، وألا يحدد لها سقف نهائي، بل يـُترك الأمر للتداول في المجالس الانضباطية، مع التشدد في التعامل مع كل أشكال العنف اللفظي والجسدي الموجه نحو نساء ورجال التعليم. فالأستاذ هو أولا موظف، وحمايتُه تقع على عاتق الدولة، خصوصا أنه ينتسب، مثله مثل رجل الأمن، إلى فئة الموظفين الذين هم على صلة مباشرة بالمرتفقين، لا يفصلهم عنهم حاجز، ويقدمون خدماتهم بشكل مباشر؛ لذلك ينبغي أن يقترن أي فعل اعتداء عليهم، وجوبا، بعقوبة تغيير المؤسسة في الأدنــى، وبالطرد من المدرسة العمومية في الحالات القصوى. وفي هذه الحالة فالتكاليف المالية المترتبة على الأسرة بسبب هذا القرار الذي يفقد فيه التلميذ حقه في المدرسة العمومية ستكون بمثابة عقاب، يُـشرك الآباء في تحمل مسؤولية ما يفعله أبناؤهم. صحيح أن التعليم هو حق تضمنه مختلف التشريعات الوطنية والدولية، ولكنه حق ينبغي أن يرتبط بالاستحقاق، فلا دولة مدنية بدون توازن بين الحق والواجب، ولذلك علينا أن نعلم تلامذتنا ان تملك هذا الحق والحفاظ عليه مشروط بمدى احترامهم له؛ كما ينبغي أن يقترن ذلك الاعتداء بتحمل الوزارة الفعلي لمسؤوليتها القانونية تجاه ما يتعرض له موظفوها، باعتبارهم، كما أسلفنا، موظفين عموميين يُفرض على الإدارة حمايتهم، وفق مساطر واضحة، فتقوم بتمثيلهم، وتوكيل محامين للترافع عنهم، والتنسيق مع وزارة الداخلية لإحداث خلايا خاصة، تتميز بسرعة التدخل والمعالجة لأحداث العنف التي تقع في مدارسنا، بدل أن يترك الأستاذ لوحده في مواجهة الأسر والإدارة والمجتمع.
ختاما، لقد كتبت هذا المقال، بعد أن لاحظت استفحال العنف وتزايد وتيرته في المجتمع المغربي عموما، وضد نساء ورجال التعليم خصوصا، ولست ساذجا حتى أختزل المشكل في مذكرة تنظيمية، أدفع بأن الحل، بالتالي، متصل بها اتصالا. إن معالجة ظاهرة العنف هو أكبر من هذا بكثير. ولكن ترسخت لدي كممارس وكملاحظ قناعة تفيد أن هذه المذكرة ليست فقط متجاوزة، بل إنه لا وجودَ شرعــيَّ لها منذ البداية، وقد صارت، بوضوح، جزءا من المشكلة، لا أداة للمعالجة، فقد أوصلت المدرسة إلى حال من التسيب لا يمكن لعاقل أن يقبله. وبالتالي فقد صار من المستعجل طرح بدائل لها.
لذلك أتمنى أن يجد هذا المقال آذانا صاغية، لا لتأخذ كل ما فيه بالضرورة، ولكن ليكون على الأقل أحد المداخل التي تعين على فهم حقيقة ما يجري داخل المدرسة، بما يساعد ذوي النيات الحسنة على ابتداع الحلول المناسبة.
آراء أخرى
الجديدة في 25 أبريل 2025