
شذرات في المسألة الدمقراطية

حوار مع صديق
آراء أخرى
أمهلت نفسي لبعض الوقت، ريثما يتبين الخيط الأسود من الأبيض، في واقع الصراع على سوريا وفي المنطقة عامة، بينما كان سقوط النظام في حواري السابق مع صديقي المشار اليه ،قد جرى في الأسبوع الأول لهذا السقوط المفاجئ. وكانت الوقائع حينها ليست جلية بعد ومشبعة بإسقاطات مسبقة على مستقبلها. فهل أثبتت الأشهر الفاصلة إلى اليوم أحكامي الفورية وقتها، هل أظهرت التطورات أفقا عاما، وفي أي اتجاه؟
قبل ذلك، أود التذكير للتوضيح وحسب، أن غرضي مما ختمت به مقالتي السابقة في المقارنة بين الوضع الفرنسي تحت الاحتلال النازي في عهد المارشال بيتان وحكومة فيشي والوضع في سوريا تحت حكم “سلطة الأمر الواقع” بقيادة أحمد الشرع (الجولاني سابقا)، كان يستهدف الخلاصات التالية:
– في الحروب، هزيمة أو إنتصارا لنظام ما عبر التاريخ، لا يتوقف على عامل واحد فاصل، مهما كانت درجة تقدمه على العدو. والمثال الفرنسي السابق، المندرج في زمننا المعاصر الحديث، يخفض إلى حد كبير من الرأي الشائع حول أن الديمقراطية كفيلة لوحدها لضمان النصر الحتمي. ومثال فرنسا، وهي أم الدمقراطية الغربية، في هزيمتها السريعة أمام الاحتلال النازي، من الأدلة التاريخية على نسبية أي من العوامل المجتمعية المتراكبة، والفاعلة، نصرا أو هزيمة في الحروب.
– وقد تميز الحكم النازي بطبيعته القومية الشعبوية العنصرية الدكتاتورية. لكنه صعد إلى الحكم بانتخابات برلمانية في ظروف إقتصادية –إجتماعية مأزومة، والشعب الألماني يعاني من ترسبات لشعورعام بالإذلال القومي من جراء تبعات الإذعان للشروط المفروضة على ألمانيا في هزيمتها بالحرب العالمية الأولى. مما مكن النازيون من استغلال هذه الظروف مجتمعة لسيادة الأيديولوجية النازية القومية العنصرية على المجتمع. ومن تم الصعود بالديمقراطية ثم الانقلاب عليها بدكتاتورية قومية شعبوية. الديمقراطية المؤسسية إذن، إذا فقدت ماهيتها الإنسية وطنيا واجتماعيا وعالميا، تتحول إلى مجرد آلية من آليات حكم أقلية حتى لو كانت ذات شعبية عارمة.
-أما وجهة المقارنة تحديدا بين الوضعيتين الفرنسية والسورية، ليس بداهة في عمق الثقافة الديمقراطية المجتمعية في الأولى، بينما هي من الضحالة في الثانية. لكنهما معا يشتركان في اللحظة التاريخية لكل منهما، أن جماهير واسعة في كل منهما حملت آمالا واهمة إما في درء توسع الاحتلال النازي وإنهائه، كما كان الحال في فرنسا. وإما أملا في إنهاء الاقتتال الداخلي لاستعادة استقرار الوحدة الوطنية، ورفع الحصار الاقتصادي الذي أنهك المجتمع ماديا ونفسيا. كما هو الحال اليوم في سوريا . وفي الحالتين ،سيشتركان معا، ولو بعد فترة، في أن طريق الخلاص هو نفسه كما كان في فرنسا، بعد انطلاق المقاومة الشعبية وبدعم عسكري بقيادة الجنرال دوغول، كذلك سيستفيق الشعب السوري أيضا على أن مقاومته للاحتلال الإسرائيلي هي المدخل الرئيس لتخلصه من الانتظارية الواهمة ومن أدران الانقسامات الطائفية والمذهبية، ولاستعادته لوحدته الوطنية المستقلة والكاملة السيادة.
2
فكيف وقع إذن ما وقع في سوريا؟ وما هو تفسيري لهذا الوقوع المفاجئ؟
في هذا الجواب، سأستغل في صياغته بعض الوقائع المستجدة التي لم تكن حاضرة وقتها في الحوار. ولغزارة التأويلات والتفسيرات لما وقع، وخاصة ممن يسمونهم بالخبراء المختصين، لا أرى فائدة في تقييمها واحدة واحدة. لكنني ألاحظ توا ما يلي:
– لا أحد يملك وقائع يقينية على ما حدث من تسليم للسلطة بلا مقاومة، وبانسحابات متتالية للجيش، مع ترك أسلحته وخلع بدلاته العسكرية. ولا أحد يزعم أن من دخلوا حلب وحمص وحماة ودمشق ، دخلوها ضافرين في معارك قتالية، أكسبتهم انتصارا مبينا، إلا مَنْ افتقد لذرة حياء من كذبه البواح. إنه إ ذن، تسليم واستلام وحسب وليس بالمعركة الضافرة قط
-هذه الصورة اليقينية لوحدها، تفوح منها رائحة مؤامرة ما. لكن ممن و كيف ؟!
هنا يذهب البعض إلى ملء فرغات الأدلة المقنعة، باختلاق أجوبة من رؤوسهم، يعتبرونها منطقية وواقعية بالضرورة .ومن بينها خصوصا، لابد وأن إجماعا دوليا قد حصل، وفي مقتضاه التخلي عن النظام السوري. وخاصة عبر تفاهم على تنازلات متبادلة بين أمريكا وروسيا (وحتى إيران) في أوكرانيا مقابل سوريا (ولإيران تعليق الضربة العسكرية الأمريكية المزعومة والقادمة حتما). هذا التفسير الساذج والسطحي سرعان ما ينهار منطقه كلما توغلنا في تحليل شبكة التناقضات المعقدة بين كل الأطراف الفاعلة في المنطقة، بموازين قواها وأهمية سوريا لديها في استراتيجية كل منها محليا ودوليا، ولو بمعيار الربح والخسارة في أية مساومة من هذ ا القبيل. لعل المتتبع يدرك جيدا، أن جميع القضايا الكبرى الجارية في الصراع الدولي مع الصين أو في أوكرانيا أو مع إسرائيل في فلسطين ولبنان واليمن ومع ايران، ما زالت جميعا تغلي على صفيح ساخن، ولا مقدمات ديبلوماسية مضمونة النتائج بعد، تتيح لتقديم تنازلات مسبقة من هذ ا المستوى وفي منطقة لها وزنها النوعي على مسار الصراع الدولي. وبتعبير آخر، لا يمكن لأي طرف، كما يقول المثل المغربي “ان يشتري الحوت في البحر” قبل صيده. ولسخافة وتبسيطية التحليل السابق، كان بإمكاننا أن نكتفي بسؤال واحد: إذا كانت المصلحة الروسية هي فقط استمرار قاعدتيها العسكريتين في سوريا، ألا يمكن ضمان بقائهما في تفاهم جديد مع تركيا الفاعل الأكبر في سوريا اليوم، لتشابك مصالحهما وحاجاتهما لبعض، كما كان من قبل، وعلى الرغم من اختلافهما السابق من النظام السوري؟! المسألة في النهاية أكبر من القاعدتين الروسيتين على أهميتهما، وبالتالي، سقوط النظام السوري الحليف، هو في المنظور الاستراتيجي الروسي والإيراني خسارة كبرى لهما .
-ما يتم غض النظر عنه في تلك السيناريوهات كثير وفاقع للغاية. ومنه استصغار كلي لمآسي ومضاعفات حرب دولية وإقليمية طاحنة على سوريا لأزيد من أربعة عشر سنة، تظافرت فيها كل عناصر الحرب الشاملة (لأزيد من ثمانين دولة، سميت بالصديقة “للثورة السورية”). استخدمت فيها كل الوسائل : القتالية والمخابراتية والاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية والأيديولوجية الطائفية المذهبية .واستمرارها الإعلامي إلى اليوم، أي بعد سقوط النظام، يسعى الى تحميل المسؤولية كاملة على النظام لوحده وكأنه الاستثناء عالميا في ما يقولونه استبدادا وحشيا ومجرما. وكأن تلك الحرب الشاملة وبتلك الطاقات الهائلة لم تكن سوى دعوات للخير ونسائم منعشة للحرية والديمقراطية.
3
ولأني لا أريد السباحة على نفس علو أمواج هذ ا البحر الإعلامي المظلل، فإني أختزل تفسيري لواقعة سقوط النظام السابق في الحيثيتين التاليتين:
* من جهة، الواقعة الوحيدة بين أيادينا وتحت أنظارنا، والتي يمكن استنطاقها أن يكون أقرب للحقيقة، ليس سوى الانسحابات المتتالية للجيش السوري، إما لاختراقات تآمرية داخل قياداته، وهذا متوقع من جيش منهك ويعاني ضباطه وجنوده من شظف العيش ومن انهيار المعنويات لدى المجتمع برمته من شدة تداعيات الاقتتال الداخلي عليه، معطوفة على قساوة العقوبات والحصار الخارجي على وحدة المنظومة الاقتصادية الوطنية، لتفككها وتراجع مواردها ومنافعها. وعلى وحدة الروابط المجتمعية، وعلى مستوى المعاش ونمط الحياة عامة. لهذا كان الاختراق متوقعا في مثل هذه الظروف العسيرة الاحتمال، لاسيما وأنها الطعم الجاذب لاشتغال جبهة المخابرات، وهي من الجبهات الرئيسة في الحرب الشاملة، والتي لم يتوقف أبدا التركيز عليها. وإما أن الرئيس السابق هو من اتخذ قرار الانسحاب، وأبلغ به من ما زالوا من القادة العسكريين تحت إمرته، اذا صح التوقع الأول، تحاشيا من مغامرة قتالية قد تسوق لحرب دامية أخرى طويلة، لا الجيش ولا المجتمع باتا قادريين على تحمل تبعاتها
* ومن جهة ثانية، لم يكن ذ لك إلا جانبا واحدا فقط، أما الجانب الآخر، فسيحيلنا حصرا الى الدور التركي الصانع والفاعل الرئيسي في هذا الانقلاب على النظام، والراعي للحرب الشاملة على سوريا منذ أول اندلاعها. ومن دون الدخول في تفاصيل العلاقات التركية – السورية المتقلبة ،يلفتنا أنها مرت بسنوات عسل بين النظامين، بلغت حدا غير معتاد في علاقات الصداقة الحميمة بين أسرتي الرئيسين، وبانفتاح موسع على الصادرات التركية، أثارت تنافسيتها غضاضة غير خفية من المستثمرين السوريين. وبدون الوقوف على أول سبب مكثوم في تنافر العلاقات بين تركيا وقطر حليفها العضوي وبين سوريا، حيث كان السبب، رفض سوريا لمشروعهما في إقامة ممر للغاز القطري يعبر سوريا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. وكان الرفض السوري ناجما عن أضراره التنافسية على غاز الحليف الروسي . ولذلك سأذهب مباشرة الى التذكير بالعناصر الكبرى التالية:
أولا ،أن تركيا دولة كبيرة الأهمية في الحلف الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي سابقا وفي المنطقة عامة ما بقي هذا الحلف. وهي أول دولة إسلامية اعترفت فورا بالكيان الإسرائيلي وما زالت تحتفظ بعلاقاتها الطبيعية معه على جميع المستويات، على الرغم من بعض التوترات التي تحدث بين الحين والآخر.
وثانيا ،لانسداد أفق انضمامها لعضوية الاتحاد الأوروبي .والمانع في الحقيقة، ليس سوى أنها بلد إسلامي كبير، لا يتوافق مع الثقافة المسيحية الثاوية في المجتمعات الأوروبية وفي الاتحاد الأوروبي أيضا. ناهيك عن توسع النزوعات العنصرية ومنها خصوصا “الإسلام-فوبيا”.
وثالثا، أن تركيا، لعلمانيتها الفوقية والقسرية في بدئها، وفي مجتمع كانت وما زالت ثقافته الدينية طرقية بالأساس، ولها خلفية سياسية إمبراطورية عثمانية.
نجم عن كل تلك الترسبات العميقة قلق في هوية المجتمع بين انتسابين للغرب أو للشرق. عدا مشكلتها المزمنة مع الأكراد، ومع العلويين الاكثر حساسية تجاه اي سلوك مذهبي، وهما معا يمثلان نسبة غير قليلة في التركيبة الوطنية لتركيا. ولعل في تظافر تلك العناصر الكبرى ما يفسر لنا لماذا أيديولوجية الحزب الحاكم تتسم بطابع إسلاموي سياسوي برغماتي إلى أقصى الحدود، لا تشدها مبادئ لعقيدة دينية صلبة، كما هو في الشأن الإيراني مثلا .ولماذا كانت لتلك الأيديولوجية تطلعات جيوبوليتيكية عثمانية الخلفية، والتي لازالت تداعب مخيالها الاستراتيجي ولو في حدود الممكن، ولهذا محاولتها الدؤوبة لتمثيل قيادة الحركات الاسلامية السنية في حدود السياقات التي تتيحها لها علاقاتها الغربية- الامريكية-الاسرائيلية.
والعنصر الاخير، والذي يهمنا اساسا من تلك، أن لتركيا، ولدوافع جغرافية واقتصادية وسياسية، حاجيات ومصالح قومية مع جيرانيها الروسي والإيراني، وإن كان ميلها قويا للغرب. ومن ذلك،مواقفها من أزمة أوكرانيا، ومن أزمة سوريا وشراكتها لروسيا وإيران في منصة استانا. وهذه الاخيرة هي بيت القصيد في موضوعنا هذا. وهنا لا بد لي ان اقف سريعا عند محطات فاصلة في ما حدث في سوريا.
4
*قبل الازمة، كانت الدولة السورية قد جمدت كليا ملفها القديم في اقتطاع تركيا للواء الاسكندرون من ترابها الوطني. وجاء التدخل التركي العسكري في الازمة بحجة التهديد الذي يمثله الوجود الكردي السوري المسلح (قسد) على الأمن القومي التركي، ومعه وقوف تركيا لجانب كفاح الشعب السوري من أجل الحرية والدمقراطية ضد قمع واستبدادية النظام . هيمنت تركيا على الجانب الغربي الشمالي من سوريا، حيث تجمعت معظم الفصائل المسلحة تحت المظلة التركية (ما عدا قسم (قسد) في الجانب الشمالي الشرقي بحماية أمريكية). ومساحة الطرفين تقدر بعشرين في المائة (20%) من المساحة السورية الكلية، وبما تحتويه من موارد كبيرة الحساسية في توازنات الاقتصاد الوطني (الزراعة، البنزين والماء). وما يلفت في التدخل التركي المباشر أنه حمل مؤشرات تشي وكأنه إحتلال دائم، من إحلال العملة التركية وتغيير مناهج التعليم الى رعاية حكومة مؤقتة وتمويل وتدريب الفصائل المسلحة. بينما لم يعد بمقدور تركيا تنفيذ تهديداتها التصفوية لقسد للحماية الامريكية لها إلا في معارك منتقاة بحذر شديد من استفزاز تلك الحماية.
بعد هذه الصورة العامة للوضع السوري في الشمال، يمكن لنا أن ننتقل الى الدور الفاصل لتركيا في الانقلاب الأخير على النظام السابق. ويحضرنا للوهلة الاولى الطلب الشهير لأردوغان برغبته في لقاء الأسد لتصفية الأمور العالقة بينهما، ورفض الأخير لهذا اللقاء ما لم تتعهد تركيا رسميا بانسحابها الكلي من سوريا. هذا الطلب الذي قوبل بالكثير من اللغط الاعلامي، حتى وإن صح أن روسيا وايران ساندته، فإ ن سياق الأحداث يبين، انه كان من قبل أردوغان مجرد مناورة تمويهية لا غير، بينما كان الاستعداد للنقضاض على النظام جاهزا، ومن الأدلة على ذ لك تصريح نتنياهو، بعد ايام قليلة من طلب اردوغان، ولعلمه بما يحضر في الكواليس، مهددا، بأن “الأسد يلعب بالنار”. وليس استثناء في التقاليد الدبلوماسية أن الرئيسين في اي نزاع كبير لا يلتقيان إلا بعد تمهيد من المسؤولين الأدنى لدراسة الحلول الممكنة للقضايا وتقديم أرضية متفق عليها للقاء الرئيسين. وثم ما ذا كان يمنع أردوغان من أن يعلن بالصيغة التي يفضل أن تركيا ملزمة بالانسحاب الكلي، وإلا كما قال الأسد في جوابه الكامل غير المنقوص إعلاميا “عند ويل للمصلين”، إذا كان كذ لك، فلماذا لا أقابل نتنياهو أيضا ؟!
دعنا من هذه الجزيئات التي قيل فيها الكثير لتحميل المسؤولية فيما وقع لعناد الرئيس السوري، ولولا ذلك لجرت الأمور على أحسن ما يرام. ولننظر لما وقع من زاوية أخرى أهم. قد لا تكون منصة “استانا ” وضعت صراحة حل كل الخلافات الممكنة بالتشاور والاتفاق الجماعي بينها، وألا ينفرد أي طرف بسلوك مغاير مستقل يحطم قوام وجود هذه المنصة. لكنه عُرف يوجبه الهدف المشترك وصدق الارادة من إنشاء المنصة، بغاية التعاون الجماعي لتثمير الخطوات الإجرائية من أجل الوصول إلى حل نهائي يحافظ على السيادة الوطنية السورية، ويراعي ما هو أبعد في المصالح المشتركة على مستوى المنطقة بما يقدمها ويرسي أمنها واستقرارها. غير أن تركيا، والتي ظلت تراوغ وتماطل في ما التزمت به من خطوات اجرائية تجاه المليشيات التي تحتضنها، فضلت ان تتنصل كلية من تحالفها في استانا، وأن تفاجئ الجميع، إلا أمريكا وبالتبعية إسرائيل، بما قامت به. انه سلوك انفرادي انتهازي بلا ريب، ويعيد التأكيد على ما قلناه عن الطبيعة الأيديولوجية السياسوية المفرطة البرغماتية، وعن التقلقل في الهوية الحضارية وترسبات المخيلة العثمانية. ولعمى الحسابات البرغماتية الانتهازية الآنية، لم تتوقع تركيا جيدا أن طمأنتها لإسرائيل على لسان الشرع، لا يطفئ عطشها العدواني التوسعي. فكانت فضيحة بالجلاجل (كما يقال) للسياسة البراغماتية الانتهازية،الضيقة الأفق دائما وفي أي مكان.
5
-ويبقى السؤال قائما، ما هي السمات العامة للوضع الراهن في سوريا ؟ وأي مأزق وجد الحكم الجديد نفسه فيه؟
كما سبق، أصرف النظر دائما عن التفاصيل، لكي أنتقي وأشدد على السمات البارزة المعروفة التالية:
لعل أخطر واقعة صارخة في الوضع الجديد، أن سوريا لم تعد دولة قائمة الأركان، وإنما هي مجرد سلطة، مطعون في استقلاليتها السيادية، مشكوك في طبيعتها الأيديولوجية واختياراتها المجتمعية الجديدة، المعلن عنها. وليس لها ما يبرر انتسابها العضوي لمسيرة المجتمع المدني السوري الحق . وقطعا هي لا تملك كل المؤهلات لقيادة دولة تقع في إحدى بؤر الصراعات الدولية، ولها تاريخ حضاري ، مهما قيل في نقائص حكامه السابقين، إلا أنهم كانوا من صلب التطور المجتمعي، كما هو في حاضرهم، لا من شواذ غياهبه. قرائن هدا الحكم عديدة، ولعل أهمها :
*لا يوجد في سوريا اليوم أي مؤسسة سليمة من مؤسسات الدولة، سوى ما يسمونه مجازا، جيشا وأمنا. وهو ليس إلا إسما مستعارا لنفس المليشيات السابقة لهيأة تحرير الشام، بخليطها السوري والأجنبي، بينما فُكك الجيش العربي السوري بالكامل، واستمر إغماض العين عن الاستعانة بأطره وجنوده، إن لم يتم اعتقال وتعذيب (وحتى إغتيال) من سلموا أنفسهم بحسن نية للحكام الجدد. والأنكى من ذلك، أن إسرائيل قامت في الحين وبلا تردد، بضرب كل المنشآت التسليحية الدفاعية الرئيسة للجيش الوطني السابق. كما تم تسريح الآلاف من العاملين في الجهاز الإداري وفي باقي مرافق الدولة، بما فيها السطو على المؤسسة الدينية الرسمية السنية التوجه باعتقال مفتيها الشيخ ” البوطي”، وبعد ان اغتالوا نجله وأعلن سماحه لهم.
*وعلى الرغم من كل الخطابات الرسمية للسلطة الجديدة، المطمئنة والواعدة بالحوار واشراك كل المكونات المجتمعية في بناء الدولة وفق قواعد حقوق المواطنة المتساوية، وفي مرحلة انتقالية قصيرة تؤسس لدستور جديد ومؤسسات تمثيلية ديمقراطية بالمعايير الحديثة، كانت الممارسة الفعلية تتناقض وهذا الخيار المعلن المطمئن، بينما هي في الحقيقة كانت تسعى لما تسميه أدبيات هذا الرهط من الحكام “بالتمكين”، وغايته احتكار كل المفاتيح الرئيسة للسلطة بيد أتباع من هم اليوم حكاما واستتباع باقي قوى المجتمع لاختياراتهم وهيمنتهم. وكذلك كان في الحوار الوطني الذي طبخ على عجل، وانتقيت أسماءه بعناية. فكان مجرد مونولوج خاطف حاورت السلطة فيه نفسها. وبالمثل، ما سمي بالإعلان الدستوري الذي مطط المرحلة الانتقالية لخمس سنوات، ومنح معظم سلطات القرار لرئيسها الانتقالي الحالي، ثم عدا صياغاته الاخرى الملتبسة القابلة لتأويل محافظ وارتدادي.
وعلى نفس المعيار التمكيني الإقصائي تم تشكيل الحكومة الجديدة، والتي لا تعبر في عضويتها عن أي تمثيلية معتبرة ومتوازنة. والأخطر من كل ذلك، تقوم الدعاية الموالية بشد العصبية المذهبية السنية. لعلها تكسبها لصالح أن الحكم القائم يمثل خلاصها من نظام طائفي علوي سابق، وللتغطية أيضا على مجازر الإبادة المنظمة التي لحقت بالعلويين وغيرهم من سكان منطقة الساحل حيث يتمركزون. هذه المجزرة، وغبرها من أشكال الفلتان الأمني الذي تقوم به العصابات المسلحة “الحليفة” في مناطق أخرى، رفع منسوب الهواجس المذهبية والطائفية والإ قوامية واللاثقة في المستقبل المنظور لدى كل مكونات المجتمع السوري.
وهكذا، يبدوا أن الوضع السوري الإجمالي سيظل على حاله، كما هو على السطح السياسي لمرحلة ستاتيكية قد تطول، إلى أن يتضح الاتجاه الغالب الذي ستستقر عليه الصراعات الجارية عالميا وبالأخص منها، ما يجري في المنطقة بين أمريكا وإيران في الملف النووي من جهة أخر ى. وتتضمن هذه الوضعية استاتيكية المعلقة العناصر التالي :
1) في ظل تفاقم الهواجس الحذرة والانكفائية على الذات، وفي أجواء اللاثقة في سلوكيات الحكم القائم، لا يمكن لتصورات المرحلة الانتقالية وللدستورالقادم إلا أن تأتي من قبل كافة المكونات الأخرى مشروطة ومدموغة بتلك الهواجس وقاية لهويتها الفرعية، بينما يسعى الحكم إلى مركزية للدولة الجامعة، لكن بعقلية هيمنية مذهبية اقصائية. ولهذا من المرجح أن يبقى الوضع على حاله بين شد وجذب لن يخلو من استعمال القوة المباشرة، أوغير المباشرة بالحمايات الخارجية. والمعضلة لدى الحكم أنه لا يستطيع أن يذهب بعيدا في تصور ديمقراطي للدولة المركزية الجامعة، المبنية تمثيليتها وفي كافة المؤسسات على المساواة في حقوق المواطنة، لأن معضلته بنيوية وخصوصا من تلك التنظيمات الأجنبية من مختلف الأجناس الداعمة له. وهي لا تدين بعقلية الوطن والمواطنة، وتؤمن بأن كل من يخالف عقيدتها في غزوتها الظافرة هو غنيمة مستباحة لها، مما سيشرع الأبواب حتما، إما لفوضى قادمة وإما لتوثرات دموية متلاحقة، وإما لاقتتال داخلي بين تحالف السلطة القائمة.
وليس بعيدا عن هذا المعنى، أن أحمد الشرع برر في حوار صحفي معه، رفضه للشرط الأمريكي بإفراغ قيادات الجيش القائم من الأجانب، والسماح للقوات الأمريكية بحرية الحركة ضد من تحسبه منهم إرهابيا. فأجاب قائلا بأن هذا التصرف في تقديره سيؤدي الى اقتتال داخلي، بينما الحاجة ماسة الى الأمن والاستقرار. وفي مقابل الشرط الثاني، باخلاء سوريا من الفصائل الفلسطينية المقاومة، أكد على أن الحكم الجديد عازم على ضمان الأمن لكل جيرانه، بمن فيهم اسرائيل
2) إدارة ترامب الحالية، تضع المسألة السورية في أسفل سلم أولوياتها، أو تابعة لما ستجنيه من المحطات العربية في فلسطين ولبنان واليمن، ومن لقاء ترامب بقيادات عربية في زيارته القادمة القريبة الي المنطقة. ولذلك نرى الادارة تكتفي بالتأني والتدرج في تعاطيها مع السلطة القائمة في سوريا، وبما يفيد الضغط عليها لتسريع تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وللتقدم نحو إقامة دولة قريبة من النموذج العراقي للتزامها أصلا بحماية الأكراد السوريين، ومع الإبقاء على سوريا تحت تقاسم النفودين التركي والإسرائيلي. هذ ا التعاطي المتدرج والمتأني، وبأهدافه العليا السابقة، في انتظار ما ستؤول اليه الحصيلة العامة ذات الأولوية، ظهر جليا في تخفيض رتبة تأشيرة دخول الهيئة الدبلوماسية السورية للولايات المتحدة، بما يعني أنها هيأة غير معترف بعد بحكومتها. وظهر في التقسيط المتريث في رفع كل العقوبات الاقتصادية الواردة في قانون قيصر وفي غيره، وهي الأمل العاجل المنقذ لسلطة الأمر الواقع من الأزمة الاقتصادية وتداعياتها المزرية والمهددة لاستقرارها. وظهر أخيرا، في ما صرح به ترامب في لقائه بنتنياهو، في مشهد التقريع النرجسي الإعلامي المعتاد مع زواره، مهنئا صديقه أردوغان على ما أنجزه في سوريا، ومنبها صديقه المدلل نتنياهو إلى أن يتعامل بعقلانية مع حصة أردوغان الكبرى في سوريا. وكأنه قال: ” أسمع تجشؤك من كثرة ما التهمته بشره وما فعلته بالقوة لإنجاز حلمك الكبير والقديم في سوريا أهنئك لكن تريث وتعقل مع صديقنا اردوغان ”
وذلك ما جرى فعلا بعد هذه النصيحة في اجتماع لقادة أمنيين من الطرفين” التركي والاسرائيلي” في أدرببجان لتسوية وتهدئة الخلافات بينهما، وخاصة في ما يتعلق بإقامة قواعد عسكرية تركية على مقربة من ما تعتبره إسرائيل مناطق عازلة في نفوذها الناري. وكيف لا، وتركيا تحفز الحكم السوري القائم، ولا تعترض قطعا على تطبيع كامل وارد في أجندته. غير أن لإسرائيل ولاعتداءاتها مطامع أوسع في سوريا لم تحسب لها الحساب تركيا مطامع تربكها وتمرغ مزاعم استحقاقها لقيادة المنطقة الإسلامية السنية.
وفي جميع الأحوال ، فلا شك في أن، تقاسم النفو ذ التركي – الإسرائيلي، وشروط الولايات المتحدة لاعترافها الكامل بالسلطة القائمة ولرفع العقوبات الاقتصادية، وتوجسات الهويات الفرعية وأغلب المجتمع السوري، والمذابح المذهبية مع الفلتان الأمني المستمر، في مقابل سلطة غير قادرة على انعاش العافية الاقتصادية ولا على استثباب الأمن والسيادة الوطنية، لا شك في أن هذه العوامل مجتمعة ستكرس وضعية اللادولة الى حين أن تستقر قضايا الصراع الاخرى في المنطقة على اتجاه معين، والأرجح فيه، أن إسرائيل هي التي ستدخل في أزمة فوضى سياسية نكوصية متواصلة، وحينها لا مناص من أن الشعب السوري وقواه الديمقراطية الحقة، هي التي ستستعيد المبادرة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والتخلص من أوهام الانتظارية وتوجسات الهويات الفرعية نحو بناء الدولة بهويتها الجامعة التحررية والوطنية الحقة,
6
وإذا عدنا الى المسألة الديمقراطية، وقد حاولت أن أقدم عنها شذرات سياسية أساسا، لم تحفل بتحليل ما هو دستوري ومؤسساتي وقانوني، وأملي ان اتناولها من هذه الوجوه، إن تمكنت من ذلك لاحقا. ((إذا عدنا) فإن أول ما تبادر الى ذهني، أمام هذا العجز الفاضح لمجتمعاتنا العربية في التحول إلى أنظمة ديمقراطية متقدمة، تتخطى فعاليتها حواجز التخلف والتأخر، القولة الشهيرة القديمة عن سوريا، عندما خرجت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي باتفاقية كامب دايفيد، حينها قيل “لا حرب نظامية بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا” وأظن أن هذه القسمة بين الحرب النظامية والسلام لكل من البلدين ، أكدتها التجربة الى اليوم.
فالحروب النظامية توقفت، وبقيت الدولة السورية طيلة العقود السالفة، أكبر معيق لسلام مع إسرائيل. والذي بات شرطه التخلي عن فلسطين. لكن أهم ما تنطوي عليه هذه القسمة بين البلدين أكبر من ذلك بكثير، لأن خلفيتها العميقة، والتي أكدتها تجربة الصراع العربي – الإسرائيلي أكثر من غيرها، أنه لا حل للقضية الفلسطينية جذريا، لخصوصية الاحتلال الإسرائيلي الإحلالي والتوسعي، إلا إذا وُضعت القضية لدى كل قطر، ولديها جميعا في استراتيجية موحدة للأمن القومي بكل أبعاده،الدفاعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. هذا الخيار لم ترق له قط التجربة العربية، إلا في لحظات استثنائية تضامنية في حدها الأدنى لم تدم طويلا وكانت قمتها في حرب أكتوبر. وعلى النقيض من ذلك كان المعنى السياسي العملي الوحيد لشعار القطر أولا، السائد اليوم، ليس الا التخلي عن أي استراتيجية للأمن القومي وفي القلب منها القضية الفلسطينية، ولا أدل على ذلك من أن معظم تاريخ العلاقات القطرية كان صراعات بينية تدميرية في كل محطاته الكبرى. إلى أن وصلنا إلى هذا المستوى من العجز الفاضح رغم كل المؤهلات المشتركة لتكون المجموعة العربية قوة إقليمية في مستوى تحديات عصرها. وقد كنا في الماضي القريب نقول، أن الدولة القطرية غير قادرة لوحدها على التنمية الاقتصادية بمقاييس التطور التكنولوجي والمعرفي وعلى الأسواق الكبرى في حاضر معولم، ويقوم فصاعدا، على التكتلات الكبرى، القومية وما فوق القومية، واذا بنا اليوم، نرثي الدولة القطرية نفسها إلى ما قبلها من تفكك بارز أو مبطن للكيانات القطرية ذاتها ومن انعدام مذل للسيادة الوطنية والقومية معا .
إنه قانون التنمية الاقتصادية في عصر العولمة، كيفما كان نموذج التنمية ونمط إنتاجها. وخير مثال على ذلك، ما أسميناه باكرا ” بالنمور الأسيوية” . والتي اعتمدت في انطلاقاتها على انتقائها لتنسيقات تكاملية جهوية. في بداية الثمانينات انعقد مؤتمر قمة عربي خصص لأول مرة اجتماعه، وأقر، خطة عربية للتنمية المشتركة وللتكامل الاقتصادي. وأين نحن منها اليوم في أوضاع السودان وليبيا وسوريا واليمن والعراق ولبنان وانفراط الاتحاد المغاربي بفعل الدور العدائي للحكم الجزائري في تحرير المغرب لصحرائه. والقارئ لا يخفى عليه أن كل الأوضاع المأساوية الأخرى السابقة كانت بدعم من أياد عربية أيضا. ؟ وعدا ان التكامل الاقتصادي يقتضي الاستثمار المتبادل والمشترك للمدى البعيد، وبما يفرضه من تغليب للمصالح المشتركة بدل ربح اقتصادي وسياسي وازعه الوحيد حماية المصالح الفئوية المهيمنة والضيقة والمخفية وراء شعار ” القطر أولا
لكن غياب الاستراتيجية الموحدة للأمن القومي بكل ابعادها، وغلبة الفتنة البيئية القطرية بدلها، لا يلغي من حساباتنا عند تحليل محدودية التجارب التحررية (لارتباطها العضوي الموضوعي التاريخي والجيوبوليتيكي) الدور الكبير للفتن البينية في فشلها. ناهيك عن أخطائها وقصورها الذاتي. التنبيه لمركزية هذه الحيثية النقدية في غياب استراتيجية للأمن القومي وعجز الدول القطرية في الخروج من أسوار التخلف والتأخر، والأدوار الكبرى المدمرة والفاصلة للصراعات البينية، التنبيه ضروري وأشد إلحاحا في هذا الزمن الرديء الذي اضحى فيه الخيار القومي الوحدوي في الحسابات العالمية المعاصرة، ترفا فكريا زائدا عن الحاجات المحلية أو لغة خشبية فات أوانها. ولا يخفى علينا في هذا السياق أدوار الإعلام المحلي والخارجي وخيارات السياسة التعليمية في تكريس ونشر هذه العاهات بشتى الأساليب “التثقيفية و الوسائل التجهيلية.
واستكمالا لنفس المنهاجية النقدية. ينبغي عند أية انعطافة لأزمة شاملة، أن نضع تحت المجهر عمارة المجتمع بأكملها، لا مستوى واحدا منها فقط، باعتبار أن الجميع يكون حينها مسؤولا. وفي هذه الذروة، يكون المجال السياسي هو المعبر عن كافة التناقضات التي تنحر المجتمع بما هو حصيلتها ومرآتها في آن واحد، ومع أن تلك التناقضات في الممارسة السياسية لا تكون على نفس المستوى من النضج القابل للحل دفعة واحدة. وهنا تحديدا، تظهر كفاءة النخبة، بكل أصنافها في الحكم او المعارضة ويظهر مدى قدراتها على ضبط خطواتها لتستجيب بعقلانية وبعد نظر لاستحقاقات التقدم.
وقد لا يعطي المخاض لبناً لصالح التقدم وللمجتمع عامة. وحينها يكون الفشل هزيمة للنخبة جمعاء وللمجتمع نصيبه من المسؤولية هذه هي الفكرة الحاكمة في تصوري للتجربة السورية المأساوية، وهي في التالي :
لأنني في المبتدأ لا أنازع بالمرة في أن النظام البعثي في تطوره العام، كان نظاما أمنيا سلطويا إلى حد كبير، كأغلب الأنظمة العربية وسواها. ولذلك لن أقف عند هده الخاصية التي أشبعت إعلاميا وكتابة بالتفاصيل الصحيحة وحتى المظللة. والتضخيم الإعلامي السودوي معتاد في كل تجارب القطيعة مع نظام سابق. لكن هذه التجارب تبين أيضا، أن المجتمعات مع مرور الزمن تعيد التوازن لذاكرتها الجمعية ولسرديتها التاريخية، سلبا وايجابا. وفي شذراتي السابقة في المسألة الديمقراطية نوهت الى ان الأنظمة، التي استنسخت بشكل ما مؤسسات التجربة السوفياتية في قيادة الحزب الواحد ولو كانت لفافته جبهوية بصلاحيات محدودة، لا بد له، وكيف ما كانت شعبيته قوية، من أن يعمل على تنمية دولة الحق والقانون، وعلى صون حيوية المجتمع المدني في التعبير والابداع والدفاع عن المصالح الفئوية المستقلة لان هذه هي روافع الانتقال نحو مجتمع اشتراكي ديمقراطي ومؤنسن، إذا ما تظافرت مع الرافعة الركيزة في التنمية الاقتصادية المستدامة وذات الرعاية الاجتماعية المتواصلة التوسع والجودة. وإذا ما اختلت حسابات هذه المعادلة، فلا شيء يقي من الانهيار والدوران المفرغ وراء أسوار التخلف والتأخر.
وما يخص التجربة السورية هنا، أن البعث جاء الى السلطة بانقلاب عسكري، بعد نضال سياسي مدني ليس بالقصير. وهذه إحدى مفارقاته مع الانقلاب المصري الذي لم يكن يملك أداة حزبية سابقة . ولذلك، كانت القيادة الانقلابية المصرية متعددة الهوى الايديولوجي، من الاسلامي الى الليبرالي الى الاشتراكي الى الوطني وحسب، وكان هذا الحال من الاسباب الرئيسة في تلعثم مسارها، وفي الانتكاسات التي اصابتها، الى ان تم “انقلاب القصر” على خياراتها القومية والاجتماعية والتحررية والتي كان مدبرها وضامنها الاكبر زعامة عبد الناصر. بينما جاءت الحالة السورية في السلطة من حضن حزب سابق، أيديولوجيته في المنطلق كانت قومية رومانسية “في سبيل البعث لصاحبه زعيم الحزب الروحي ميشيل عفلق”، أكثر منها فهما علميا تاريخيا. والتي ستتطور نسبيا بتبني الحزب “لاشتراكية وسطية” إن جاز القول. وخاصة في مراس تحديات وجوده في السلطة. ولربما كان للمنطلقات النظرية التي أقرها المؤتمر السادس للحزب في سنة 1962 تأثيرا ما في التخفيف من ايديولوجيته القومية-الاشتراكية الرومانسية الموروثة. وفي كل مراحله لم تسعفه الايديولوجية المتقلقلة، بين منشئها القومي الرومانسي من جهة وبين مصالحه السياسية الحزبية السلطوية. وهذه قضية تحتاج الى تفاصيل لمحطات لم يكن فيها دائما منسجما مع مبادئه. ما يلفتنا في هذه العجالة، أن ظاهرة تزاوج الجيش والسلطة، لم تكن ظاهرة محض سورية ( و ان تعددت انقلاباتها السابقة)، ولا عربية استثنائية، حيث كان لها سوابق ولواحق في تجارب عالمية مختلفة، سواء كان منها ما يخدم اجندات رجعية إمبريالية ( كما جرى في الشيلي على إلندي وفي أندونيسيا على سوكارنو وفي إيران على مصدق ) وكما كان منها من عبر عن روح وطنية تحررية في الكثير من بلدان العالم، وكان منها ما استمر لمرحلة أو حلقة وسيطة لتسليم السلطة لمدنيين منتخبين ( كما جرى في البرتغال وفي السودان سوار الذهب) ومنها أيضا من حكم وراء الانتخابات الديمقراطية، والمثال الأبرز كان في باكستان وتركيا. وفي جميع الحالات وفي أي بلد مهما كان متقدما وديمقراطيا، للجيش مكانته في صنع القرار. خاصة في تلك التي تعتمد على القوة ولها صناعات حربية تصديرية ضخمة في فرض مصالحها وفي صنع قرار أجندتها الامبريالية، وحالة أمريكا وإسرائيل نموذجية في هذا الصدد. وهذا الدور الخفي للجيش في السلطة، كبير او صغير هو من أركان ما يعرف اليوم بالدولة العميقة .
وفي جميع التجارب الانقلابية العربية، والتي سميت بالأنظمة التقدمية لمعايير اقتصادية واجتماعية وسياسية ذات ميول تحررية، غير ما كانت عليه الانظمة السابقة ولو بليبراليتها البرلمانية الشكلية،كان جذرها الموضوعي، ضعف المجتمع المدني في تمثيليته لما تعانيه الطبقات الشعبية وكتلتهم الكبرى الفلاحون، والانقلابيون من هذه الأصول الاجتماعية وكأنهم يعوضون ضعفها بقوتهم العسكرية الأكثر تنظيما وحداثة .
ومع استمرار بقايا الاحتلال (قواعد عسكرية) والهيمنة الإمبريالية (قناة السويس، وبترول العراق وحلف بغداد).وكان الحافز الأكبر أيضا حرب 48 وتكريس الاحتلال الإسرائيلي بقرار التقسيم. كان لسوريا في هذا الواقع خاصية انفرادية، لأنها كولاية موحدة للشام الكبرى تعرضت الى تقسيم استعماري في اتفاقية سايس بيكو. أفضى إلى فلسطين المحتلة والأردن و لبنان، وحتى الباقي في سوريا الحالية كان معرضا لتقسيم أكبر في أربع أو خمس دويلات طائفية، لولا الثورة الوطنية السورية في 1926 التي حمت وحدة سوريا الحالية . أليس هذا ما يفسر لماذا كانت سوريا القلب النابض للعروبة. ومن المحقق أنها هي التي طالبت وألحت بطواعية في قيادة شكري القوتلي بالوحدة مع مصر. وظلت جماهيرها الكاسحة (حتى في زمن الانقلاب الانفصالي) مع عبد الناصر تحديدا لزعامته الوحدوية العروبية. ولاختلاف تلك الخصوصية التاريخية في تقسيم ولاية الشام الكبرى، يمكننا ان نلحظ ان شعبية حزب البعث التي توسعت بفضل انقلابه على حكم انفصالي معزول، تحاشى عبد الناصر اسقاطه بتدخل عسكري كان مضمونا جماهريا سلفا، كي لا يعطي أي انطباع على أن الوحدة مفروضة عسكريا، ولأن شعبية الحزب، بعد الشعبية التلقائية لعبد الناصر، كانت ايضا بفضل هويته الوحدوية رغم رومانسيتها واهتجاسها بنزوع حزبي سلطوي، ظهر في مفاوضات الوحدة وفي غيرها، فإن حيازة الحزب للسلطة على يد عسكريين، حتى و لو كانوا بعثيين، سيحكمها منطق آخر غير منطق الانتفاضة الشعبية التي يقودها الحزب، بعد مراس نضالي طويل ينال فيه مصداقيته وزعامته منها. لا سيما وان الجناح العسكري حتى ولو كان حزبيا لبيئته التنظيمية، يكون أقل ارتباطا بالحراك الشعبي، ويحمل في الأغلب نزوعات فوقية أمنية سلطوية. ولمجرد أن السلطة جاءت على ظهر دبابة تتغير موازين القوى داخل الحزب نفسه. لصالح العسكريين الممسكين بالسلطة، ويعود الحزب تابعا لها وفي خدمتها، وهكذا تضمحل هويته الأصلية في خدمة المجتمع كمثقف جمعي و منظم له، وتكبر فيه أو على هامشه الجيوب الانتفاعية المتزلفة للسلطة وخاصة في بيئة تنعدم فيها المنافسة السياسية الحزبية حتى ولو كان البعض يشارك الحزب الحاكم رسميا نفس الاختيارات الكبرى المبدئية.
إنها سيرورة الانكماش البطيء لشعبية الحزب وللمجتمع المدني عامة، ولو بقي للسلطة نفس تقدمي وتعاطف مجتمعي لا يحرك ساكنا، ولا نحتاج إلى أدلة إثبات كثيرة، إذ تكفي هذه الإشارة القوية في علاقة الحزب بالسلطة والسلطوية؛ فمن المعروف أن انقلابين متتاليين “تصحيحين”، كانا كل منهما على الاخر من نفس الحزب صاحب السلطة إسميا ) أمين الحافظ، الأتاسي ، حافظ الأسد ( صحيح أن الدوافع كانت لخلافات سياسية في تسيير شؤون الدولة، لكن الواقعة، بحد ذاتها، تبين أن الخلافات لم تحسم فيها قيادة الحزب) القطرية والقومية ( بالطريقة السلمية الديمقراطية، وإنما حسمها العسكر. وذلك يكشف التحول في ميزان القوى داخل الحزب نفسه لصالح جناحه العسكري. وكما بينت أيضا التناقضات الحادة بين جناحي ذات الحزب، “السوري و العراقي”، والتي بلغت ما لم تبلغه أية خلافات أخرى، وكانت واحدة منها، إعدام مجموعة قيادية بعثية عراقية بتهمة التآمر لصالح الجناح السوري. وقبلها انفرطت القيادة القومية وتوقفت الاتفاقات بين الجناحين القطريين لتطوير المصالح المشتركة بين البلدين. وكان الجيش في البلدين من يقرر وليس الأغلبية الحزبية الحاكمة. النزعة السلطوية إذن كانت هي الأقوى وهي الغالبة على الديمقراطية الحزبية أولا والمجتمعية ثانيا. وهي الغالبة أيضا على ما كان للحزبين من فائض قومي وحدوي رومانسي، والذي كان مفخرة لهوية حزب البعث في البلدي !
لا يمكن لهذه الخاصية السلطوية التي لزمت تطور الحزب في منشإه الانقلابي والتي تسفر بالضرورة عن شخصنة مطلقة للسلطة، أن يغير منها مجيء رئيس للدولة مدني لم يأت مباشرة من المنظومة العسكرية، لأنه هو نفسه يتقمص فورا الشخصية العسكرية وعقليتها بصفته القائد الأعلى للجيش ويعرف مسبقا أن الجيش هو ركيزته الأقوى في السلطة والحزب سيستمر تابعا لها، وأسوء ما في هذه التبعية أنها تستولد ضمورا لدور الحزب في المجتمع، ووتفرز جيوبا لمصالح فئوية على هوامشه تنبني على التزلف والتسلق، النفعي الانتهازي؛ يخنق ما تقدمه السلطة من إصلاحات اجتماعية واقتصادية حقيقية. ومع هذا النمو المرضي تطال القبضة الأمنية كل شيء، لأنها تغدو الأكثر جدارة لضمان استقرار النظام، بينما يتراخى انشداد الجماهير العاطفة وتتقلص القاعدة الاجتماعية الأوسع للنظام نفسه .
الصورة أعلاه كانت مجرد شيما عامة، حاولت أن تفسر ظواهر سلبية كانت موجودة، وحتى متنامية، لكن ديناميات الوضع الملموس أكثر تعقيدا، فالحزب المدني وتنظيمه العسكري البعثي لم يكونا على انفصال عمودي متوازي، ولا السلطة البعثية كانت حرة في حركيتها بمعزل عن تفاعلها مع مؤسسات الدولة الأوسع، في الحكومة والإدارة والجيش والأمن، والجبهة المساندة وقوى وازنة في المجتمع. فالشيما السابقة اذن لا تتمظهر إفرازاتها ميكانيكيا بقدر ما تتطور في دينامية مركبة يتصاعد خطها البياني السلبي في تناسب طردي مع ازدياد الخلل في معادلة الروافع الأساسية التي أوضحتها في شروط المرحلة الانتقالية التحررية والتنموية (إنماء دولة الحق والقانون وصون حيوية المجتمع المدني و الحرص على توسيع الرعاية الاجتماعية الخ…)
ومع أن سوريا البلد وبالمقاييس العربية، دولة متوسطة المساحة والموارد والسكان، لكن موقعها الجيوبوليتيكي المركزي في صراعات المنطقة يجعلها في عين استهدافات إسرائيل، وكل من يخشى اختياراتها الوطنية التحررية. ومع ذلك لا يمكن لأي محلل موضوعي، أن يتجاهل أنَ حزب البعث،سواء في سوريا أو العراق (تأميم البترول العراقي في زمنه كان جرأة سياسية كبرى في وجه الإمبريالية) قد أنجز إصلاحات اقتصادية ذات وزن كبير، بتوجيه من الدولة وبتحكمها في بعض المصادر الاقتصادية الكبرى. وفضيلتها في سوريا، أنها ( كما شقيقاتها ) بلا بنية عربية استثمارية وتخطيطية متكاملة ( الشرط الذي أوضحته سابقا ) فأنها قد حققت قدرا كبيرا من الاكتفاء الذاتي في الزراعة والمحروقات، وبنفس المعيار، قدرة شرائية مناسبة لطبقة وسطى خاصة في المدن، وتدعمها رعاية اجتماعية في التعليم والصحة ودعم للأسعار في مواد أخرى، ومن المميزات الاستثنائية، أن الدولة، طيلة عقودها قبل الأزمة، لم يكن على رقبتها ديون خارجية غربية من صندوق النقد الدولي أو سواه، ما عدا ديون الاتحاد السوفياتي ومعظمها في مجال التسلح، وقد الغتها روسيا بعده. من تعرف على سوريا في الستينيات وطيلة عقود قبل الأزمة، سيلحظ أن المشهد العام للتركيبة الاجتماعية في المدن هو مشهد للطبقة وسطى عريضة في مستوى العيش و نمط الحياة، وعلى الرغم من تنامي التفاوتات الطبقية من˶ فوق˵ ببروز فئات أكثر ثراء ومن ˶تحت ˵في مستوى معاشي أدنى بفعل النزوح القروي خاصة. لا شك انَ هذا هو السر في أنَ مدينتي دمشق والقسم الأكبر من مدينة حلب (و مدن أخرى )، وهما الأكثر سكانا، ومعقل التجارة والصناعة والإدارة، بقيتا الأكثر تحفظا من ثورة لم يريا فيها مستقبلا.
هذا الوضع الاقتصادي – الاجتماعي المستقر، سيتقلب رأسا على عقب، بعد اندلاع الأزمة من أحداث درعة في 2011. وانطلاقها بسبب العنف الذي ووجهت به ، لا يعفي الباحث من أن يتوجه رأسا إلى أنَ أغلب المناطق المحيطة بالمدن ، والتي طالتها الاحتجاجات تدل على أزمة اجتماعية قروية أساسا ( وفي التأطير السياسي الحزبي)، وعلى اختلال في التنمية بين مختلف المحافظات .
تطور الأزمة فيما بعد قلب الوضع السوري قلبا جذريا أبطل كليا المقارنات الممكنة على جميع المستويات، حيث يجوز التعبير أن سوريا ما قبل الأزمة، كانت لمجتمع ينمو رغم كل النواقص والاعتوارات، وهي غير سوريا ما بعد الأزمة المنهارة والمهدمة أركانها كلية. وماكان ذلك ليحصل بهذه الوثيرة الدرامية لولا التدخل الخارجي الغربي والإقليمي الهائل الإمكانيات وتورط المعارضة المسلحة في خدمة أهدافه. لقد سقط النظام السابق، وما بقي منه حيا ينبض عروبة وتحررا، أنه لم يوقع صلحا مع إسرائيل ولا تخلى عن القضية الفلسطينية. وتلك كانت مأثرته التاريخية الكبرى.
7
قلت في فقرة مضت، عندما يمر وطن ما بأزمة تطال كيانه، ينبغي وضعه بكليته تحت المجهر النقدي، لأن المسؤولية تكون في هذه الحالة مسؤولية مشتركة، تتحملها النخبة بأجمعها وبكل أصنافها، وللجماهير نصيبها الموضوعي أكثر مما هو ذاتي مباشر. لكنني في هذه اللحظة، أريد أن أعبر بكل تواضع، عن أن انتقادي للقوى الديمقراطية الحقة في سوريا، ليس أستذة ولا تعاليا مني، وانا أعرف العديد من قاداتهم المناضلين والمضحين عن جدارة واستحقاق، ثم لأني أتفهم عقليا، ووجدانيا الظروف المعقدة التي وجدوا أنفسهم فيها. والتي تحتاج منهم إلى تنازلات تكتيكية مؤقتة، وإلى صبر وتأن طويلين للخروج بأقل الخسائر للمجتمع السوري أولا وللحفاظ على وحدته ولاستئناف عافيته وتطلعاته. لكني ملزم بالبوح برأيي ولو بكلمات قليلة، امتدادا لما عبرت عنه طيلة سنوات الأزمة الفائتة، ودائما تضامنا ومساندة، لا نكاية ولا تشفيا. فأهل مكة أدرى دائما بشعابها.
وبهذه الروح، أرى أن أي تقييم نقدي يتوخى الصراحة مع النفس لضبط خطوات التقدم المقبلة، لا بد له في المنطلق، أن يقر بأن الوضع الحالي لسوريا، الدولة والكيان والمجتمع، في تقهقر مأساوي، وأنه فشل ذريع لما سمي “بالثورة”، وكيفما وصل الصبر على الحكم الجديد، فلا صلة جينية له إطلاقا لا بالحراك الشعبي المدني، ولا بالقوى الديمقراطية واختياراتها الحقة، حتى ولو أقسم بالشهادة لألف مرة. ومن تم ينبغي تحليل وتقييم الأخطاء الاستراتيجية للقوى الديمقراطية الحقة في القضايا الكبرى التالية :
1) استصغار الدور التخريببي الحاسم والهائل الإمكانيات لدول كبرى ولحلفائها في أكثر من ثمانين دولة، سميت بأصدقاء الشعب السوري، ولخدمة استراتيجية لم تكن معادية للنظام وحسب،بل لتحرر سوريا وتقدمها. إن وقوع المعارضة بمعظمها في هذا الشرك، إما لتبعية خارجية، وإما لما حسبته مجرد استغلال للتناقضات الثانوية لمصلحة الثورة، كان خطأ استراتيجيا قاتلا. وليس استثناء هنا تخصيصي بالتسمية منظمة قسد الكردية المسلحة، وصاحبة مشروع للحكم الذاتي الغامض والمحمي بقوة امريكية إمبريالية كل سلوكاتها في المنطقة هي في خدمة إسرائيل. الم تكن قوات سورية الديمقراطية “قسد” تعرف أن وصية الزعيم أوجلان بترك السلاح والتوجه الى العمل السياسي الديمقراطي كان قبل الحدث الجاري اليوم مع أكراد تركيا، وقبل ان يعلن حزب العمال التركي في مؤتمره بالعراق عن حل نفسه وتسليم أسلحته؟ الم تكن تعرف بأن الاحتماء بأمريكا (ومن خلفها اسرائيل) لمصلحة ضيقة مهما كانت أحقيتها هو موقف انتهازي عدائي ضد مصلحة الدولة والكيان والشعب السوري، وضد مصلحة الأمة العربية والشعوب الاسلامية عامة ؟! والا بأية مبادئ تبرر لجوء الأكراد الى النضال السياسي السلمي الديمقراطي في تركيا حلالا، ومع النظام السابق كان حراما ؟!
المعارضة بأجمعها التي انجرت للوقوع في هذا الشرك، ولعدم تقديرها لنسب القوة ولأهداف الأعداء، هي التي استُغلت ضد دولتها لتخدم استراتيجية أخرى غير استراتيجيتها. ولن نحتاج إلى أدلة لإثبات أنه كان مخططا مدروسا ومهيأ للتنفيذ العملي مند 2004 اي منذ صدور قرار مجلس الأمن القاضي بانسحاب الجيش السوري من لبنان. ويكفينا ما صرح به وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما. حيث قال، أنه عرض عليه في زيارة له إلى لندن مخطط للإطاحة بالنظام السوري قبل 2011. وشهادة وزير الخارجية القطري الشهيرة التي اعترف فيها السيد حمد بن جاسم، مشكورا لصراحته، ببعض الجوا نب التنسيقية بين الشركاء وبإشرافهم العملياتي على الميدان لنفس الغاية الى أن فلتت من أيديهم الصيدة كما قال وقتئذ.
2) انزلاق استراتيجي آخر، لا يقل عن السابق خطورة، بل و تابع له. وأعني انزلاق المعارضة الى العمل المسلح، سواء كان عن خيار ارادي، او بتزكية سياسية صريحة أو ضمنية، مواربة او مدارية. وهي تعلم أن حربا داخلية من هذا النوع مدعومة قطعا من قوى خارجية كبرى، ويختلط فيها الإرهاب أسلوبا والإرهابيون الأجانب بعشرات الآلاف، ويسودها بقوة ايديولوجية طائفية – مذهبية متزمتة ودموية ، معلوم من أين جاءت أصولها واستعمالاتها في معارك أخرى سابقة، ولماذا كانت الحاجة إليها لتوظيفها سلاحا ايديولوجيا في صراعات المنطقة لاستمالة وشد عصبية الأكثرية السنية في سوريا وفي المنطقة العربية والاسلامية عامة. فما عساها أن تكون النتيجة النهائية لحرب بكل تلك المواصفات الرجعية الصارخة سوى تدمير الدولة والكيان !
وقد لا ينطلي على من يدرك حقائق الصراع في المنطقة، كيف حاول مهندسو البروباغندا المضللة، طيلة الأزمة، في مناورة معكوسة، أن يلصقوا تهمة الطائفية بالنظام السابق. لكن بقدر ما كانت هذه المناورة مفضوحة في الماضي، انكشف اليوم في واضحة النهار، من هو مصاب بهذا المرض العدواني العضال، “كالقاتل المتسلسل” الذي لا يستطيع الصبر على الكف عن الاستمرار في جريمته. ولعله كان من البديهيات، أن اللجوء للعمل المسلح، وبكل ما انطوى عليه من دعم خارجي تآمري المآرب، لن يبرأ أصحابه من المسؤولية في كل ما أصاب الدولة والمجتمع من كوارث وخسارات فاجعة وفادحة. فالبداهة تقول، أنهم لم يكونوا يردون على براميل الجيش النارية بالورود، كما يزعمون ضمنيا. وهم الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، باختلاقهم لعمليات كيميائية مفبركة لجر تدخل عسكري دولي ضد بلدهم ودولتهم. وبالمناسبة، لم نر تسربا كميائيا في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على معظم مخازن التسلح الدفاعي للجيش السوري. القصد ،أنها كانت حربا داخلية هوجاء لا تدل إلا على جنون شهوة السلطة، وعلى تبعية مذلة للخارج عديمة الحس الوطني، وحان واجب ادانتها بقوة وتعرية جميع مضامينها التآمرية على الوطن و الدولة والمجتمع.
3) تبخيسٌ واستصغار لأولوية الاحتلال الإسرائيلي للجولان. أجل، لقد تعاملت المعارضة مع هذا الموضوع وكأنه على الهامش لوقت آخر، بعد أن تتحقق الديمقراطية كاملة. و يزيد الأمر تأجيلا واستصغارا وتبخيسا أنها اعتبرت موقف الحكم في هذه المسألة ليس أكثر من ألاعيب ومناورات لكسب تعاطف الجماهير ولتركيز سلطته. والدليل ينضح بما فيه، لم يطلق الحكم رصاصة واحدة نحو تحرير الجولان. وقطعية هذا الدليل، أنه في آخر التحليل، يبين أن خلفية المعارضة كانت وطنية محلية صرفة، ولا تأبه لأبعاد المسألة استراتيجيا وفي المنطقة عامة. ولذلك لم تأخذ مواقف النظام في تحالفاته دوليا وفي المنطقة، ودعمه للمقاومة، والتكلفة التي يتحملها من أعدائه في هذا الشأن محمل التقدير اللازم والجدي. ولهذا كانت في نظرهم مجرد تكتيكات ومناورات لا تحمل أية خطورة على النظام، إن لم تكن مفيدة له. وما لم تترجمه المعارضة عمليا وسياسيا، أن مسألة الجولان المحتل ليست صراعا تقليديا على قطعة من الوطن كما هو جار في العديد من بقاع الأرض. انه صراع مع محتل لا حدود له ، وله حساباته الاستراتيجية الهيمنية على كافة المنطقة، وعلى رأسها سوريا، ومطامعه تتداخل مع مصالح غربية إمبريالية تدعمه بكل ما تملك من عناصر القوة؛ وعلى رأسها حليفها العضوي الولايات المتحدة.
وبهذه الأبعاد، لا يشبه وضع الجولان، لارتباطه بالقضية الفلسطينية وبصراعات المنطقة وبالتحالفات العضوية الأمريكية والغربية مع إسرائيل، (لا يشبه) أي نزاع على حدود جغرافية بين دولتين في العالم. وحتى الصراع في أوكرانيا، رغم سمته الدولية، لن يبلغ مستوى الصراع مع إسرائيل لا في المدى الزمني، ولا في متانة وثبات المصالح العضوية للغرب مع إسرائيل، وأمريكا منه بخاصة. النجاح في هذا الصراع يعادل رصاصة عميقة الغور في رأس النظام العالمي الامريكي الآفل. لو طرح أمر الجولان بكل هذه الأبعاد، لتغيرت رؤية المعارضة له، ولمواقف النظام السابق في تحالفاته الرئيسية وفي دعمه للمقاومة، ولأضحت قضية الجولان عندها مدخلا لإجماع وطني دينامي وتفاعلي، تتنامى في ظله وأفقه التوافقات الديمقراطية الممكنة، والتي لا تستبعد الشد والجذب، والمد والجزر، لكنها الطريق الأسلم لنضوج كتلة شعبية مؤطرة وقوية، لا تفرط في حقوقها الديمقراطية، ولا تهمش صراعها الطويل مع عدوها الرئيسي الاول، إسرائيل. أليس هذا الخيار من تقاليد تجارب حركات التحرر الوطني الناجحة في مواجهة الاحتلال، فما عساه أن يكون في مواجهة عدو هيمني توسعي و إحلالي. ألم يبرهن على هذه العدوانية التوسعية فور سقوط النظام ؟!
4) الخطأ الاستراتيجي الرابع، أن المعارضة جنحت بأقصى اندفاعة نحو الخيار الليبيرالي، و تقوقع برنامجها فيه. ليس صدفة، أن أول بيان لانطلاقتها التحشيدية لأغلب المكونات السياسية المعارضة، كان يوم صدور “إعلان دمشق” في 2005 ، بعد صدور قرار مجلس الامن الداعي إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، وكان القرار إشارة حمراء تهديدية من الغرب للنظام السوري. وبعدها جرى اغتيال الرئيس الرفيق الحريري وتم اتهام النظام السوري فورا بهذا الحدث الكبير المفجع. وكان الهدف، تسعير الصراعات الطائفية والمذهبية، وشد عصب السنة المذهبي خصوصا ضد سوريا النظام والمقاومة في لبنان وكل من ينتسبون إليها مذهبيا. ولا شك ان الموقعين على إعلان دمشق قد شعروا أن النظام السوري بات قاب قوسين من هبة دولية واقليمية ضده، وان رياحها العاتية آتية بلا ريب. هذا التوقيت الملتبس لحراك المعارضة الجمعي جعل النظام يرد بحملة قمع قاسية، مع أن هامش المناورة المرنة كان ممكنا ولصالح النظام نفسه .وكان من حق المعارضة، أن تستغل أي توقيت لتناقضات تقوي هدفها الأكبر في إنقاد سوريا من القادم. اذا ما حافظت على استقلاليتها وتمعنت جيدا في أغراض صانعي الحملة العدائية.
المسألة المركزية عندي ليست في توقيت الإعلان بل في المحتوى وفي ما غيبه. وما قرأته في محتواه أنه طرح إشكالية وحيدة، انحبس فيها، وهي إشكالية الديمقراطية. ولا غير الديمقراطية سوى من مرور الكرام، بالنطق الخافت والسريع لمبدئ رفض احتلال لجولان، والوعد المطاط بالعدالة الاجتماعية. والواضح أن هاجس البيان هو تحشيد أكبر ما يمكن من الشخصيات والتكتلات المعارضة، دون اكتراث بأي قضية قد تثير خلافات حولها. واختزالا، أعتبر أن الإعلان كان بمثابة تأسيس مسبق لأفق المعارضة ولما سيجري مستقبلا. وكان انحيازا كليا للخيار الليبيرالي فقط. وهنا بيت القصيد.
في التراث الاشتراكي، الاشتراكيون (والموقعون كان فيهم الكثير منهم) لا يعادون الليبيرالية، كمؤسسات وحقوق، ولكنهم يميزون بين الليبيرالية والديمقراطية.
الديمقراطية عندهم ذات مضامين اجتماعية أساسا. ولهذا يحرصون أشد الحرص على تمثيل مصالح القوى الاجتماعية الكادحة، في برنامج تنموي تصب اهدافه في إنجاز التقدم والتحرر الوطنيين. وإلا كان النظام الليبيرالي، خاصة في شروط العصر الحالية، نظاما ممسوخا وتبعيا، وما أكثر نماذجه ماضيا وحاضرا في العالم. وهذا سيطال بالضرورة، مسألة التحالفات الدولية والاقليمية، ويطال أساليب تأطير الحراك الشعبي، والتوجه الثقافي والأيديولوجي والاقتصادي، وبالتالي التحرك النضالي في ضوء نسب القوى داخل المجتمع لصالح من يمثلون المصالح الاجتماعية التحررية التقدمية .
الاقتصار على الخيار الليبرالي، وتغييب كل تلك العناصر، في حساب القوة والممارسة والبرنامج خدم في النهاية النماذج الأشد مسخا في الليبرالية، وما كان له في أفضل الحالات الا أن يكون تكرارا متأخرا لماض في التبعية و التأخر المجتمعي.
والنصر للشعب السوري