
كَانَ لِي أصدقَاءُ شُيُّوعِيونَ

إهداء:
آراء أخرى
إلى الأصدقاء: رياض، إيمان، لطيفة، شرفات، حسن، محمد، نجوى، علي، حسين، أنطوان، عبد الرفيع، الطيب، كارلا، ليندا، إيلي، رباني، الفقيد عبد الأحد… وآخرون.
أُهدِيكُم هذا النص، أنتم نورُه حين مَشَيْنا معاً في دروبِ هذا المتنِ، ننسجُ حروفَهُ كما ينسجُ الزَّمنُ ملامحَ الذاكرةِ. لم تكونوا شهوداً على الحكايةِ، بل كنتمْ مِن لحْمِها ودمِها. كُنتُمْ نَبْضَهَا، من دفءِ اللحظاتِ، ومن ارتباكِ البداياتِ، ومن لذّةِ الانكساراتِ الجميلةِ… أُهدِيكُم هذا النَّصَّ لا بوصفِكُمْ أصدقاءَ فحسبُ، بل لأنكم وجْدُهُ، ظِلّهُ، ووميضُ غيابِه في الصمتِ. عَسى أن تكونَ الأفكارُ التي نثَرتُها بين سطورِ هذا المتْنِ قد لاَمَسَتْ، ولو بخفةٍ، أصداءَ أفكارِكمْ، فالتجربةُ لا تكتملُ إلَّا بِكمْ.
- بيروت: أحلامٌ معلَّقةٌ على أسوارِ الهزائمِ أو زمنُ الأحلامِ الخَائِبةِ
في صيف 1993، حمَلني الحُلم إلى بيروت. المدينةُ كانت تَنهضُ من رمادِها كما يَنهضُ طائر الفينيق، وكأنَّها تختَبِر قُدرتَها على القيامةِ للمرةِ الألف. شاركتُ في مهرجان الشباب العربي، الذي أُقيم بدعمٍ من جامعة الدول العربية، وبرعايةِ دولة الرئيس رفيق الحريري الذي كان يقودُ مشروعَ إعادةِ إعمارِ العاصمة وكأنه يرقّع جسداً مثقوباً بخيوطِ الأملِ والدولار.
وصَلنا إلى بيروت في ظهيرةٍ صيفية مُشبعَةٍ بالمِلح والعَرق، مُبلَّلة برذاذ البحر وحرارة النهار، تغمُرنا الأغاني العَابرة من نوافذ الحَافلة التي أقلّتنا من مطار بيروت الدولي إلى مقر الإقامة في منطقة الأوزاعي. قال المرافق وكأنما يكشف عن سر دفين: “هيدي هي بيروت”. تسللت دمعة على خدِّي في لحظة غامرة، يا للفرح! هذه هي المدينة التي قرأنا عنها في منشورات المنظَّمة، وشاهَدنا صُورها في مجلات «الطَّليعة» و«الحُرِّية»، وسمِعنا عنها في حكايات الرفاق، وفي أشعَار محمود درويش ونزار قباني، هذه هي “بيروت الأُنثى مع حُبي”، بيروت التي أَغْدقت علَينا شَغَفَها وجُنُونها.
زُرنا بيروت بعد حربٍ أهليةٍ امتدت خمسةَ عشر عاماً، تركت خلفها ندوباً من الدماء والدمار، وكأن المدينة باتت تتنفس بصعوبة، تخطو بثقل نحو ملامح جديدة. حروبٌ داخليةٌ أرْهَقَت جسدَها، تضافرت مع الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت الذي بلغ عتباتها، ليشكّل مشهداً من الألم والدموع. ومن رحم هذا الخراب، ولدت جبهة المقاومة اللبنانية، صموداً عصياً على كل محاولات طمس روح المدينة. بيروت، رغم كل ما مرَّ بها، ظلت عنواناً للمقاومة، تؤكد بحضورها أنها ما زالت حية، نابضة، تقاوم الجراح وتعيد صياغة هويتها من جديد.
كانت بيروت أكثر من مجرد مدينة تنهض من الحرب. كانت وعداً مؤجَّلاً، حُلماً يحمل ملامح جبران خليل جبران وصوت فيروز، وتراتيل المقاومة في نشرات “صوت الشعب”. مشينا في شوارعها التي نفضت عنها الغُبار، دخلنا مقار الأحزاب، استَمَعْنا إلى الأغاني الحزينة والبَيانات الحارَّة، وملأنا أُمسِياتنا بالجَدل واليقِين.
في قلبِ بيروت، حيث يختلطُ الغبارُ بصدى الذكرياتِ، وتتنفّس الأرصفة حكايات من عبروا ذات حُلم، تروي الجدران في كل زاوية حكاياتها بصمت، فيما تُعادُ صياغةُ المشهدِ العمراني بين بقايَا الحربِ ورؤيةٍ جديدةٍ للمستقبلِ. كان الترميمُ محاولةً لردمِ مخلفاتِ الحربِ، لكن الجدرانَ لا تزالُ تبوح بآثارِ الرصاص، كأنها ترفُضُ النسيانَ.
(مع حسين العنان ود. يوسف لطفي زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وبعض قادتها بمقرها بمخيم شاتيلا)
رأيتُ حجمَ الدمارِ الذي خلّفتهُ الحربُ، رأيتُ البيوتَ المثقوبةَ، والشُّقوقَ التي حفَرَتها القذائفُ، عماراتٍ لا تزالُ تحتفظُ بندُوبِها في صمتٍ. ورغم أن الندوبَ لم تندثرْ، كانت المدينةُ تستعيدُ شيئاً من روحِها، محاوِلةً أن تنسج من الخرابِ خيوطاً للأمل، وقد بدأت ورشاتُ الترميمِ تُعيد الحياةَ إلى مبانٍ شاهدةٍ على الألمِ. كانت تلكَ المحاولاتُ أشبهَ بخياطةِ جُرحٍ لا يندملُ، رتقٌ هَشٌّ لفجوةٍ لا تزالُ تنزف في الذاكرةِ. آثار الرصاص لم تُمحَ، بل صارت وشومًا محفورة على جدران المدينة.
وفي كل هذا، كانت بيروت تسْتَنهِضُ الرُّوحَ من الرماد، تنسجُ بالأملِ ملامِحَ جديدة، وتُعيد ترتيب حجارة الأماكن التي احتضنت مرَارَات الزمن.
لكن، كل هذه التفاصيلِ كانت هامشاً في كتابِ المهرجان، ذلك الحَدثُ الذي حضَره رئيسُ الجمهورية إلياس الهراوي، ورافقه رئيس الحكومة رفيق الحريري، الرجلان اللَّذَان اقترن اسماهُما بمسيرة إنهاء الحرب، وتوحيد الدولة، وبعث مؤسساتها من رمَاد الطَّائفية. كان المهرجان نفسهُ فسيفساءَ من الأنشطة: مسرح، شعر، موسيقى، ندوات فكرية، وزيارات إلى معالم المدينة. كانت بيروت، بالنسبة لنا، أكثر من مجرد عاصمة؛ كانت أسطورة مُعلَّقة، مدينة تنبضُ بالنِّضال القومي وترفلُ في عبَاءة الثقافة المقاوِمة. في رحلتنا إليها، امتدت جوَلاتنا إلى دير القمر وبيت الدين، حيث تماهى التاريخ مع العِمارة، وحيث تحكي الجدرانُ قصصَ الزمنِ العريق. وفي جبل الباروك، وقفنا تحت ظلالِ الأشجارِ الوارِفة، نستعيد صدى كلمات شوقي بزيع في رثاء القائد كمال جنبلاط: “كأنما جبلُ الباروكِ أذْهلهُ أن تنحني فمشى في يومِك الشَّجرُ”، كمَا لو أنَّ الطبيعةَ تتجاوبُ مع رثاءِ الشعراءِ فتنهَضُ بحَفِيفِها وشُموخِهَا. أما طرابلس وسير الضَّنِية، فكانتا نافذتينِ مشرعتينِ على تنوعِ لبنان الساحِرِ، حيث لكلِّ منطقةٍ سحرُها الخاصُّ، وللأرضِ حكاياتُها التي ترْويهَا بلُغةِ التحدي والأملِ، كأنَّمَا لبنان ليس مجردَ وطنٍ، بل لوحةٌ تتجددُ ألوانُها بيدِ شعبِهِ وذاكرةٍ ترسُمُهَا الأيام.
لكن، رغم كل شيء، كان ثمة غيمٌ يُلبّد الأفق: تبادل رسائل الاعتراف بين إسحاق رابين وياسر عرفات، إيذاناً بميلاد مشروع “غزة-أريحا أولاً”. تصدَّرَ هذا الحدثُ عَناوينَ الصحف، وبدأ الحديثُ عن اتفاقيةِ أوسلو التي أضحتْ تتشكلً على مَهَلٍ، لِتُعِيدَ رسمَ المسارِ السياسي بألوانٍ غيرِ معهودةٍ. كيف نُتابِع فعاليات المهرجان والشارعُ العربي يغْلي؟ كيف نُلقِي الشعرَ ونحن نقرأُ في الصحفِ عن دَفْنِ البندقيِّةِ؟
كان المشهدُ يفيضُ بالتناقضاتِ، إذ اجتمع بين نشوةِ الوصولِ إلى لبنان، حيث عبقُ الحضارةِ وروحُ الثقافةِ وصَدَى الصمودِ، وبين غصَّةِ الاتفاقِ الذي بدا كظلٍّ ثقيلٍ يسيرُ خلفنا. كيف للفرحِ أن يكتملَ ونحن نتشاركُ العناقَ مع رفاقٍ من أقطارٍ عربيةٍ توحدنا الأفكارُ التقدميةُ، بينما يدور في الأفق حديثٌ عن اتفاقٍ بدا وكأنه طعنةٌ في صميمِ القضيةِ؟ وكأن الأرضَ التي نتَغنَّى بها تستمِعُ إلَينا بصمتٍ حزينٍ، غيرُ قادرةٍ على درءِ ذلك الشعورِ العاصفِ الذي يجتاحُنا، وكَمَا لَوْ أنَّ الكلماتِ تبحثُ عن موْطِئِ قدمٍ في زمنٍ يَضِيقُ بها.
كنا نرفُضُ الاتفاقَ كما يرفُض القلبُ خيانةَ الأحبة. رأيناهُ انكساراً وسقوطاً، صفقةً بلا شرفٍ، تُقَايِضُ الدمَ بوهمٍ زائفٍ. ناقشنا لساعاتٍ طويلةٍ، بكينا بحُرقة، وتشبثنا بالأمل كما يتشبث الغريق بخشبة وسط أمواج عاتية. في خضم هذا كله، كنا نتردَّد على مقر الحزب الشيوعي اللبناني وإذاعة “صوت الشعب”، شاركتُ في برنامج حواري يناقش مستجدات الاتفاق، إلى جانب رفاقٍ من اليمن وفلسطين ولبنان، وكأننا نحاول أن نعيد صياغة الأمل وسط عتمة الواقع. حضر إلى جانبي أصدقائي من المغرب، مجموعة “الخوارج” (حسن مرصو، لطيفة باقا، وشرفات أفيلال). ولهذهِ التسميةِ سياقٌ خاصٌّ، فقد كانتْ لنا نفسُ القناعةِ بأن اللحظةَ السياسيةَ العامَّةَ أكبرُ من أن تستوعِبها أنشطةُ المهرجان، فآثرنا الخُروجَ من برامجِه الرسميةِ إلى نقاشاتٍ أكثَرَ عُمقاً مع الرفاق من الحزب الشيوعي، وجمعيةُ “النجدة”، المعنيةِ بقضايا اللاجِئينَ الفلسطينيينَ، والتي كثيراً ما كنَّا نجوبُ الطُرقاتِ بسيَّارتها.
بعد الحلقةِ الإذاعيةِ، هنَّأَنِي الرِّفاقُ على تدخُّلي، ففضلاً عن النبرةِ النقديةِ الحَادَّةِ، كنتُ الوحيدَ الذي أصرَّ على الحديثِ بالعربية الفصيحةِ، بينما اختار الآخرونَ لهجاتِ بلدانهمْ. لم يكن ذلك مجردَ خيارٍ لغويٍ، بل كان ضرورة، إذ كُلما تحدثنا بيننا كمغاربة، واجهنا السؤال ذاته: “بأي لغة تتحدثون؟” وكأن لغتنا تتأرجح بين ضفافِ اللهجاتِ، تبحثُ عن اعترافٍ وسط أصواتٍ تتشابك وتتمايز، بين كلماتٍ تَتَشظَّى في الفراغ!
تكفّلت إيمان العنان بتسجيل شريطٍ يوثّق فعاليات الندوةِ، وما زلتُ أحتفظُ به حتى اليومِ، كما أحتفظُ برسائلها الكثيرةِ، التي لم تكن رسائِلَ عابرةً، بل ذاكرةٌ مكتوبةٌ، تحملُ صوتَ المرحلةِ، ورائحة الذكرياتِ التي ترفضُ أن تَخبُوَ.
زُرنَا مخيَّمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا، حيث لا تزال الجدران تئِنُّ بِصمت، تحملُ نُدوب المجازرِ التي لم يمحُها الزمن. استقبلتنا قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصارت بيني وبين المسؤولِ الأولِ عن المخيم، يوسف لطفي، علاقةٌ رفاقيةٌ وطيدةٌ تتجاوزُ حدودَ اللِّقاءِ العابرِ إلى صداقةٍ تصقلُها المعاناةُ المشتركة. استمعنا إلى شهاداتٍ تشُقُّ القلبَ، لكِنَّ أقْسَاهَا كانت شهادَةَ أمٍّ، قُتل أبناؤُها السِّتةُ. كيف يُعبِّر الكلامُ عن هذا الوَجَعِ؟! كيف يصفُ الألَمَ حين يفقدُ معنى البُكاء، وحين يُصبحُ الغضبُ بلا مهربٍ، بلا مفرٍ، بلا صوتٍ قادرٍ على احتوائِه؟
ذاتَ ليلةٍ، بينما كان حسن، سائقُ سيارةِ “النجدة”، يُقلّنا إلى مقر إقامتِنا في مؤسسةِ الدكتور محمد خالد الاجتماعية، فاجأَني بعرض غير متوقَّعٍ، اصطِحَابي في زيارة إلى مخيمِ “مرجِ الزُّهور” جنوبَ لُبنان. أَخبرني أنه يعرفُ شخصاً يمكنهُ أن يوصِلني إلى عبد العزيز الرنتيسي، المسؤول الأول عن المخيَّمِ الذي ضمَّ المُبعَدونَ الفلسطِينيونَ، خصوصاً من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهو الشخصُ الذي سيتولَّى قيادةَ “حماس” بعد اغتيالِ الزعيم القعيد أحمد ياسين. شعرتُ بحرارةِ الحماسِ تتسلَّلُ إلى داخلي، فكرتُ بسرعة في حوارٍ مع الرنتيسي أَنشُرُهُ في جريدة “أنوال”، ربما لاحظ حسن اندفاعي الزائد. لا أدري إن كان عرضُهُ جدياً، أم أنه كان مجردَ اختبارٍ غير مُعلنٍ لجسِّ نبضِي؟
كان معظمُ أصدقائِنا اللبنانيين من الشيوعيين، وأحدُهم كان ينتمي إلى منظمة العمل الشيوعي اللبناني، جمعتني به علاقة قُربى نضالية، إذ كنت أنتمي بدوري إلى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي كانوا يعدّونها امتداداً لتجربتهمْ، وكأنها “اِبنةٌ” لمِنظمتهِمْ، كما وصفَها رفيقي. لم تكن نقاشاتُنا تنتهي، بل كانت الأحلام تكبر، تتسع كأفقٍ لا حدودَ له: عن الثورة، عن التحرير، عن الإنسانِ الجديد الذي نحلمُ بصُنعِه. كنا نرفضُ الاتفاقَ كما يرفضُ المتمردُ أن ينصاعَ للقيدِ، نراهُ إذلالاً، صفقةً بلِاَ شرفٍ، واستسلاماً يُسدلُ الستارَ على عقودٍ من الدم والتشريدِ والتهجيرِ والاقتلاعِ من الأرض، وكأننا نحاول أن نعيد صياغةَ الأملِ وسط عتمةٍ لا تنقشع.
لن أنسى تلكَ الليلةَ الرائعةَ قربَ صخرةِ الروشة، على ساحل بيروت المُذهلِ. كان البحرُ أمامنا ممتداً كأفقٍ للحلم، والمدينة خلفنا تنام على ضجيجها، كأنَّمَا هِي تستريحُ بعد يومٍ طويلٍ من الصخبِ. ناقشنا طويلاً قضايا التاريخ والفلسفة والسياسة، نرسمُ خرائطَ بديلةً للعالمِ ونحن نشعلُ سيجارةً تلو الأخرى، كأننا نحاولُ الإمساكَ بالزمنِ قبل أن يفلتَ من بين أصَابِعنا. كان الحديث يدور حول الثورة والمستقبل، عن الأملِ الذي تكسّره الأيام، وعن الأفكارِ التي ضاع جزءٌ كبيرٌ منها في زحمةِ الواقع. في تلك اللحظاتِ، لم تكنْ بيروت مجرَد مدينةٍ؛ كانت شهادةُ ميلادِنا كَجيلٍ حلم يوماً بتغيير العالمِ، بَيْدَ أنَّ العالمَ كان أكبرَ منّا، وأشد تعقيداً مما تصوَّرْنَا.
كانت إيمان شديدة الحماس، وكان الحسين، نجوى، علي، حسن، محمد ورياض يُشارِكوننا النقاشَ بحماسةٍ لا تحدّ. حينها، تذكرت نبيل سيف الكميم، الشاب الثائر من اليمن، الذي كانت طريقة حديثه تشي بولادة زعيم عربي حقيقي. كان يملكُ من الثقةِ والحُلمِ ما يجعلُنا نعتقدُ أن ثوراتِنا لن تتوقفَ عند الكلماتِ. تلك اللحظةُ، على بسَاطتِها، كانت إحدى أصفى لحظاتِ الرفقةِ والنضالِ، مختُومةً بضحكاتٍ خفيفةٍ، ومواعيدَ لم نكنْ ندركُ أنها لن تتكرَّر.
عشنا تلك الأيام وسط عاصفةٍ من النقاشِ والدمعِ، نبحث عن الحقيقةِ في زحامِ الأسئلةِ، ولم يَكنْ يُطفئ عَطَشَنَا إليها سوى لفَّافات التبغ التي تحترقُ بين أصابِعنا. ثم جاء “إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي” كصفعةٍ مباغتةٍ، صارخاً كخيانةٍ تسللّت إلى منتصفِ الحلمِ، تقوّضُ اليقينَ وتتركنا في دوامةٍ من الغضبِ والذهول.
غادرنا بيروت، محمَّلِينَ بنبضِهَا وكلماتِهَا غيرِ المكتملةِ، وكأننا نحملُ أجزاءً من حلمٍ لم يكتملِ. لم تَمُرَّ سوى أيامٍ قليلةٍ حتى أضحى اتفاقُ أوسلو حقيقةً دامغةً… يا للعار! أصبحنا نكتب الرسائلَ لرفاقنا، ننتظر الردَّ بشغفٍ يضاهي التشبثَ الأخيرَ بذلك الخيطِ الرفيعِ للأملِ. كان زمنُ الرسائلِ البريدية، حيث لا زرَّ للانتظار، ولا إشعارَ بوصولٍ يُطمئنُ القلبَ على وقعِ الكلماتِ الضائعةِ في العتمةِ.
كَتبت لطيفة باقا نصّاً بديعاً عن هذه المغامرة، نشرته في الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي. نصٌّ جميلٌ مشحونٌ بالعاطفةِ والحنينِ والفقدِ والتأمل. فيه شيءٌ من مرثية الجيل، وشيء من احتفاءٍ داخلي بما تبقى من ذلك الحلمِ النبيل. كتبت لطيفة هذا النص الذي يحمل طابعاً وجدانياً عميقاً، بحسٍّ سردي وشاعري عالٍ، وبأسلوب مُتماسكٍ، ومفرداتٍ منتقاة بعناية، أهدته لأصدقائها الخوارج (حسن، شرفات ويوسف).
أما الشَّاعرُ الجميلُ حسن مرصو، صاحبُ ديوانِ ” قَصَائِدُ لِلْمَعْشُوقَةِ وَالْوَطَنِ”، فقد أرسَلَ لي مجموعةً من الرسائلِ، وفي إحْدَاهَا، تنحّى عن جُبِّة الشاعر قليلًا ليأخذَ مكانَهُ بين عُلماءِ النفسِ، مستكشفاً أعماقَ النفسِ البشريةِ. تأمل سُلُوكنَا في الطائرة أثناء العودةِ، حيثُ احتسيتُ الكثيرَ من النبيذِ ودخّنّا سجائِر كثيرةً، فقد كان التدخين مسموحاً في المقاعد الخلفية آنذاك. رأى في ذلك هروبًا من الذكرى، كأننا نحاولُ أن نُغرقَهَا في الدُّخانِ والمُدام.
عُدنا إلى وطننا، لكن شيئًا فينا لم يَعُدْ كما كان.
- الانكسارُ كقَدرٍ: سرديةُ الحُلمِ العُروبيِّ المتصدِّعِ (بيروتُ غصَّتُنَا)
لم تَكُن السنواتُ التي تَلَت اتفاقَ أوسلو مجردَ محطاتٍ سياسيةٍ عابرةٍ، بل شكلتْ منعطفًا حاسمًا في وعي جيلٍ بأكمله. بدا المشهدُ وكأن الأرض تَميدُ تحت أقدامنا، وكأن كل ما آمنا به بدأ يتهاوى بصمت. خلال تلك السنوات العشر، بدا العالم العربي مُكبلاً، مُنهكاً، تتعمق تبعيتهُ، وتنتشرُ في أوصَالِهِ ثقافةُ الهزيمةِ، فيما تسلَّلَتْ نفسيةُ المنهزمِ إلى الوعي الجمعي. ارتفعت أصواتُ الهوياتِ الجزئيةِ والإثنيةِ المتشظيةِ على أنقاضِ الحلمِ القومي، وضعُف الإيمان بالوحدة، حتى بات الانكفاءُ القُطري خياراً لكثيرينَ ممن ضاقوا ذرعاً بخيباتِ الانتماءِ العربي، فراحوا ينفُضُونَ أيديهُم من فكرة الانتماءِ إياها، التي، في نظرهِمْ، لم تجلبْ سوى الخسائرِ والدمارِ.
بعد حماقةِ اجتياحِ الكويت، بدا أنَّ العالمَ العربي انكفأَ على جُرحِه، وأنَّ ما تبقَّى من الحُلمِ القومِي صارَ شظايا مبعثرةً في الريحِ. لم نكن ندركُ ونحن نراقبُ الانهيارَ أن ذلك الحدثَ سيشكلُ بدايةَ زمنٍ عربي جديدٍ، زمنٍ تنكفئُ فيه الشعارات التي شكلت وجداننا، وتخْبُو فيه القضايا الكبرى خلف حدود الواقع السياسي الجديد، وتذوب فيه القضايا الكبرى داخل حدودٍ ضيقةٍ لا تتسع للماضي.
ثم جاء اتفاقُ أوسلو، وانهار ما تبقى من المعنويات. لم تكن تلك مجرد تسويةٍ سياسيةٍ، بل صفعةً موجعةً لذاكِرتنا النضالية. جَرتْ مياهٌ كثيرةٌ تحت الجسرِ، سقطتْ منظمة التحرير في حضنِ الواقعيةِ القاتلة، خنقت فلسطين، وتبعها نكوصٌ عربيٌ شاملٌ، واشتد الحصارُ على ليبيا واليمن وسوريا، أما العراق، فقد حُشِرَ في شرنقةٍ لم يخرج منها إلا على وقع دبابات الاحتلالِ الأمريكي.
- ذِكرياتٌ لا تصْلحُ لِمتحفٍ (بيروت والخذلانُ الآتِي مِن بَعيدٍ)
عُدت إلى بيروت بعد عقدٍ أو يزيد قليلاً. صرت أزورها مرة في السنة، مستجيباً لدعوة فيروز: “زوروني كل سنة مرة، حرام”. لكن، في كل زيارة، كانت تُفاجئني بأشياءَ جديدةٍ تبرز وأشياءَ قديمةٍ تختفي. ما لاحظته، بالإضافة إلى ما ذكرت من تغييرات في الوجوهِ والأماكن، كان شارع الحمرا قد أمْسَى أكثر ظُلمةً مما كان عليه سابقاً. لم يكن الظلام جسدياً وحسب، ولم تكن العتمة فقط لانطفاء الأنوار. بل كان الشارعُ يعكس فقدانَ بريقه، وفقدان شيءٍ من روحه القديمة التي كانت مفعمة بالحياة، بالنقاشاتِ، بالمظاهراتِ، وبالأمل الذي لا يخبُو.
حضرتُ بعض مظاهرات “طلعت ريحتكم”، ذلك الحراك الذي اشتعل احتجاجاً على العَفَنِ المُتراكِم لا على النِّفايات فقط، بل على ما تحتها من خيْبَاتٍ. وحدَهُ رياض عيسى بقِيَ من القدامى يتقدّمُ الصفوفَ. لا يزال يحمل الوجَعَ ذاتَه، يرأس جمعية “متطوعون بلا حدود”، بقي مناضلًا، مِعطاءً، حتى وإن لم يعد شيوعيًا كما عرفنَاه. ظلَّ رياض ثابتاً في نِضالهِ، فيما واصلتْ إيمان كفاحَها بإيمانٍ راسخٍ بالمقاومةِ وبحقِّ حزب الله في الدفاعِ عن أرضِ لبنان.
اندلعَتْ التظاهراتُ تعبيراً عن الغضبِ الشعبي تُجاهَ فسادِ السلطةِ وتدهورِ الخدمات، حيثُ مثّلتْ أزمةُ النفاياتِ الشرارةَ التي فجّرتْ الأوضَاعَ. غيرَ أن الكلَّ في بيروت كان يعلمُ بوجودِ صراعٍ مستترٍ بين التيارِ الوطني الحر وحُكومةِ تمام سلاَّم، متخفٍ تحتَ سِتار الغضبِ الشعبي.
لكن شتّانَ بين نضالاتِ الأمس ونضالاتِ اليومِ. كان الحراكُ نابضاًِ بالحياة، لكنهُ أَخفى في طيّاتهِ شيئًا من اليأسِ، كأنه نداءٌ لحريةٍ لا تأتِي، أو وعدٌ بِحلمٍ بعيد المنالِ. بَدَا كرجعِ صدى لذاكرةٍ قديمةٍ، وفي الوقت ذاته، كمحاولةٍ يائسةٍ للبحثِ عن مساحةِ كرامةٍ في واقعٍ يثقلُ كاهِلَهُ الخذلان.
كيفَ لي أن أنسى تلك الأيام التي كانت فيها المظاهرات صرخةً جماعيةً، تهتف بالأمل في غدٍ أكثر عدلًا؟ وكيف لي أن أُوازنَ بين ثورةِ الأمس، التي غذّتها إرادةٌ صلبةٌ وشَحَذَهَا الإيمانُ بحتميةِ الانتصارِ، وبين نضال اليوم، الذي لا يبدو أكثر من رد فعلٍ على السكونِ، لا يسعى إلى التغييرِ الجذري بقدر ما يطمح إلى تحسينِ الهامشِ وتجميلِ القائمِ؟
كلُّ شيء تبدَّلَ. الأمكنةُ، الإيقاعُ، الوجوهُ، الزمنُ… لكن شيئًا ما بقي. وربما، نحن أيضاً لم نتغيّر كما ظننا. ربما لا يزال في أعماقِنا ذَلك الصَدى الرِّفاقيُ القديمُ، الذي ما زال يتشبث بأملٍ كان يوماً ما مُمكناً، قريياً. شيئٌ واحدٌ بقي، يلوح لنا كذكرى عصيّة على التبددِ والنسيانِ… يُشبِهنا، أو يُشبه ما كنا نود أن نظل عليه.
عُدتُ إلى بيروت. بحثتُ عن الرفاقِ فلم أجدهُمْ. لا الموتُ أخفاهُمْ، بل الحياةُ. أخْفتهُمْ عوائِدُ الزمنِ وتقلباتُ الأيامِ، بعضُهُم كان يجلسُ على أرائكَ ناعمةٍ في مقاهٍ مكيّفة، يتحدث عن الدولار وعن الأبناء في جامعات أجنبية. لم أجرؤ على نطقِ كلمةِ “الثورة”، كانت ثقيلةً، غريبةً، كأنها تجيئُ من زمنٍ انقرض. رفيقي من منظمة العمل الشيوعي اللبناني، وكان أقربَهُم إليّ، قال لي: “كِبرنا، يا رفيق… كبر الحلم، وصغر العالم”. ثم أدَار وجهَهُ عني، كأنه يهربُ من ماضيه، أو منِّي.
التقيتُ بلارا في مقهى “تاء مربوطة”، ذلك الفضاءُ الثقافيُّ الذي تتناثَرُ بين جنباتِه الكتبُ من كل حدبٍ، تحيطُ بروّادهِ كأنها شهودٌ على نقاشَاتهم. كانت من الرفيقاتِ القديماتِ، غادرت الحزبَ، اشتغلتْ في الإغاثة، ثم استقرّت في منظمة تُعنى باللاجئين. سألتها، بينما تمتزجُ أصواتُ القهوةِ بصدى صفحاتٍ تتقلَّبُ بين الأيدي: “ما الذي بقيَ من الحزب؟”
حرّكتْ فنجانَها ببطءٍ، كما لو أنها تبحثُ عن إجابةٍ بين دوائرِ القهوة، ثم قالت: “الذِّكرى… والبعض يحاولُ أن يجعل منها متحفاً، لا جبهة”.
ضحكنا بمرارة، كما يضحك الغُرباءُ حين يفاجِئهم الحَنين، ولا يجدون كلمات تلائم وجعهم، بينما تتراكم الكُتبُ حولنا، تَرنُو إِلينا في صَمت.
في تلك الليلةِ، مشيتُ وحدِي. بيروت لم تكنْ بيروت. المدينةُ التي خبّأتُ فيها قلبي ذات صيفٍ، بَدَا لي أنها تخلَّت عنِّي. كل شيء صار أنيقًا أكثر من اللازم، صامتًا أكثر مما ينبغي. لا مظاهرات، لا منشورات، لا شعارات، فقط واجهاتٌ بأسماءٍ متنافرةٍ: “ملك البطاطا”، “الفلمنكي”، “بربر”، “سندويتش ونص”، “زيت وزيتون”، “السوسي”… ولا أعرف كيف شقّ هذا السوسي طريقه إلى أقاصي الدنيا ليقيم مطعماً لا رائحة فيه للمطبخ السوسي!
أَينَ مضَى ما ترَسَّب في ذاكِرتي من بيروت، وانسكَب في أعماقِها؟ هل انطفأتْ شُعلَتُه، أم أنه يختبئُ بين ضفافِ الذكرى، ينتظرُ أن تهُبَّ عليهِ نسائمُ الحنينِ والفقْدِ؟
أين ذهَبتْ تلكَ الذكرياتُ؟ أينَ ذهبَ كلُّ شيءٍ؟
لكن الزمنَ كان يمُرّ، ومع مرور الوقتِ بدأت تتفككُ الأحلامُ، واحدةً تلو الأخرى. كانت بيروت، رغم أضوائها، تخفي في أعماقِها الألمُ، وكان الألمُ يتسرّبُ تدريجياً ليُصبح مجردَ ذِكرى، وكنّا نحن نحاول أن نتشبث بتلك الذكرياتِ كما يتشبثُ العاشقُ بحلمٍ مستحيلٍ. وكلما عُدتُ إلى بيروت، كنت أجِدها أكثر تهدُّماً، أكثر بُعداً عن تلك المدينةِ التي أحببْتها، عن حُلمٍ عِشْنا معه لأيامٍ. ومع ذلكَ، وبالرغمِ من كلِّ ذلكَ ظَلَلْتُ أُحِبُّها.
رَجعتُ إلى بيروت بعد أكثر من عقد. فتّشت عن الرفاقِ الشيوعيين… فلم أجِدْ إلاَّ وقد عاد كلٌّ منهم إلى طائِفتِه. ربما كانت بيروت قد أخذت منهم جزءاً من قلبهم، وأصبحوا مثلها، لا يعرفون كيف يواجهونَ الحقيقةَ أو كيف يسيرونَ في الحياةِ الجديدةِ التي فُرِضت عليهم. كنت أبحثُ عن الرفاقِ الذين كانوا يمثلونَ لي صورةً من الأملِ، عن أحلامٍ لم تتحققْ، عن كلمات كانت تعني شيئاً ما في زمن آخر. لكني لم أجِدْهُمْ. كل شيءٍ تبدَّلَ، وكأنَ المدينةَ نفْسَهَا قد ابتلعَتْهُمْ في طيَّاتِها.
لَكِن، رغم كل شيءٍ، لم أندَمْ. لم أندمْ على تلك الأيامِ، على تلك اللحظاتِ التي عشناها في خضمِ العواصفِ والألمِ، لأننا كنا نعيش حقيقةً ما كنا نؤمن به، نكافحُ من أجل شيءٍ أكبر منا. لم أندمْ على خيباتِ الأملِ، ولا على الحروبِ التي خُضْنَاها في أعماقِنا. لأنّ الحُلم الذي عاشَ فينا، ورغم كل شيء، لا يزال حياً في الذاكرة، وفي قلوبِ من لم ينسَوا بعد.
ربما الحلمُ لا يموتُ، بل ينهك. ربما الرفاقُ لا يختفونَ، بل يذُوبُون في طبقاتِ الحياةِ اليومية. وربما، فقط ربما، كنّا نحنُ على عتبةِ الوهم.
لم أندَمْ. قطْعاً لم أندمْ، أنني بكيتُ في مخيمِ شاتيلا، ولا أنني حلمتُ بثورةٍ عربيةٍ واحدةٍ، ولا أنني صدّقتُ أن جبهة التحريرِ هي جناحُ القلبِ، وأن الشعرَ قد يهزمُ الدبَّابَة.
تلك الأيام علّمتني شيئًا لا يُنسَى: أن نخْسَرَ الحُلمَ، لا يعْنِي أننا خسِرنَا القُدرةَ على أن نحلُمَ.