من خلال تحليل تسلسل و تناسل الأحداث و التصريحات في مقال ” قراءة في تطورات ما بعد حادث وفاة رئيسي و مرافقيه..” ، خلصت إلى أن  المحور الروسي الصيني الإيراني يعلن جهوزيته للرد على تغول الحلف الأمريكي-الأطلسي-الصهيوني..وكنت أود أن أقول المحور الأوروبي لكن واقع الحال يؤكد على أن أوروبا تعيش على صفيح ساخن و في مفترق طرق، وبدأت الكثير من بلدانها الفاعلة و المؤثرة تنزل من سفينة الحلف الصهيو -أمريكي ، و محاولة أخذ “مسافة أمان” من هذا الصراع الذي ينذر بحرب عالمية لا تبقي و لا تذر ، وبطوفان لا يتوقف إلى أن “تخرج الأرض أثقالها ويقول الإنسان مالها”..

• رصاصة الرحمة

فالعالم في اللحظة الراهنة يعيش أزمة قيادة واضحة، الولايات المتحدة الامريكية وحلفاءها، صاروا ضمن “العجزة” الذين ينتظرون ساعة رحيلهم، أو رصاصة الرحمة، وما يمدد أجلهم غياب بديل جاهز ومستعد لتحمل “غرم” قيادة نظام كوني كشف طوفان الأقصى عواره وعجزه.. فأمريكا وحلفاءها في حكم الميت، لكنهم لازالوا على سدة العرش، ولم أجانب الصواب عندما شبهت هذه التحولات الهائلة ب”منسأة”  النبي سليمان التي أكلتها “دابة الأرض” بعد موته، قال تعالى في محكم كتابه (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) فقد قص الله تعالى علينا خبر وفاة سليمان وخفاء موته على الجن ليعلم الناس عدم اطلاعهم على الغيب، ولم يذكر المدة التي جلسوا يعملون فيها بعد موته، ولم يذكر حال أهله هل علموا أم لم يعلموا؟ ولكن بيت القصيد من إستحضار القصة القرآنية، أن شياطين الجن لم تنبه أولا لموت النبي سليمان وثانيا لم تنبه  إلى أن العصا  تقرضها حشرة الأرض..

فالعالم اليوم يعرف تحولات عميقة لا تسطيع العقول الجامدة والقلوب المتحجرة، قياس وثيرتها وإدراك تداعياتها الأنية والمستقبلية، كما أن  الأيادي المنخرطة كرها او طواعية في حلف صهيو- صليبي غايته تنفيذ أجندة شيطانية -دجالية لا تملك القدرة والشجاعة للتحرر من قبضته والانفلات من تحت عباءته..

• الحرب الحضارية الأولى

لكن لحظة الحسم مقترنة بتسوية الخلافات بين وارثي النظام المنهار، فالصين على أبواب ترشيح ذاتها للجلوس على عرش القيادة العالمية، كما تطمح روسيا إلى استعادة أمجادها، وأوروبا بدورها ترغب في توحيد جهودها وحشد قواها للظفر بقمرة القيادة ..

وإذا كان الكل يستعد لحجز مكان في الصفوف الأمامية، فمن حق العالم العربي -الإسلامي بعربه وعجمه، بسنته وشيعته، أن يسعى إلى تبوأ مكانة سامقة بداخل هذا النظام العالمي القادم، لكن لا أحد في هذا العالم العربي-الإسلامي يسعى بوضوح إلى مركز “قمرة القيادة”، فقبل حرب الخليج الأولى التي سماها “المهدي المنجرة” رحمه الله بالحرب الحضارية الأولى، كانت العراق البلد الوحيد الذي يرى نفسه، ويراه العرب كذلك قادرا على قيادة العرب والدفاع عنهم، وكان بالفعل أول من ضرب عاصمة الاحتلال..

• تغليب عامل الوحدة على عامل الفرقة

ولكن الحرب العراقية- الإيرانية التي استمرت لنحو ثمان سنوات قد أوهنت وأرهقت كلا الفريقين الذين يشكلان عالما إسلاميا واحدا، ولم تكن هذه الحرب لتقع لولا النفخ المجاني و المشبوه في الخلافات التاريخية الموروثة عن الفتنة الكبرى، وأفتح القوس لأنادي من جديد كل عقلاء و فضلاء وحكماء الأمة العربية -الإسلامية إلى إعادة قراءة هذا التاريخ للمرة الأخيرة، من أجل النظر إلى المستقبل وعدم رهنه بانتصار فريق على أخر، أو التشكيك في هذا الطرف أو ذاك، أو رميه بالتخوين والعمالة..

فالمهم بنظري هو تغليب عامل الوحدة على عامل الفرقة والشقاق، أو محاولة تغليب مذهب على أخر أو عرق على أخر أو لغة على أخرى .. نستطيع كعالم إسلامي أن نحقق التقدم بكل اللغات فضلا عن العربية و التركية والفارسية، ونستطيع أن ننهض من كبوتنا بكل الأعراق فضلا عن العرق العربي أو الفارسي أو التركي، ولنا في تجربة الإتحاد الأوروبي نموذجا عمليا يمكن الإقتداء به والاستفادة من دروسه ودروبه…

• قوة المنطقة في شعوبها الممانعة

من دون شك، أن الوضع الحالي للمنطقة العربية جد معقد وأن حجم التهديدات يتسع، لكن مع ذلك هناك بدائل تدعو إلى التفاؤل، إن قوة المنطقة اليوم ليس فيما تملكه من أسلحة. فمهما يكن حجم هذه الأسلحة فهو لن يضاهي ما تتوفر عليه القوى العظمى. لكن قوتها – المنطقة العربية – تكمن في إرادة الشعوب وثباتها العقائدي، فشعوب المنطقة رغم حالة التجهيل والتفقير الممارس عليها من قبل أنظمة غاشمة تحظى بغطاء أجنبي . إلا أن هذه الشعوب لازالت تؤمن بأحقيتها في تقرير مصيرها، وعملية طوفان الأقصى وثبات المقاومة وصمود أهلنا بغزة لما يزيد عن 7 أشهر ونيف في وجه حلف صهيو-صليبي، توفرت له أحدث أسلحة الدمار الشامل، وحشدت له كل الموارد من القريب والبعيد، ومع ذلك فشل في هزم مقاومة محاصرة منذ 2006، لكنها صنعت الفارق بتفوقها العقدي والأخلاقي .. وعلى ذات المنوال يتذكر الجميع ما فعله الشعب الصومالي واللبناني  بالجيش الأمريكي، وما فعلته الفلوجة والمقاومة العراقية في جيش الاحتلال الأمريكي وحلفاءه.. وما صنعته طالبان في جيوش الحلف الأطلسي .. إن قوة المنطقة في شعوبها الممانعة ونقطة ضعفها في أنظمتها الحاكمة المتهالكة، العاجزة عن بناء أي قوة ذاتية باستقلال عن الوصاية الأمريكية أو الأجنبية عامة. فهذه الأنظمة لا تتردد في استعمال القوة في وجه شعوبها لكنها بالمقابل لا تستطيع رفع صوتها بكلمة “لا” أو “كفى” في وجه الابتزاز و التدخل الأجنبي..

• تغيير قواعد اللعبة

نود حقيقة أن تخرج المجتمعات العربية والإسلامية من حالة الوهن الراهن، وان تصبح سيدة قرارها داخليا و خارجيا، قد يبدو هذا الأمر بعيد المنال في ظل الوضع الراهن، لكن ليس هناك مستحيل أمام إرادة الشعوب.و ما صنعته المقاومة في غزة يدعو إلى التفاؤل و سيكون لهذا النصر و لبشاعة الإجرام الصهيوني ودناءة خنوع النظام العربي الرسمي، الذي  تحالف مع الصهاينة في السر والعلن، أثر في تغيير خريطة المنطقة سياسيا ، لذلك فإني أرى أن العالم العربي سيشهد انتفاضات واسعة عندما تضع الحرب أوزارها ..  ..

فالتحدي أصبح بيد الشعوب التي بإمكانها تغيير قواعد اللعبة محليا و دوليا، ف “بايدن” و “ترامب” و”أوباما” و”نتن ياهو” تختلف الأسماء لكن تستمر نفس السياسات.. التحدي الذي يواجه المنطقة هو تحصين الجبهة الداخلية وتحرير الإرادة الشعبية وبناء نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية عادلة ومعبرة عن إرادة الناس، ونبذ الفرقة المصطنعة بين الشعوب العربية والإسلامية ففي الوحدة والتكتل الاقتصادي و العسكري قوة، وبمثل هذا المجهود الجمعي يمكن بناء عناصر القوة التي بمقدورها وقف كل قوة معادية، فالقوة لا تحدها إلا القوة… وللحديث بقية وأعتذر للقراء على بعض الأخطاء الإملائية الواردة في المقال السابق… والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

كاتب وأستاذ جامعي