أشرت في مقال “إختراق المنطقة العربية وتفتيتها هدف استراتيجي للكيان و حلفاءه والغاية  تنزيل الحلم الصهيوني…”إلى أن الصهاينة يحلمون بإحياء مملكة الملك – النبي سليمان عليه الصلاة والسلام، لذلك فالحدود الحقة لصناع الحلم الصهيوني تمتد إلى حدود “مملكة سليمان” والغاية التي تحكم العقل الاستراتيجي الصهيوني هو البحث عن هيكل سليمان بل وأسرار وكنوز “نبي الله سليمان” والتي مكنته من تسخير شياطين الجن والإنس لخدمة مشروعه…لكن وعد قرون من الجهد التنظيري والتحريفي نجحوا إلى –حدما في إقامة وطن لهم- على أرض فلسطين المحتلة، وحدودهم كما يشير علمهم “من البحر إلى النهر”، وسعيهم لإختراق المنطقة العربية وتفتيتها هدف استراتيجي للكيان الصهيوني والغاية  تحقيق الحلم الصهيوني…

فالأحداث  تتزاحم  والتحديات والتهديدات المصيرية تتدافع، والهزائم الحضارية تتوالى،  والمظالم تتعاظم في وطننا العربي والإسلامي، والقاسم المشترك بين هذه السلسلة المتعددة الحلقات ؛ أنظمة حكم فاسدة وعميلة للأجنبي وشعوب مستضعفة إستولى عليها  الإستبداد، فطبعها بطابع الخوف والخنوع والقبول بالعبودية والإستسلام للأمر الواقع، تحث ذرائع شتى …

ونحن نتابع ردرود الفعل الشعبية من عملية الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الصهيوني في غزة طيلة 7 أشهر ونيف،  نتساءل هل النظم الرسمية وحدها مسؤولة عن حالة التردي والعجز والخذلان والتجديف عكس المنطق والعقل والمصلحة العامة؟

وبملاحظة عامة، نسجل كمعطى أولي  أن حجم التعاطف الشعبي مع غزة في عالمنا العربي محدود نسبيا، مقارنة بتفاعل هذه الشعوب مع قضايا أخرى أقل شأنا وأهمية، فهذه الشعوب قد تجتاح الميادين والشوارع للإحتفاء بنصر كروي، و قد تتحمل الغالي والنفيس لحضور حفل غنائي لهذا المغني أو تلك المغنية، لكن أن تعبر عن احتجاجها السلمي على  الجرائم والمجازر التي ترتكب في حق شعب تربطها به روابط العقيدة والجغرافيا والتاريخ، ذلك بالأمر غير الممكن والمتاح ..

والمعطى الأخر أن هناك جهات في عالمنا العربي الموبوء بأمراض الاستبداد والفساد.. تتبنى منطق “التهويل” أو “التهوين” والمصلحية ضيقة الأفق في تحليل الأحداث، وهذا ما سجلته طيلة الأيام التي أعقبت الضربة الإيرانية، فهناك موجة من التهوين إلى حد السخرية، في مقابل موجة من التهويل إلى حد إعتبار أن ما أقدمت عليه إيران هو تحرير للأقصى و تحرير كامل لفلسطين المحتلة من أيدي الصهاينة المحتلين..

ونحن نرى أن كلا الموقفين في التعاطي مع الموضوع فيه مجانبة للصواب، و عتريه ضعف في التحليل، فينبغي أن نحلل الأحداث من زاويتين:

زاوية التحليل  الأولى:

ونحن نحلل الضربة الليلة علينا التركيز على عمق الأحداث ودلالات الرسائل المقصود بعثها من هذا الطرف أو ذاك، وأهم نقطة ينبغي تسجيلها هو الانتقال من مرحلة توظيف الوكلاء وخوض الحروب بالوكالة، والانتقال إلى مرحلة المواجهة المباشرة..

قد يسخر البعض من مسيرات إيران و صواريخها التي سقطت قبل أن تصل، وما سقط منها سقط في مناطق غير مأهولة بداخل فلسطين المحتلة، لكن علينا التحفظ من هذه السخرية، لأن إيران بإقدامها على عملية القصف والذي نعلم أنه جاء بعد إخبار وسطاء دوليين بطبيعة الرد وساعته، إلا أن هذا الرد يقودني إلى الاعتراف بأن قادة إيران يتعاملون مع سيادة وطنهم ومصالحه الحيوية بجدية، وأنهم يدافعون ويقاتلون بشراسة من أجل تنزيل حلمهم الحضاري.. وانهم يتقنون فن توظيف الأحداث لصالحهم، وينجحون في تحقيق مكاسب جيوإستراتيجة وتوسيع رقعة نفوذهم من خلال إستغلال الأحداث والظروف لصالح بلادهم وسياساتهم ..

وعلينا الإقرار أيضا، بأن جزء كبير ممن يتزعمون حلف السخرية والتهوين هم نفسهم من يهرولون بإتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني على إعتبار أن الكيان  الغاصب لا يمثل بنظرهم،  تهديدا للبلدان العربية، مقارنة بالخطر الإيراني، والحجة التي تساق للترويج إعلاميا وسياسيا لهذا التوجه، هو أن إسرائيل تحتل عاصمة عربية واحدة، بينما إيران تحتل أربع عواصم، و تبعا لذلك، فالعدو الحقيقي للعرب هو النظام الصفوي الشيعي، وإسرائيل معين للعرب و حامي لهم من الخطر الذي يتهددهم، بل إن حكومة الصهاينة حمامة سلام وداعم للحق العربي وضامن لأمن “أهل السنة” و إستقرارهم.. وهذا الوضع يذكرنا بالمثل القائل ” أكلت يوم أكل الثور الأبيض” !!!

زاوية التحليل الثانية:

وبعيدا عن التهوين و التهويل معا ، ومن منطلق التحليل الموضوعي والبرغماتي للأحداث، علينا من جهة ثانية، الإقرار أن الحلم الصهيوني والحلم الصفوي كلاهما مشروع إفسادي، وليس في ذلك تجني بل تحليل التصور الصفوي للدولة، وخروج الإمام، والأحداث التي تعجل بخروجه، لا تختلف عن جوهر فكرة إنشاء الكيان الصهيوني وإقامة دولة اليهود… ولذلك فكلاهما لا يتورع عن نشر الفساد وسفك الدماء بالبلاد العربية تحث ذرائع عقدية غيبية، ولذلك فإن مقاومة كلا المشروعين أمر لابد منه، والرسالة الأساسية لفكرة الإستخلاف في الأرض التي جاء الإسلام لترسيخها..

لكننا نسجل في وقت ذاته، أن قوة المشروعيين نابعة من ضعف العرب وإن كنت سأضيف وصف العرب “السنة”، والواقع أني وضعت السنة بين معطوفتين، لأنني أدرك أن هناك عرب ليسوا على المذهب السني وينتمون للشيعة وأكثر رفضا للعقيدة الصفوية وللسياسات الإيرانية في الإقليم العربي، فهناك عدد كبير من كبار علماء الشيعة في العراق ولبنان لهم مؤلفات وتصور معادي للتصور والممارسات العنصرية التي يمارسها النظام الإيراني، بل علينا أيضا  التمييز بين النظام الإيراني/ الخميني القائم على نظرية ولاية الفقيه، وقطاع واسع من الشعب الإيراني المسلم الذي تم الحجر على ثورته ضد الشاه، ويعاني بدوره من مخططات وسياسات لا تخدم مصالحه و أمنه …

ولذلك، فبالرغم من الاعتراف بخطورة الممارسات الصادرة عن النظام الإيراني في مناطق نفوذه بالإقليم العربي، وسعيه إلى دعم طرف على طرف وإنحيازه الطائفي الواضح في سوريا واليمن ولبنان والعراق.. إلا أنني لا أحبذ التصور والحجج التي تتبناها الأنظمة العربية ومن ذلك، الإستعانة بالكيان الصهيوني وبالولايات المتحدة لضرب المشروع الإيراني.. وذلك للأسباب التالية:

أولا-لأن التمدد الإيراني ما كان ليتم لولا مباركة من أمريكا ودعم ضمني من  إسرائيل، فالمستفيد الوحيد من حالة الدمار الشامل التي عمت المنطقة العربية هي إسرائيل و مشروعها التوسعي…

ثانيا– من العبث مواجهة تطلع إيران النووي في وقت تكدس فيه إسرائيل أسلحة نووية، ولا تخضع لأي تفتيش دولي، فالعرب عندما يتبنون الرؤية الأمريكية/الصهيونية، إنما يعادون إيران و مصالحهم، ويمنحونها الحجج والذرائع للتدخل في شؤون الإقليم على إعتبار أن معاداة العرب  تبيح لإيران فعل ما تراه مناسبا لأمنها ومصالحها الحيوية.. والمنطق السليم يقول بأن العرب من مصلحتهم دعم التطلع الإيراني للحصول على التكنولوجيا النووية وإن كانت عسكرية، لأن ذلك سيمنحهم الذريعة للحصول على نفس التكنولوجيا، وكسر الإحتكار الصهيوني للسلاح النووي، وما أحوج العالم العربي لقوة رادعة على غرار ما فعلت باكستان والهند والصين…

ثالثا– تغلغل إيران في الإقليم نتيجة لعمالة الأنظمة العربية وخنوعها وإستسلامها المذل للغرب وللصهاينة، فما الفائدة التي جنتها بلدان الخليج من مواجهة الثورات العربية ودعم الثورات المضادة، وما جنته هذه البلاد وغيرها من البلدان المطبعة مع الكيان الصهيوني من حصار المقاومة الفلسطينية ..؟

لأجل هذا فمعالجة كلا الخطرين لا ينبغي أن تكون بالتهوين أو التهويل، كما لا ينبغي أن تكون بالتحالف مع الصهاينة أو أمريكا ضد إيران، فالأجندة الغربية تريد الضغط على إيران لكن بأموال ودماء عربية، وأستطيع القول جازما بأن مصلحة الشعوب العربية تكمن في بناء القوة الذاتية ومقاطعة الأجندة الصهيو/أمريكية، والإبتعاد عن المواجهة العسكرية مع إيران بشكل مباشر أو غير مباشر وفتح قنوات حوار مباشر معها بغرض نزع فتيل الصراع الطائفي الذي تعاني المنطقة العربية تداعياته منذ حرب الخليج الأولى، لأن الخاسر إلى حد الآن هم العرب، فبفعل هذه السياسات المجانبة للصواب تم تدمير العراق وسوريا و اليمن تحث ذريعة محاصرة التمدد الإيراني، لكن للأسف تم تدمير مقدرات شعوب عربية أصبحت تعاني ويلات الحروب واللجوء و تفشي المجاعات والأوبئة، في مقابل أن الشعب الإيراني يعيش حالة من الأمن والإستقرار، وجزء كبير من مطالبه تلبى من قبل النظام الحاكم، ورأينا كيف يتم التعاطي مع الإحتجاجات الشعبية التي تشهدها إيران في محطات مختلفة، وعلينا الإقرار  أن إيران تحقق مكاسب سياسية وإقتصادية تمكنها من تحصين الجبهة الداخلية و تقوية موقعها في لعبة الشطرنج الإقليمية والدولية..

هذا إلى جانب أن حالة الدمار بالبلاد العربية جعلت من الكيان الصهيوني القوة الضاربة في الإقليم، وأصبح في مقدور هذا الكيان بأقل كلفة إتمام مشروعه وتنفيذ حلمه بتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.. بل من غير المستبعد أن تطالب الصهيونية بالحقوق التاريخية لليهود في الجزيرة العربية بعد بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام..

لذلك، من مصلحة شعوب المنطقة وعقولها الإستراتيجية دعم المقاومة الفلسطينية في مقاومتها للمحتل الصهيوني، لأن هذه المقاومة تحمل مشروعا لتحرير فلسطين و تؤمن بأن ما تم أخده بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ، وأن القوة لا تحدها إلا القوة، والطبيعة بطبعها لا تقبل الفراغ … والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

كاتب و أستاذ جامعي مغربي