لا يمكن فهم المغرب!

نعم لا يمكن فهم المغرب، لأن دوائر صنع القرار تتكاثر بسرعة مهولة، وتنقسم بين صناع قرار واضحين للعيان، وآخرون لا يظهر سوى أثر ووقع سلطاتهم ونفوذهم على الصناع الأولين.

بناء على هذه القاعدة؛ التي هي تراكم لكثير من الدراسات السياسية التي ليست لها القدرة للإفصاح عنها، فتقول بدلا من ذلك بمفهوم ضبابي يدعى «الخصوصية» السياسية للمغرب.

إذا كان الحال هكذا؛ فالصحراء أشد صعوبة من حيث الدراسة، فما بالك أن يقول أحدهم إنه تجاوز الدراسة للفهم. المسألة بشكل بسيط تتجلى في هواجس الدولة الأمنية إزاء تدبير أي ملف في الصحراء، ما يجعل الأمر غير خاضع لاستراتيجية عقلانية تمشي على خطى مستقيمة وواثقة.

أليس مغرياً إذن أن ينكب الباحث على نفض الغبار عن صراع النفوذ بالصحراء، بطريقة علمية لا تساوم بالدرهم والدينار، علماً أن العلم اليوم أضحى أرخص عملة على الإطلاق في زمن الشعبوية، وسياسيي الوعكة الديمقراطية الراهنة…

يتسربل مالكو الواقع السياسي في الصحراء بتخوين من لا يشاطرهم رؤاهم، وهذه خطة ليست وليدة اللحظة، بل يتذكر أجدادنا في سنوات الرصاص والجمر أن نفس المبدأ كان مدعاة لدخول الكثير للسجن، نظراً لقرب أحد أفراد العائلة لصناع القرار الأمني، وكل هذا قد يكون ناتجاً عن خلاف عائلي لا أساس سياسي له… وهذا نوع من تطورات العنف الرمزي ليشيد عنفاً مادياً كامل الأركان…

جاءت كل هذه الخطوط العريضة لتبني سؤالاً مركباً: كيف لمناضلي حزب واحد أن يخوضوا صراعاً سياسياً ضد أنفسهم؟ وكيف لمسؤول الحزب الأول أن لا يتخذ قراراً حاسماً؟ ولماذا السلطة الرابعة لا تقتل هذا الموضوع دراسة وبحثاً علها تشكل ضغطاً يجلي الغبار عن هذه القضية، وتكون بذلك مارست دورها التاريخي؟

هنا تحس أن الأمر مريب، وأن هناك شيئاً وراء الأكمة، ولكي يكون القارئ على بينة من أمره، نحن هنا نكمل مسيرة محاولة استيعاب الصراع السياسي المربك والمفاجئ ضمن حزب الاستقلال، للسيد حمدي ولد الرشيد ضد السيد الخطاط ينجا، حيث تطور الصراع لكي يكون إعادة لبناء مجال مدينة الداخلة السياسي عنوة، دون احترام لأدنى شروط الديمقراطية وهي: المسؤولية السياسية التضامنية لمن يسيرون الشأن العام من حزب واحد.

فكل الإشارات الدالة على أن هناك حلفاً سياسياً قادماً من عدم، استقرت في ذهن من شاهد المهرجان الاحتفالي الذي استقبل به السيد حمدي ولد الرشيد السيد محمد بوبكر، وإن كان لا يوجد هناك تصريح مباشر بهذا التوقع، فالباحث دوره أن يحاول فهم الواقع من خلال تفكيكه وإعادة بنائه لأجل توقع القادم.

وإن كان السيد حمدي ولد الرشيد ليس له تكوين علمي هائل، إلا أنه مع مرور السنوات وتراكم الخبرات أضحى له من المستشارين من له القدر الكافي من العلم والسياسة، لكي يساهم في تقديم السيد حمدي ولد الرشيد بصورة أكثر كاريزمية. لهذا؛ منذ القديم وأنا أقدم مقترحاً علمياً لأن يدرس السيد حمدي ولد الرشيد كمؤسسة، رأسها هو وقاعدتها مستشارون بارعون في أكثر من مجال.

وعلى هذا الأساس؛ خطوة «السلهام السياسي» لم تكن بلا دلالات سياسية، بل وليدة انفجار بركان سياسي من المعاني والرموز، وقد تكون من إنتاج «مؤسسة السيد حمدي ولد الرشيد» التي تحدثنا عنها سالفاً… يأتي استقبال السيد حمدي ولد الرشيد لثلة من أعيان قبيلة «أولاد دليم» رداً لكرم الضيافة التي عاشها السيد ولد الرشيد في مدينة الداخلة من طرف السيد محمد بوبكر ومجموعة من قيادات حزب الاستقلال هناك، وضمن فعاليات مأدبة العشاء تلك فوجئ الجميع بمرور «طيافر» توزع من خلالها سلاهم على ضيوف بعينهم، حيث أن هناك من لم يصلهم الدور لينعموا بدفء البْرْنُوص…

حري بنا أن نقف على السلهام جذوره وتطوره، حيث يجسد السلهام صفوة الملابس المغربية، قياساً لما يمثله من علامات الجاه والرفعة، فهو منذ ابتكاره دليل على القيادة والريادة، وهو لباس رجال الدولة خلال الاحتفالات الملكية والأعياد الوطنيّة، وكان سلاطين المغرب ورجال المخزن قد اشتهروا قديمًا بارتداءِ السلهام مع الجلباب.

تاريخياً؛ وبما يتسق مع «الخصوصية الصحراوية»، ذكر وزير الدولة الأسبق محمد اليازغي بأن الراحل الحسن الثاني خص المرحوم خطري باستقبال خاص حضره جمع غفير من المسؤولين الكبار والدبلوماسيين من مختلف أنحاء العالم، مضيفاً أنه في ذلك اليوم أشاد الحسن الثاني بوطنية خطري ولد سعيد الجماني وألبسه سلهامه، قائلاً له «لم يسبق لي أن استقبلت مغربياً كما استقبلتك». ولأن التاريخ ماكر كمن يدونه، يسعى السيد حمدي ولد الرشيد ومستشاريه إلى صناعة الدلالة والرمزية في أي حدث كان، وهذا ليس ميزة في هذا الرجل وحده، بل تركيبة الانسان الصحراوي النفسية غالباً ما تهوى الأضواء والرئاسة، لذلك ينصب الجهد حول التفكير في المسائل التي تصنع الحدث أكثر من الحدث نفسه… وباستحضار ما تُوفر لنا الاستحقاقات الانتخابية السابقة، نجد أن هناك صراعاً يفوق الانتخابات بين آل الجماني وآل الرشيد، إنه صراع الشرعية التاريخية والسياسية، الذي ما فتئ ينسى ليعاد بعثه من جديد عبر رمزية الصورة طبعاً.

بعد هذا الاستعراض التأريخي لأحداث تخلد السلهام، وتجعل دلالته السياسية واضحة للعيان، نقرأ في هذا الحدث الدلالات السياسية الآتية:

الدلالة الأولى: ساهم السلهام كتقليد مخزني للسلطة الحاكمة، في صناعة المشهد في مناسبات سياسية عديدة على امتداد التاريخ السياسي المغربي، حيث ألبس لرؤساء دول، ورجالات دولة أجانب، وفنانين… وفي ذلك ترسيخ للثقافة المغربية في نفوس الأجانب، وإعطاء صورة جميلة عن المغرب كبوابة للكرم وحسن الضيافة… وفي الحدث الذي ندرسه، قد يكون حضور المباركة السياسية والقبول أقوى اتساقاً مع طبيعة الحدث، لأن الحضور ليسوا بحاجة لمن يذكرهم بالوطنية…

الدلالة الثانية: غياب السيد الخطاط ينجا عن هذه المأدبة، يعيد النظر في رواية السيد حمدي ولد الرشيد بالداخلة، حينما قال: «بأنه يزور الداخلة ليس لوضع خارطة انتخابية جديدة، بل لتمتين اوصر المحبة خصوصاً أن له رفاقاً هناك». كيف لممثل حزب الاستقلال في الداخلة أن يغيب عن مثل هذه المناسبات، التي كان سابقاً أول الحاضرين بها، علماً أنه حضر مصاهرة أبناء كل من السيد التامك والسيد دويهي !

الدلالة الثالثة: هناك صراع سياسي حقيقي يقوده ممثل الجهات الثلاث ضد ممثل جهة الداخلة ضمن أجندة حزب الاستقلال، وهو صراع يمس في جوهره مبادئ الانتقال الديمقراطي بالمغرب، ويرسم خطوطاً جديدة وغير واضحة لإمكانية البعض القيام بأي شيء دون أدنى محاسبة حزبية أو دولاتية… الغريب في الأمر هو ألا يمكن لرئيس الحزب الفصل في هذا النزاع، وهذا موضوع أساسي أهم من الصراع الأول… أن يكون المرء رئيساً موقوف الصلاحيات، بحكم النفوذ المعنوي الغير عادل بين أفراد الحزب الواحد…

الدلالة الرابعة: إننا إذا ما ترجمنا هذه الواقعة لأحد علماء السياسة الأجانب، أقسم لكم أنه لن يفهم الوضع، وهذا دليل كافٍ أن الوضع مبهم، ويرسخ تقاليد «الخصوصية الوهمية» لبعض الزعامات التقليدية في الصحراء، وكأن ممارسة السياسة مجال لجبر الخواطر وتمتين الأساليب الشعبوية، بينما الأمر يتطلب صرامة وواقعية سياسية للحد من تغول هذا الأمر…

الدلالة الخامسة: يتطلب تسيير الجهات اليوم حسب ما تصور الفقهاء ممن وضعوا اللبنات الأولى للجهوية المتقدمة رؤساء جهات واعون، ولهم قدر من المعرفة والتكوين، ليمثلوا جهاتهم بكل مسؤولية، وحس مشترك، ولا ريب أن هذا يقل وجوده في الذين لا علم ولا تكوين لهم… لهذا فالصراع في حقيقته صراع أزلي بين النور والظلام الدامس… وعليه؛ يلزم الناخب أن يكون حريصاً على اتخاذ موقف لا يجعله سجيناً لسنوات عجاف، لمن لا خلاق لهم…

وأخيراً؛ يؤدي احتدام الصراع السياسي بين السيد حمدي ولد الرشيد والسيد الخطاط ينجا إلى انبعاث البديل المؤلم أمام الفراغ السياسي، والذي هو الشعبوية، وهو بديل يبعث على وجود أزمة…

باحث في علم السياسة