أعاد البلاغ الملكي الأخير من جديد طرح مراجعة مدونة الأسرة على البساط، بعد أن سبق وأن تناولها خطاب العرش سنة 2022.

من نافلة القول إن السياق الذي جاء فيه هذا الإعلان يمكن أن يخضع لعدد من التأويلات، حسب موقع كل فاعل على حدة وحسب أولويات كل طرف. لكن ما هو مؤكد، وبغض النظر عن التقديرات المتباينة حول الهدف والأجندة والظرفية التي طرح فيها الموضوع، فإن هناك عدد من مواد المدونة التي تحتاج إلى مراجعة، ويحتاج البعض الآخر منها إلى إصلاح، فيما تتطلب الفلسفة التي تؤطر المدونة إعادة نظر عميقة.

ويجدر التنبيه أنه حينما يصبح قانون معين عاجزا عن الجواب على إشكالات عملية يواجهها الناس في حياتهم، فهذا يتطلب بالضرورة قرارا بمراجعته حتى يفي بالغرض منه. ولهذا وعلى الرغم من المبررات السابق ذكرها، يصعب عدم القبول بخطوة المراجعة إذا كان الهدف منها التقدم في حل المشاكل.
في هذا الإطار، نود تسجيل بعض الملاحظات التي تولدت لدينا من خلال تتبعنا لردود الأفعال الأولى التي تم التعبير عنها، وهي كما يلي:

1.حدد الخطاب الملكي سقفا من خلال العبارة التوجيهية التالية: “لن أحلل ما حرم الله ولن أحرم ما أحله”، وهي بالمناسبة نفس العبارة التي كانت قد وردت سابقا في إعلان إصلاح المدونة في أكتوبر 2003. فإذا كان للخطاب الملكي إكراهاته المؤسساتية والمحاذير التي يحرص عليها، فإن هذا لا يُلزم بالضرورة مكونات المجتمع وأساسا منها المنظمات النسائية والحقوقية. من المفروض أن من يناضل ضد منظومة الهيمنة الذكورية لا ينبغي أن يخضع لمنطق الحسابات الظرفية، وأساسا تلك التي لا يهمها بالضرورة إحداث رجة. لا يعني هذا أن السياق لا أهمية له، لكن تقدير السياق يختلف بالضرورة بين من يخضع لحسابات انتخابية ومن لديه رهانات تمس جوهر القيم التي تتأسس عليها القضية التي يدافع عنها. لهذا، نتصور أنه ليس على مكونات المجتمع المدني أن تُلجم نفسها وتحكم على وجودها بالجمود، ما دامت لا تخضع لمنطق السلطة وحساباتها الضيقة أحيانا. فمجتمع مدني حيوي هو ذلك الذي يرفع السقوف، حتى وإن كانت نتائج الإصلاح قد لا تكون في مستوى هذه السقوف. فالربح الأكبر بالنسبة لمن يتوخى خلخلة الذكورية يكمن في خلق نقاش عمومي يساهم في التحسيس واكتساب الوعي عبر بسط الموضوع وتشريحه وتفكيكه وتبيان تهافت من يسعى للإبقاء على الوضع كما هو عليه. كما أن الربح يكمن في تقريب الهوة بين مختلف الآراء عبر تقديم الحجج والأدلة والبراهين، وعبر الإشراك الواسع للمعنيين والمعنيات بالأمر. إن بيداغوجية النقاش العمومي لها فوائد أكثر مما يمكن أن نتصور، حيث تساهم كذلك في إسقاط أحكام القيمة التي يُلصقها كل طرف بالطرف الآخر، هذا عدا كونها تساهم في بناء رأي عام، خصوصا مع وسائل التواصل المتوفرة اليوم بشكل كبير مقارنة مع الماضي.

لا ينبغي في رأينا المتواضع، التقليل من أهمية فتح باب النقاش العمومي على مصراعيه، وطرح كل القضايا بما فيها تلك التي يُراد لها أن تكون من الممنوعات ومن المحرّمات، شريطة أن يتحلى حاملو/حاملات القضية بفضيلة الإنصات للرأي المخالف والتفاعل معه بأخلاقيات النقاش العمومي القائمة على القبول بالاختلاف. فهذه تعتبر كذلك من موجبات استبطان التفكير الديمقراطي الذي يُعتبر شرطا واجبا لبناء الديمقراطية. لن يستفيد أحد من محاولة فرض رأيه ومن التمسك ب”حقيقته” وبتفضيل تنازع الأنانيات وتضخمها بدل تباري المشاريع ومقارعة الحجج والأفكار، وسيبقى المُتحكم في إيقاع المجتمع والمُراقب له في النهاية هو المستفيد الأول والأخير.

2. جاء في خطاب أكتوبر 2003 أن أية مراجعة مستقبلية لمدونة الأسرة ينبغي أن تمر عبر البرلمان، الأمر الذي شكل حينها خطوة صفّق لها من كان متشبثا باعتبار المدونة قانونا مثله مثل مختلف القوانين الأخرى، يتطلب تداولا بين ممثلي الأمة والبث فيه بعد نقاش يخضع في النهاية للتصويت بمنطق الأغلبية والأقلية.
غير أن الملاحظ هو العودة من جديد إلى المنهجية القديمة والتصفيق لها من طرف مكونات أبانت عجزها وعدم نضجها الديمقراطي وترددها في القبول بالاختلاف وعدم استعدادها لامتحان التباري واختبار التصويت وتفضيلها بالمقابل التدخل الفوقي، لأنه في اعتقادها يقيها “شر” الطرف والمكون الآخر الذي تنظر إليه كعدو لذود، لا تستقيم الحياة إلا بزواله.

3. يلاحظ منذ الإعلان عن قرار مراجعة المدونة، الكم الهائل من المغالطات التي يتم الترويج لها، خصوصا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر طبيعي مع ضعف مساهمة المعنيين والمعنيات من مكونات المجتمع المدني والسياسي في طرح وتأطير النقاش بالشكل الذي يضعه في سياقه ويُجلي المضمون الحقيقي لما تحتاجه المدونة من مراجعات وإصلاح. وهذا واحد من الأدلة الدامغة على أهمية وضرورة وحيوية الخروج إلى العلن وطرح المطالب، كل المطالب والتحلي بشجاعة الدفاع عما نعتبره قضية عادلة. فالقضايا العادلة لا تستمد مشروعيتها من الكم – كم الناس المؤمنين بها- بل من الأخلاقيات والقيم التي تستند إليها. فالمؤمن/ة بعدالة قضية معينة لا ينبغي أن يخفي رأسه في الرمال، بل عليه امتلاك الشجاعة للدفاع عن قضيته التي تستمد قوتها من قوة الإيمان بها. فليست العبرة دائما بالانتصار، بل العبرة تكمن كذلك في تحقيق التراكم وفي السيرورة التي تسمح بتجسيد القيم التي ندافع من خلالها عن المطالب العادلة التي نطرحها.

4. حتى وإن كان تعديل المدونة غير مضمونة نتائجه وقد لا يشكل بالضرورة قفزة إلى الأمام، فحري بنا أن نُحوله إلى لحظة نقاش حقيقي، نُعبر فيه بوضوح عن قناعاتنا ونتطارح فيه آراءنا ونبسُط فيه حججنا الهادفة إلى تفكيك وتفتيت منظومة الهيمنة الذكورية في أفق إسقاطها.

فلنمنح للنقاش فرصته ولنُعد الحيوية لقضايانا ولنُساهم في التعبير عن أننا مجتمع يتطلع لبناء مستقبله بوعي ونضج ومسؤولية وشجاعة ولا يخاف من الاختلاف ولا يتبرم من تعدد الآراء. ففي الاختلاف رحمة وفي تعدد الآراء قبول بشروط بناء مجتمع ديمقراطي ينبذ الفكر الأحادي ويرفض الرأي الواحد.