
في ذكرى 31 يوليوز 1984، ما الحصيلة؟

تعود بي ذاكرتي إلى ساعة متأخرة من ليلة يوم الثلاثاء 31 يوليوز من سنة 1984 حين أصدرت محكمة الإستئناف بالحبوس المقابلة للمسجد المحمدي بالدار البيضاء أحكامها القاسية في مجموعة ال71، واستعيد شريط الذكريات حيث أجد نفسي رفقة إخواني في المجموعة داخل قاعة المحكمة أمام القاضي السيد الغزواني وممثل النيابة العامة السيد مداح.. نردد هتافات وأناشيد جماعية يصل صداها إلى عائلاتنا المرابطة بعيدا أمام باحة المجسد المحمدي، وهي تردد معنا سيمفونية التحدي في جو مفعم بالحيوية والنشاط…تعود بي الذاكرة إلى هذه اللحظة وكأن الحدث حصل بالأمس القريب، بينما مرت عليه 40 سنة منذ اختطافي وإخفائي قسريا في قبو معتقل درب مولاي الشريف السري مع بقية أعضاء مجموعتي.
آراء أخرى
آه لقد مرت 40 سنة…منها 11 سنة قضيتها خلف القضبان، و39 سنة مرت منذ إطلاق سراحي المزعوم، لم يبارحني إحساسي خلالها بأنني ما زلت مسجونا، مقيد الإرادة، مكتوم النَفس، بلا حول ولا حيلة، غريب في مأدبة اللئام..ولا يفتأ يلح علي هذا الإحساس أنني انتقلت من سجن انتصرت فيه لكرامتي ومبادئي، كنت فيه على خط النار ضد جلاد واضح، إلى سجن مترامي الأطراف متعدد الأوجه والتقمص، فقدت فيه جزءا من هويتي، وتهت بين لهاث المصالح، و البحث عن ما تبقى من ذات متلاشية، لقد انتقلت إلى سجن ناعم وقعت فيه في مرمى عبثية جلاد مستتر..
تعود أصول القصة إلى ثمانينيات القرن الماضي حين تسببت الظروف الإقتصادية المتردية في المغرب في تدني الوضعية المعيشية للمواطن العادي، إذ لم يكن نصيب الفرد في المغرب من الناتج الإجمالي سوى 76 دولارا ،بينما كان في تونس مثلا 129 دولار بل وصل في ليبيا إلى 846 دولار حينذاك ، وفي هذا السياق دعت نقابة العمال “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل” إلى خوض إضراب عام في يونيو سنة 1981 احتجاجا على الزيادة في أسعار مواد غذائية أساسية.
وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر تبنت منظمة “الشبيبة الإسلامية” خطابا سياسيا راديكاليا ،واقتنصت الفرصة للبرهنة على إفلاس الخيار الليبرالي ولا شرعية العنف الذي يمارسه النظام ضد الفقراء المعدَمين ، ولم يتخلف المنتسبين إليها عن المشاركة في الإضراب العام بمدينة الدار البيضاء والمحمدية في 20 يونيو من السنة المذكورة.
عمت أجواء الإضراب وانتشرت الإحتجاجات التي تطورت إلى صدام حين تدخلت قوات الجيش والأمن بعنف غير مبرر استعملت فيه الذخيرة الحية ، وتجولت الدبابات في شوارع الدار البيضاء ناشرة الرعب والموت، ولعلع الرصاص في أزقتها ، وقد أسفر التدخل الدموي عن سقوط عشرات الشهداء الذين دفنوا في قبور جماعية..
أمام هذه الفاجعة..إلتزمت منظمة “الشبيبة الإسلامية” بالإحتفال بهذه الأحداث الأليمة تخليدا للذكرى وفاءا لأرواح الشهداء الذين نعتهم وزير الداخلية آنئذ إدريس البصري ب‘‘شهداء الكوميرا’’.
وهكذا في 20 يونيو سنة 1983 أحيت “الشبيبة الإسلامية” الذكرى الثانية لهذه ‘‘الإنتفاضة الشعبية’’ عبر الأنشطة التي قامت بها ‘‘فصيلة الجهاد’’ والتي تمثلت في توزيع المنشورات والملصقات والكتابة على الجدران وتعليق لافتات تحمل عبارات مناهضة لنظام الحكم وتدعو الشعب المغربي للثورة لإسقاط النظام، في كل من المحمدية والبرنوصي وعين السبع بالدار البيضاء.
على إثر النشاط الذي قامت به “فصيلة الجهاد” يوم الإثنين 20 يونيو 1983 والذي وافق 10 رمضان 1403 ذكرى وفاة محمد الخامس ، انطلقت حملة من الإختطاف استهدفت ناشطين إسلاميين، إذ بتاريخ 22 يونيو 1983 قامت قوات الأمن باختطاف عدد منهم يقيمون بالحي المحمدي بتهمة عقد تجمعات سرية والإنتماء للشبيبة الإسلامية ،واستمرت موجة الإختطاف لتطال مجموعة أخرى من درب الكبير بتاريخ 3 يوليوز بنفس التهمة السابقة.
واستمرت الحملة حتى تم اعتقال عضو في ‘‘فصيلة الجهاد’’ بالمحمدية في 13 غشت 1983 كان بصدد تعليق ملصق معاد لنظام الحكم ،فانتقلت الإختطافات إلى صفوف الفصيلة في كل من المحمدية وعين السبع والبرنوصي.
وحينما تم اختطافي بتاريخ 20 غشت 1983 أحلت على المعتقل السري بدرب مولاي الشريف حيث وجدت المختطفين السابقين من المحمدية والحي المحمدي ودرب كبير بالدار البيضاء هناك.. وما لبث أن تم اختطاف عناصر أخرى قادمة من فرنسا في يناير 1984 بعد قيامهم بتوزيع مناشير بمناسبة انعقاد المؤتمر الإسلامي بالدار البيضاء تحمل توقيع ‘‘الحركة الثورية الإسلامية المغربية’’وقد نعتها خطاب ملكي بأنها عناصر خمينية، وقد انضاف إليهم عنصرين من ‘‘حركة المجاهدين في المغرب’’ في فبراير من نفس السنة لحيازتهما أعدادا من مجلة ‘‘السرايا’’ التي كان يصدرها عبد العزيز النعماني بفرنسا.
عندما كان المختطفون بالمركز السري بدرب مولاي الشريف بالحي المحمدي بالدار البيضاء، كانت الإحتجاجات الشعبية قد اندلعت من جديد في يناير 1984 في كل من الدار البيضاء و الناضور ومراكش، ويذكر محمد الطوزي في إحدى دراساته أن هذه الأحداث كانت فرصة لإدراك الخطر الإسلامي، وهكذا جاءت انتفاضة شمال المغرب ، وكانت الشبيبة الإسلامية مرة أخرى من مسانديها، ورأت ‘‘أن النظام الحاكم شكل جبهة وطنية تجمع الرأسمالية و الإشتراكية’’.
وبعد أحداث يناير 1984 الإجتماعية تم تقديم أفراد المجموعة في حالة اعتقال إلى غرفة الجنايات بمحكمة الإستئناف بالدار البيضاء، حيث اكتمل عدد المتهمين 51 متهما حضوريا، قضى معظمهم ما يناهز ستة أشهر داخل المخفر السري بدرب مولاي الشريف، إضافة إلى 20 متهما غيابيا، عرض المعتقلون منهم على قاضي التحقيق ابتداء من 13 فبراير 1984 بتهمة الإعتداء بهدف دفع الناس لحمل السلاح ضد سلطة الملك والمس بسلامة الدولة الداخلية ومقدساتها، والمؤامرة ضد النظام بهدف استبداله بنظام آخر، وعدم التبليغ بجناية المس بسلامة الدولة ، وقد اصطلح الإعلام على هذه القضية ‘‘مجموعة ال71 ’’.
وبعد البحث التمهيدي والبحث التفصيلي انطلقت جلسات المحاكمة من 21 يونيو إلى 31 يوليوز 1984 حيث أصدرت استئنافية الدار البيضاء أحكامها حضوريا في حق المجموعة بإدانة 13 متهما بالإعدام منهم سبعة غيابيا، و 34 بالمؤبد منهم ثلاثة عشر غيابيا، و 8 بعشرين سنة ، و9 بعشر سنوات، و7 بأربع سنوات سجنا نافذة ، في قضية رقم 192/84 ،وقد تم رفض حق المتهمين في النقض بتاريخ 23 يوليوز من سنة 1985.
وبنفس الإيقاع التصعيدي حاولت منظمة “الشبيبة الإسلامية” مرة أخرى في سنة 1985 تسريب مجموعة تطلق على نفسها إسم ‘‘كتيبة بدر’’ إلى المغرب محمّلة بكمية من الأسلحة ، غير أنها ضبطت على الحدود الشرقية، وقدّمت مع عناصر أخرى إلى المحكمة ضمن ما سمي بمجموعة ال26 الإسلامية، التي حوكمت بالدار البيضاء ،وصدرت في حقها أحكاما في 02 شتنبر من نفس السنة تراوحت ما بين: الإعدام في حق خمسة من عناصر المجموعة ،وواحد المؤبد ،وتسعة حوكموا بعشرين سنة ،وواحد بخمسة عشر سنة ،بينما حوكم واحد من المجموعة بخمس سنوات.
في نفس الوقت كان تنظيم ‘‘المجاهدين المغاربة’’ الذي ينحدر من الشبيبة الإسلامية والتابع لعبد العزيز النعماني المتورط حسب القضاء المغربي في اغتيال عمر بن جلون المناضل اليساري، كان يحاول تسجيل حضوره على الساحة، حيث ألقي القبض سنة 1985 على مجموعة من هذا التنظيم ،قامت بتوزيع مناشير بمدينة مراكش، ما أدى إلى اعتقالها وتقديمها إلى المحاكمة التي أصدرت حكمها في المجموعة بتاريخ 24 أكتوبر والقاضي بإدانة أربعة أشخاص من المجموعة بالمؤبد ،وأربعة بثلاثين سنة، وواحد بخمسة وعشرين سنة ، وواحد بعشرين سنة.
كما توبعت مجموعة أخرى من نفس التنظيم بنفس المدينة سنة 1986، و صدرت الإدانة بتاريخ 18 دجنبر 1986 في حق واحد بالمؤبد، وآخر بعشرين سنة، إثنان عشر سنوات، واحد ثماني سنوات، ثلاثة خمس سنوات.
كانت سجون المغرب في هذه المرحلة تعرف توافد مجموعات من المعتقلين اليساريين واﻹسلاميين، وقد خلدوا ملاحم في الدفاع عن حقوق المعتقل السياسي داخل السجون في وقت كانت فيه ﻻئحة الممنوعات تشمل الجريدة والمجلة والمذياع و ساعة اليد، والكتب وأحيانا اﻷوراق واﻷقلام، عشنا طيلة هذه المدة في نضال ومواجهات.. وإضرابات لا محدودة عن الطعام خلفت شهداء من اليسار و عاهات مستديمة في صفوف المعتقلين، إضافة إلى حركة العائلات خارج السجون والمتعاطفين مع قضية اﻹعتقال السياسي بالمغرب..كما تعرض المعتقلون السياسيون لسلسلة من الإعتداءات المتواصلة من ترحيل وإبعاد تعسفي وهجوم انتقامي وحرمان من الحقوق،…لكن كل ذلك لم يكسر صمودهم..وكانت أمهات المعتقلين وزوجاتهم وأخواتهم يمثلن درعا لحمايتهم والدفاع عن حقوقهم وجبهة لإيصال صوتهم إلى الرأي العام الوطني والدولي.. وكانت كل الإعتداءات ما تزيد المناضلين إلا إصرارا على مطالبهم وصمودا في فضح الإنتهاكات المرتكبة من طرف الجلادين…
بقينا في عملية الشد والجدب..حتى انكشف واقع الحريات العامة بالمغرب..وبضغط من داخل السجون والعائلات ومن طرف المنظمات الحقوقية بالداخل وبالخارج..تم إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990 الذي هيأ الأجواء لإنفراج سياسي سنة 1994، حيث أطلق سراح المعتقلين السياسيين والنقابيين بمقتضى عفو شامل ، وسمح بعودة المنفيين والمغتربين إضطراريا إلى الوطن.
وهكذا لفضت السجون ثلة من المعتقلين السياسيين السابقين بعدما قضوا سنوات من اﻹعتقال السياسي ارتكبت في حقهم انتهاكات جسيمة لحقوق اﻹنسان خلال هذه المرحلة التي أطلق عليها “سنوات الرصاص“، وفور إطلاق سراحهم لم يتأخروا في تأسيس “المنتدى المغربي من أجل الحقيقة واﻹنصاف” إطارا جامعا لهم، بعدها بادرت الدولة إلى إنشاء “هيئة اﻹنصاف والمصالحة“..،بعد “هيئة التحكيم والتعويض المستقلة“.
لقد كانت العائلات في الواقع هي من عانت أكثر وتكبدت المشاق، ورافقتنا دون تأفف في رحلة العقاب ما بين السجون، أما نحن فكنا نعيش في قمة التحدي مقتنعين بأفكارنا ونشعر بقمة الإنتشاء اعتقادا منا أننا نخدم قضيتنا العادلة التي كنا على استعداد للموت في سبيلها..
نعم لقد أطلق سراحنا..وغادرنا السجون سنة 1994 وتنفسنا الصعداء، ظنا منا أن ساعة الحقيقة والمصالحة الوطنية والإنصاف قد جاء دورها من أجل طي صفحة الماضي.. لنكتشف مع كامل الأسف أن المصالحة وهمٌ ، لم ينجح في إيقاف استمرار الممارسات السابقة التي كانت سببا في معارضتنا بعد استراحة قليلة، والتداعيات التي حصلت فيما بعد خيبت انتظاراتنا..وقد كان من قدري أن أشتغل في هيئة الإنصاف والمصالحة التي خرجت بحق بتوصيات مهمة من قبيل تقديم ضمانات عدم تكرار الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لسنوات الرصاص..لكن ما وقع فيما بعد كان صادما، فبدعوى محاربة الإرهاب تم الإلتفاف على كل المكتسبات، وتم تغييب روح دستور 2011 الذي تضمن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة..وقد خلفت لنا هذه الإنتهاكات الجديدة جيلا جديدا من ضحايا الإنتهاكات الجسيمة في صفوف التيار السلفي، وبعد الحراك الشعبي الذي انطلق في فبراير 2011 عادت موجة الاعتقالات بالجملة مع الاجهاز على حرية التعبير والرأي والصحافة، وتراجع مؤشرات التنمية البشرية، يضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة البطالة وغياب ضمانات العيش الكريم…وبعد جائحة كورونا تم الهجوم على الحق في التظاهر السلمي من وقفات واحتجاجات، واستأسدت مافيا الفساد..وضاق المغرب بما رحب على أهله..
فما هي الحصيلة يا ترى ؟ وماذا حصدنا غير الوهم، بينما بقيت الحقيقة غائبة و المصالحة ضائعة واﻹنصاف مفقود..ولم ندفن الماضي..
هذه السنوات العجاف التي مرت منذ إطلاق سراحنا من السجن الصغير، والزج بنا في هذا السجن الكبير، فقدنا فيها الكثير من آباءنا وأمهاتنا، ورحل عنا كوكبة من المناضلين من إخواننا ورفاقنا الذين قاسمونا المعاناة والحلم المشترك..
عشنا هذه المرحلة من سنوات الرصاص إلى سنة 1999 مليئة بالصراع وتشنج العلاقة ما بين الحاكمين والشعب ، فكانت الإعتقالات ومحاولات الإنقلاب والانتفاضات الشعبية التي ووجهت بالنار والحديد ، وشاهدنا انتفاضة 20 يونيو 1981م والتي كانت منطلقا لحراكنا، ووقفنا على قسوة التدخل العسكري وهمجية قنص المواطنين العزل في الدار البيضاء الذين لم يكونون يحتجون في مظاهرات سلمية سوى على الزيادة في أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية، بل أن بعضهم لم يكن مشاركا في تلك المظاهرات..
جيلنا نشأ في فترة انتقالية ما بين الإستعمار والإستقلال وكثير من والدينا وأقربائنا شاركوا في صفوف المقاومة أو جيش التحرير ، وقدم الشعب المغربي شهداء لتحرير الوطن من ربقة الإستعمار، وكان يأمل أن يعيش الحرية والكرامة في ظل الاستقلال ، لكن خابت آماله واستمر الإستعمار الجديد للمغرب وناب عنه أبناء جلدتنا..
فهل كان مطلوب منا أمام هول الواقع القبول بسياسة التجويع التي كانت تمتح من قاعدة “جوع كلبك يتبعك“؟ وأين نضع المأثور عن الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه الذي يقول فيه “عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يخرج شاهرا سيفه“؟، علما أن الجياع المغاربة لم يكونوا ينوون الخروج بسيوفهم، بل كانوا فقط يريدون التعبير عن رفضهم لسياسة التجويع الظالمة..فإذا بهم يتعرضون لما تعرضوا له..
فهل كان مطلوب منا ابتلاع ألسنتنا والسكوت على الظلم والإنتهاك الذي أصاب أبناء وطننا العزل؟..
هل كان منتظر منا نسيان الشهداء والتطبيع مع الجلاد، و تجاهل المقابر الجماعية وغض الطرف عن قتل الأبرياء من الأطفال والنساء..كأن شيئا لم يقع؟..
أتأمل الزمن الذي مر سريعا ، خطونا الخطوات الأولى في درب النضال ونحن شباب يافعون ، كلنا حماس ورغبة في التغيير، وقد رسمنا معا لوحة وردية لمغرب المستقبل، رسمناها بآلامنا وصمودنا ، واليوم أرى مغربا لا زال يعاني من انتهاكات جديدة ويئن تحت وطأة الفساد والإستبداد ، وتهديد القوت اليومي للمغاربة ..
لقد صرنا أمام طينة من بني جلدتنا باعت الوطن في حفلة تطبيع بدعوى التنمية، واغتنت على حساب المستضعفين، واستحوذت على المناصب والمكاسب ولم تترك لنا الوطن، ضدا على مطلب الشاعر التونسي مازن الشريف. بل صار وضعنا سرياليا كالأيتام في مأدبة لئام، لا يرقبون فينا إلا ولا ذمة يراكمون ثرواتهم بتجويعنا وتفقيرنا ونهب ثرواتنا و التضييق علينا، ولا يكفون عن الجمع في شراهة غير مسبوقة ما بين “التجارة والإمارة“، وتمادوا في ظلمهم وسلطوا علينا قهرهم الجبائي حتى أصبحت حالتنا أقرب من ما ذكره الشيخ اليوسي في رسالته الموجهة إلى السلطان مولاي إسماعيل حيث جاء فيها: “فَلْينْظر سيدنَا، فَإِن جباة مَمْلَكَته قد جرّوا ذيول الظُّلم على الرّعية. فَأَكَلُوا اللَّحْم وَشَرِبُوا الدَّم وامتشوا الْعظم وامتصوا المخ. وَلم يتْركُوا للنَّاس دينا وَلَا دنيا..”.
فما الحصيلة؟ ماذا تغير في مغرب اليوم؟ ما انعكاسات سنوات الرصاص من نضال وتدافع على واقع المغاربة الذين ضحينا من أجلهم ؟ ..أين هي ضمانات عدم التكرار من واقع الممارسات؟
أم أن القضية لا تعدو أن تكون مناورة سياسية، من أجل امتصاص الإحتقان؟ فتحولت معها أحلامنا إلى كوابيس ، بينما أصرت دار لقمان أن تبقى على حالها..
كنا في شبابنا قادرين على فضح المنكر والظلم بما أتيح لنا من قوة وإمكانيات حسب سياقات معينة، واليوم لا نملك إلا الدعاء مع رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حتى ينقطع النفس ف“اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به“. تأكيدا لقوله عليه الصلاة والسلام “مَا مِن عبدٍ يسترعِيهِ اللَّهُ رعيَّةً، يَمُوتُ يومَ يَموتُ وهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ؛ إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ علَيهِ الجَنَّةَ“.
لقد فقدنا الثقة في الأحزاب والنقابات إلا من رحم الله.. واستيقظنا من وهم الديمقراطية وحقوق الإنسان.. وأدركنا أن التفاهة والضحالة اخترقت كل مجال جاد و واعد ، وفهمنا متأخرين بأن “السياسيون كالقرود في الغابة، إذا تشاجروا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول“، على حد قول جورج أورويل .
نعم.. يمكن وأد أحلامنا، كما يمكن لكل نضالاتنا وتضحياتنا أن تعجز عن تغيير الواقع .. لكننا على يقين أن الإنسان الذي يسكننا قادر على فضح الظلم ومناهضة التعسف والإستبداد، يشهر ورقة الممانعة حتى لا يبتعلنا هذا الواقع المرير ويحولنا إلى أدوات لتبرير نزواته، لقد فضلنا أن لا يغيرنا الواقع بدل تغييره، حينما اختلت موازين القوة، وآثرنا أن نكون مثل الأشجار التي تموت وهي واقفة، ولم نعدم المحاولة للقيام بواجب الشهادة على صراع الحق والباطل. وما يزال الكثير من ذلك الجيل يؤدي فاتورة عدم الإنحناء للعاصفة، يعاني من القهر والظلم و قسوة الحرمان في هذا السجن الكبير.
لقد صار الرهان عندنا ونحن في خريف العمر أن نستمر في فضح الظلم ورفض كل محاولات المسخ والإبتلاع ، وأن نلحقنا الله تعالى بإخواننا الذين سبقونا إلى دار البقاء لا فاتنين ولا مفتونين ، ثابتين على الحق غير مبدلين أو مغيرين…
“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين ، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك“.
معتقل سياسي سابق مجموعة ال71