يبدو أن الجدل القائم منذ أيام بين خبير التغذية محمد الفايد ومكونات معتبرة من التيار السلفي، قد حرك الكثير من المياه الراكدة، بشأن مجموعة من القضايا التي تهم الفقه والرموز والتراث الإسلامي عموما، ويعتبرها البعض من المسلمات، وقلما يستطيع الباحث الاقتراب منها، مخافة ردود الأفعال التي تكون عادة قوية ومبالغ فيها كما يحدث اليوم، وهو ما يفسر صمت أسماء وازنة داخل الساحة الإسلامية رغم أن بعضها سبق وأن عبر عن ما ذهب إليه محمد الفايد بخصوص إعادة النظر في مفهوم العالم وتوسيع تكوينه كما كان في الماضي، بالإضافة إلى الملاحظات التي يسجلونها حول رموز علمية ومنهم المحدث محمد ناصر الألباني الذي ركز عليه الفايد، وغيرهم.

وتأتي مواقف خبير التغذية، في مداخلة نشرها على قناته باليوتيوب منذ حوالي 10 أيام، وحظيت بمشاهدة واسعة، في سياق دخول بعض الشيوخ والدعاة سواء في المغرب أو ببعض دول العالم الإسلامي، على خط النقاش الدائر حول إمكانية السماح باستخدام مكونات مصدرها من الحشرات تباع في الأسواق تضاف إلى الخبز والبسكويت والمقرمشات والمعكرونة والصلصات، وغيرها، حيث اتهم العلماء بعدم قدرتهم على اتخاذ مواقف واضحة وقوية ومفصلة في ما يجري من نقاشات ومنها قضية استخدام مكونات مصدرها الحشرات في بعض المأكولات، وأرجع الأمر أساسا إلى ضعفهم، مطالبا بإعادة النظر في تكوين العالم.

ويمكن لأي متتبع أن يسجل على هامش هذا الجدل، الذي يظهر من حين لآخر داخل الساحة الإسلامية، ويكون له طعم آخر إذا كان أحد أطرافه التيار السلفي، العديد من الملاحظات السريعة، سنكتفي بإيراد أهمها، خاصة وأنه تميز بالحدة ومحاولة تحقير وتنقيص من الطرف الآخر، وصل إلى درجة استعمال مفردات وكلمات خرجت عن دائرة الاحترام والآداب من كلا الطرفين.

أول ملاحظة، تتعلق بالطريقة التي تحدث بها الفايد في أشرطة موالية، فيها الكثير من “النرفزة والغضب والارتباك“، توضح حجم الحملة الشرسة التي تعرض لها، والتي اعتمدت على مقاطع قديمة وليست أشرطة كاملة، يعود بعضها إلى 10 سنوات، وأخرى حديثة، وثالثة لم تكن متاحة للعموم وكانت في لقاءات خاصة، مع العمل على تصيد الأخطاء والزلات التي وردت فيها، وهو منهج غير علمي يذكرنا بالجدالات العقيمة التي تظهر من حين لآخر وتستعمل فيها أدوات بعيدة عن قواعد النقاش الجاد والمسؤول، وسرعان ما تختفي دون أن تقدم أية إضافة، طبعا مع وجود استثناءات قليلة جدا، خاصة وأن التيار السلفي في عمومه يعتبر نفسه هو المالك للحقيقة ولا يقبل الرأي المخالف حتى وإن كان على أسس، ورغم أن محمد الفايد خرج في توضيحات وبيانات مكتوبة، وعبر قناته، إلا أن الحملة لا زالت مستمرة بل زاد وهجها بطريقة مثيرة تتوسع مع مرور الأيام، تطرح سؤال الأولويات والأساسيات عند هذا التيار، في سياق معاناة المواطن المغربي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

ثاني ملاحظة، تشير إلى أن ما عبر عنه محمد الفايد، بطريقة يمكن اعتبارها غير موفقة، وفيها الكثير من الأنا، ليس بجديد، بل سبقه إلى ذلك العديد من الباحثين والعلماء والمهتمين ومن التيار المعتدل على الخصوص، سواء في ما يتعلق بالموقف من محمد ناصر الدين الألباني أحد أشهر علماء علم الحديث (1914 ـ 1999)، واعتباره خدم بشكل غير مباشر التيار الشيعي عندما صحح الأحاديث الضعيفة المتعلقة بالمهدي المنتظر، الذي يعتمد عليه الشيعة في استقطابهم، أو في ما يتعلق بغياب العلماء عن الساحة بل وضعف تكوينهم وعدم استطاعتهم مواكبة التغييرات التي يشهدها المجتمع.

واذا كان ما طالب به الفايد ليس بجديد، فلماذا كل هذه الردود التي اتسمت بالحدة بل والخروج عن الأخلاق والآداب في عدد من الردود، لأنه بكل بساطة وضع الملح على الجرح، عندما طالب بإعادة النظر في إعادة تكوين العالم ليشمل بالإضافة إلى العلوم الشرعية ما أسماها بالعلوم الكونية كالرياضيات وعلم الفلك وعلم التغذية، وعلم الطب.. وغيرها، وهم على هذا الأساس خارج مفهوم العالم الذي يطرحه الفايد، خاصة وأنه بهذا ذكرهم فقط بما كان معمول به سابقا، فعلى سبيل المثال جمع ابن رشد بين الفقه والطب، كما أن ابن الهيثم كان فقيها وصيدليا، ثم إن الخوارزمي كانت له صولات في الفقه وجولات في علم الرياضيات، وغيرهم كثير من العلماء عبر تاريخ الإسلام تميزوا بل أبدعوا في الفقه بالموازاة مع علم من العلوم الكونية على حد تعبير الفايد.

ثالث ملاحظة تتعلق بعدم مواكبة التيار السلفي لما يجري، ويظهر بجلاء غياب فقه الأولويات لديه من جهة وعدم معرفته بالواقع من جهة أخرى، ونورد هنا مثالين، الأول أن رابطة علماء المغرب العربي، سارعت بشكل أثار انتباه المهتمين بالساحة الإسلامية، إلى إصدار فتوى تضع شروطا لتحديد من سيدخل الجنة، على خلفية ما عبر عنه الفايد في لقاء داخلي غير مفتوح مع طلبته منذ حوالي 10 سنوات، نعم 10 سنوات، في حين الساحة المغربية تغلي اليوم والآن بقضايا ومستجدات راهنة تحتاج إلى رأي ومواقف ومبادرات العالم بل تضحياته في سبيل تقدم أمته، ولا نجد لها أثرا، بل إن رموزا من هذا التيار مهمتهم البحث عن مبررات شرعية لمجموعة من مبادرات السلطة الحاكمة.

المثال الثاني، هو الفتوى الصادرة عن نفس الهيئة، بخصوص عدم جواز تولي المرأة لمهنة العدول، بدعوى أن المرأة من الناحية الفقهية لا يمكن لها أن تشرف على الزواج، والواقع فإن مهنة العدول في المغرب سواء كان العدل رجلا أو امرأة لا تزوج ولا تطلق، العدول مهمتهم محصورة في التوثيق، اعتمادا على ما يصدره القاضي، وهو ما يمكن اعتباره سقطة ما بعدها سقطة، خاصة وأن المرأة في المغرب قاضية ووزيرة ومديرة ومسؤولة كبيرة ومشرفة على قطاعات وازنة، فمن الأحق بالاهتمام ان كان أصلا الأمر يحتاج إلى معالجة، هذا إذا علمنا أن ظلم الحكام وصل إلى مدى مقلق على مختلف المستويات، ولا نسمع لهؤلاء مبادرة ميدانية أو موقف معتبر في قضية معتبرة لها تأثير على المواطن.

رابع ملاحظة، تتجلى في ضرورة العمل على تشكيل هيئات قد تكون رسمية وقد تكون غير رسمية، لتنقية التراث الإسلامي من الشوائب التي لحقته على مر التاريخ الإسلامي، خاصة وأن الانتقادات تصاعدت في السنوات الأخيرة منتقدة هذا التراث، هذا إذا علمنا أن الأمر يتعلق باجتهاد بشري قد يكون مناسبا في ظرف وفي مكان محدد، وقد يحتاج إلى مراجعة في أزمان وعصور أخرى، لذلك المطلوب اليوم فسح المجال أكثر أمام العلماء والباحثين المعروفين بالاعتبار والرزانة، للقيام بهذه المهمة الثقيلة طبعا مؤسساتيا، والتي تحتاج إلى دعم كبير وتفهم من طرف العديد من الجهات، فالتراث بإشكالاته يحتاج إلى قراءة بعين بصيرة فاحصة مدققة بشكل مؤسساتي.