يسود خطاب موجه للتنسيقيات يحمل نبرة تبخيسية لفعلها النضالي غايته بث اليأس والإحباط في صفوف مناضليها استنادا لطول أمد بعضها من جهة ومن جهة أخرى بفعل تضخم الكلفة المادية والمعنوية لنضالاتها، الشيء الذي عرض صف مناضلي التنسيقيات مؤخرا للاستنزاف الحاد على كافة الأصعدة دون أن تتحقق جل مطالبهم، مما أسهم في الترويج لطرح أن التنسيقيات قد استنفذت كل أوراقها الضاغطة ولم يعد لديها ما تضيفه وأنها اصطدمت بباب الدولة الموصد.

  فمع الاقتطاعات التي لا تكاد تنتهي والاعتداءات القمعية التي خلفت شهيدا وعددا كبيرا من الإصابات الخطيرة ومع تنامي الاعتقالات والمحاكمات وصولا إلى الحكم بالسجن النافذ في خطوة تصعيدية غير مسبوقة بحق الأستاذة نزهة مجدي المناضلة التي تنتسب إلى تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد بالإضافة إلى سيل من الأحكام غير النافذة على زملائها وانتهاء بموجة من التوقيفات عن العمل التي باشرتها عدد من المديريات الإقليمية لأفواج من الأساتذة المقاطعين لتسليم النقط وتعبئتها في موقع مسار، كل هذا شجع على الاعتقاد بأن التنسيقيات توشك على أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.

  إن واقع التنسيقيات اليوم يستدعي نقدا ذاتيا لتجاربها النضالية ولبعض الأساليب المعتمدة فيها لا بنية التراجع عن مسارها الكفاحي أو البحث عن حلول تلفيقية لملفاتها المطلبية ولكن من أجل تقوية صفوفها، وذلك حتى لا تفقد توهجها وحتى لا تتسبب في رِدَّة قد تأتي على المكاسب المهمة التي حققها نضال التنسيقيات. فالحقيقة أن ربط تحقيق مطالب التنسيقية بسقف زمني محدد شكل ضغطا إضافيا عليها، والذي قد ينسف بكل جهودها وكل تضحياتها في حال تأخر انتزاع المطالب، فعندما لا تتمكن التنسيقية من تحقيقها تتوسع نوبات الإحباط ويبدأ التراشق وتبادل الاتهامات بين مناضلي نفس الفئة المطحونة.

  لم تكن مشكلة التنسيقيات في عقم الوسائل النضالية، فلا يمكن لمن يريد أن يناضل أن يلغي الإضراب أو المقاطعة أو الاحتجاج في الشارع من خياراته، ومن ينادي بإبداع وسائل أخرى غير الوسائل المعتمدة في كل الحركات الاحتجاجية في العالم هو شخص غير جدي يسعى إلى التخفف من أعباء النضال وإلى تدجين الجسم الذي ينتمي إليه بأسلوب ماكر. كما لا يمكن الذهاب بالمقابل إلى الحد الأقصى في استخدام إحدى تلك الوسائل في ظل التفاعل المحدود معها منذ البداية وصمود القلة القليلة من المناضلين في نهاية المطاف، حيث يضطرون إلى البحث عمن ينزلهم من الشجرة.

  النتيجة أن كلمة التنسيقية تُكسَر ومصداقيتها تَتَضرر خصوصا مع المكابرة التي ترفض الإقرار بالواقع إلا بشكل متأخر، والتي تمارس تعبئة تفتقر للمعطيات الحقيقية مما يَزرع الشك في البيت الداخلي للتنسيقيات ويُفقِد الثقة في زعاماتها بعد انكشاف الصورة، فيسهل بعد ذلك تقبل كل الشائعات التي يروجها أعداء نضال التنسيقيات لضربها، كما وقع في الإضراب المفتوح السابق وفي خطوة رفض تسليم النقط بالنسبة لتنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد.

  إن الحفاظ على جسد التنسيقية يبقى أولوية ملحة، فإن استعصى الحل مؤقتا فقد يجد الملف طريقه نحو التحقيق في لحظة مغايرة، أما إن تم نسف الإطار باتخاذ خطوات أكبر من قدرته على الاستمرار فيها، فإن المطالب كلها تتبخر بعد أن يتشتت أصحابها؛ ويبقى واجب المرحلة هو حسن توظيف الأشكال الاحتجاجية المختلفة والتنويع في استخدامها مع التركيز على الاحتجاج في الشارع فهو الأقدر على تبليغ صوتها، ولا يكون الإضراب إلا فرصة للخروج الميداني، فلا معنى للإضراب المطول الذي لا يُستَثمر فيه إلا يوم أو يومان للنضال، هذا مع تخصيص بعض أيام للاحتجاج في العطل، ذلك أن زخم أية تنسيقية الإعلامي مرتبط بقدرتها على الحشد الجماهيري لا سيما أن حلحلة ملفاتها رهينة بإرادة وزارة الداخلية، فكلما تم الضغط عليها في الميدان كلما كان ذلك أقرب إلى تحقيق المطالب.

  تظل قدرات التنسيقية، حين لا تتمكن من تعبئة الشريحة التي تنتمي إليها، محدودة أمام جبروت الآلة القمعية المخزنية، وهو ما يقع لصفوة المناضلين الذين يتعذبون من أجل بلوغ أهداف التنسيقية، وهذه هي الظاهرة التي عانى منها مناضلو التنسيقيات المتعاقبة على الحقل النضالي التعليمي الذين عجزوا عن حسم معاركهم بالضربة القاضية، فلا يكون أمامهم إلا الانخراط في معركة استنزاف مطولة وانتظار ظرفية ملائمة كالتي جاء بها حراك 20 فبراير لبلوغ مبتغاهم.

  تبقى فعاليات الأوراق التي بحوزة التنسيقيات رهينة بتمكنها من التعبئة الجزئية لعموم مناضليها حيث تقوي فرص نيلها لجزء من حقها المهضوم، أما إن نجحت في التعبئة الشاملة لعموم الشغيلة التعليمية فستتقلص فاتورة النضال إلى الحدود الدنيا مثلما حصل مع حركة البريديين الذين حسموا معركتهم النضالية بسلاسة بفعل توحدهم حول ملف مطلبي واحد والتزام الغالبية الساحقة بالخطوات الاحتجاجية المسطرة مما اضطر الدولة للاستجابة السريعة لهم.

فالسلطة لا تستأسد إلا على الأجسام المتشظية التي تلجأ لتأديب المتمرد فيها أمام أعين باقي الزملاء الذين يتطور تفاعلهم في بعض الأحيان إلى حد الشماتة بما حل بزميلهم عقوبة منهم له على تفكيره في الخروج من ذهنية القطيع السائدة. وعليه فالتنسيقيات مطالبة إن أرادت أن تقوي موقعها أن تنخرط في صياغة ملف مطلبي موحد يرضي الجميع ويتعالى على كل الحساسيات المصطنعة وأن تتجند للنضال من أجل تنزيله على أرض الواقع، وهو الحل الأمثل لمواجهة حالة الاستعصاء السلطوي التي يتضرر منها الجميع وللقطع مع معاناة الشغيلة التعليمية بشكل جذري.