تاريخياً؛ انبرت الواقعية السياسية في مسار تطور الممارسة السياسية، التي كانت مثالية لأبعد الحدود. وجاء هذا المفهوم ليغير طبيعة الأداء السياسي، وكيفية إدارة القرار السياسي في منأى عن الأخلاق والقيم… والمغرب كبقية دول العالم الثالث فُرضت عليه الحماية، وكانت لها نتائج جسيمة على البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية للنخب السياسية، والمجتمع السياسي، الذي سيحاول بناء الدولة عقب الاستقلال.

وبعدما كان أغلب نخب الحركة الوطنية التي تدافع عن الوطن، إبان الاستعمار الفرنسي تنهل من معين الإسلام مرجعيتها الفكرية، أي ترجع خلفياتها إلى النهضة الدينية السلفية، التي  تتحمس لها الفئات  الشعبية المضطهدة، ذات الأوضاع المتدهورة أثناء مراحل الاضطرابات والتحولات الاجتماعية، سواء في المدن أو البوادي. أتى الاستقلال بأفكار جديدة تحتم على الحركة الوطنية، مواكبة التطورات الفكرية التي فرضها الصراع الدولي بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، هنا بالذات تولد إحساس لدى الجميع بأن المغرب لا يمكن أن يقوده طيف سياسي واحد، وكان هذا مصدر صراعات ايديولوجية جمة، حول من له الشرعية التاريخية لاحتكار السلطة.

في هذه الأجواء التاريخية المتشنجة؛ كانت البدايات الفعلية لنشوء تنظيمات سياسية حزبية محل جدل. في هذا التشكل انقسم المؤرخون إلى من يدعي أن 1926 عقب انهيار الحركة التي قادها عبد الكريم الخطابي هي المرحلة التاريخية التي نشأ فيها تنظيم سياسي، وهناك من يزعم أنها 1934 مع “كتلة العمل الوطني” هي لحظة النشوء الفعلية للتنظيم السياسي المغربي، وهو بدوره انقسم إلى : حزب الاستقلال 1943، والحركة القومية التي تغيرت لتصبح 1946 تحمل اسم الشورى والاستقلال. – ألبير عياش: المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية، الجزء السادس، ص:386 –

لافت للإشارة؛ أن القرى والبوادي والأرياف كانت سباقة في خلق وعي سياسي يحتضن النفور والغضب من موافقة السلطة السياسية على قرار “الحماية الفرنسي”، والوقوف أمام التدخل الأجنبي، ولكن ساهمت التطورات المتلاحقة في عكس هذه المعادلة وأضحت ريادة مجابهة الاستعمار عن وعي وطني متقاسمة بين الحركة الوطنية، وبعض الشباب المتحمس الذي لا ينتمي لأي جهة سوى الوطن في المدن والحواضر. – عبد الكريم غلاب، الحركة الوطنية بالمغرب من نهاية حرب الريف إلى إعلان الاستقلال، ص:72.71 –

في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ بناء المغرب المستقل، كانت المؤسسة الملكية أكثر المؤسسات السياسية واقعية، إذ إنها لم تعاكس التيار القوي، ولم تعارضه، سيما أنها في مرحلة تتطلب منها بناء قوة مادية رادعة، ونفوذ معنوي جماهيري يحمي مصالحها عن طريق الاعتماد على الجماهير الشعبية، وتكوين رأي عام ينادي بأن المؤسسة الملكية هي الضامن الوحيد لاستقرار البلاد والعباد.

حتى الرجوع للتاريخ في أوقات معينة لا يسعف كثيراً، سيما حينما يريد المهتم بالمشهد السياسي دراسة اللحظة التاريخية للفعل السياسي الحزبي عقب الاستقلال، الأجدر نظرا لذلك؛ التصريح بأن الأحزاب المغربية لم تكن وليدة تراكم سياسي واجتماعي وثقافي، بقدر ما هي صنعت بأنفاس خارجية – أي من خارج الفاعل السياسي نفسه المسؤول عن إدارة الحزب بعد النشوء -، وبطعم العلاقات الاجتماعية: نجد ضمنها عصبية القبيلة، والولاءات العائلية … ضمن هذا السياق؛ ولد قيصرياً حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي حاول تمثيل النهج التقدمي في المغرب، وتجزأ لأحزاب أيضاً … المسألة الأعمق من حكاية التاريخ هو وجود تفسيرات قريبة للصواب عن العلاقة السببية بين المشكل ومآله. وهنا يطرح إشكال بسيط وصعب: لماذا الأحزاب بالمغرب في أغلبيتها تجزأت لأحزاب أخرى؟

الإجابة هي ضعف ثقافة تدبير الاختلاف. على بساطة هذه القاعدة، إلا أنها كانت ضعيفة الحضور داخل الحركة الوطنية، وواكبت مسار نشوء الفعل الحزبي في المغرب. لا سواء لدى التقدميين أو الإسلاميين أو حتى لدى الأحزاب الإدارية التي كانت غاية مطمعها لا يتعدى شغل المناصب دون هدف استراتيجي وطني يرمي بناء صرح دولة ديمقراطية على أسس العدالة.

تشعبت الأحزاب السياسية في المغرب، وأضحى لدينا يسار سياسي، وأحزاب الإسلام السياسي، والأحزاب الإدارية التي تمثل امتدادا لتصورات الدولة / المخزن للفضاء السياسي، وسقف طموحاته السياسية في بناء المغرب الديمقراطي. هذا التشعب في بعض الأحيان يكون مبعثه قضايا كبرى مثل موضوع الملكية البرلمانية التي يكون فيها الملك خاضعا للقاعدة التقليدية: “الملك يسود ولا يحكم”، وفي أحيان أخرى، يكون الصراع السياسي منبعه المصالح والحقائب الوزارية ودرجات الاستفادة من مركز القرار السياسي جراء حجم التنازل المهدى له.

وبما أن المغرب يصنف الآن على أنه من الدول السلطوية التي يمارس فيها الفعل السياسي بشكل محدود، والتداول على السلطة موجود على الهوامش، ولا يلامس مراكز صناعة القرار السياسي الحقيقي، ونموذج ذلك: البون الشاسع بين ما هو متاح “للمجلس الحكومي”- المجلس الحكومي = رئيس الحكومة- وما هو مقرر دستورياً “للمجلس الوزاري”- المجلس الوزاري = الملك-، لهذا الملك لاعبٌ محوريٌّ ضمن الساحة السياسية المغربية وبقوة شديدة، حتى أنه يعد ملتقى ومفترق طرق أي قرار سياسي استراتيجي في السياسة العامة للبلاد.

لم تسعف اللعبة السياسية في المغرب، لا حركة 20 فبراير، ولا الدستور الجديد في خلق تأثيرات قوية للفعل الحزبي في صناعة القرار السياسي، إذ مطالب بعض القوى السياسية في تمتع البلاد بملكية برلمانية تم التعامل معها بدهاء دستوري؛ ضمن ما تتيحه الواقعية السياسية، المباح ضمنها كل شيء لا يخل بتبدل مراكز القوة التي تضمن المصلحة السياسية الأوفر حظاً، لبقاء الاستحواذ على السلطة السياسية، وامتلاك القرار السياسي للمؤسسة الملكية.

على هذا الأساس؛ أليس من الطبيعي إن لم يكن من  المنطقي إلتقاء  مصالح قوى اليسار والإسلام السياسي الغير داخل ضمن دائرة اللعبة السياسية الرسمية (النهج الديمقراطية والعدل والإحسان) وفتح باب التواصل مشرعاً للتفكير الصادق في مآلات الدولة، الفاعلين، الحركات الاحتجاجية، المؤسسة الملكية، والوضعية الاقتصادية للبلاد ؟

إن فتح أبواب التواصل بين الفرقاء أو الفاعلين السياسيين، من مسلمات الفعل السياسي في حد ذاته، إذ أن بواعث التحرك في الفضاء السياسي منبته البحث إلى أقصر الطرق، وأكثرها نفعاً سياسياً، وقد تملي المصلحة تارةً التنازل لأجل غاي ( غايات ) وطني كبير. لذا؛ فوجود النهج الديمقراطي والعدل والإحسان في هامش اللعبة السياسية انطلاقاً من رغبتهم في ذلك، نظراً – بحسبهم – لعدم وجود الجو الديمقراطي المناسب، الذي يمكنهم من التأثير والتدافع السياسي في مساحة ديمقراطية تضمن ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم. وتبعاً لغياب هذه الظروف تم الانعزال السياسي الارادي عن المشاركة في أدوات الديمقراطية الشكلية: كالانتخابات… وغيرها.

يعلم الجميع، وبدقة، أن تاريخ اليسار وتاريخ الإسلام السياسي في المغرب، كان مليئاً بالصراع الطاحن فكرياً، ومعنوياً، ومادياً… حتى أن الواحد منهما حين يريد كيل التهم للآخر، يقول إنه ” صنيعة المخزن، وإنه ظلامي ورجعي “، لكن تجربة حركة 20 فبراير ساهمت ولو بمستويات مختلفة من رأب الصدع، لمواجهة ” المخزن ونفوذه المتنامي “، إذ حينها وحدتهم السياقات الموضوعية، علماً بوجود التباينات حول المبادئ وحول سقف المطالب، إلا أن التواصل بين التوجهين وقع، ولم يكن ذلك في مصلحة المؤسسة الملكية، التي كانت تنظر للأمر وفق تحليل الواقعية السياسية التي تدفعها لرمي حطب الفتنة بين هذين التصورين الايديولوجيين الأكثر تنظيماً، ومعارضة لسلطاتها…

لم يكن التواصل بين اليسار والإسلام السياسي غير رسمي عائقاً، لخلق تحالف بين الأحزاب الاشتراكية وحزب العدالة والتنمية “الإسلامي” في الممارسة الرسمية للسياسة، ويرجع منطق ذلك إلى النتائج الانتخابية المتدهورة لأحزاب اليسار، التي أضحت ضعيفة في تعبئة الجماهير، إن لم نقل أن هذه الأخيرة لم تعد تثق في الخطاب اليساري المتعثر، بل أكثر من ذلك، عادت الخطوط الفاصلة بين مرجعيات الأحزاب السياسية غير واضحة، وتشابه الأمر علينا، ولم نعد نهتدي على خلفية اليسار، من خلفية الأحزاب الإدارية، من خلفية الإسلامي، من خلفية من جاءت به الصدف لتشكيل تنظيم سياسي لا يرقى ليكون حزباً أصلاً.

كانت الواقعية السياسية، وظروف المراحل التاريخية هي أساس التحالف مع الشيطان أو الجحيم ( “الآخر جحيم” جون بول سارتر )، وكل تحالف يجمع فئتين أو أكثر،  إلا وكان يساهم في زوال فئة ما، هذا ما كان مبعث خوف وشؤم لدى الجميع، لدى سعت كل التنظيمات السياسية المعارضة لخلق قنوات تواصل بين اليسار والإسلام السياسي إلى التسريع في مسببات زواله، لكن بعدما تشكل وعي عميق لدى نخب كل منهما بأهمية مثل هذه المناقشات التي قام بها فريق من صفوة النهج الديمقراطي، وفريق من صفوة العدل والإحسان تحت إشراف الجامعي والإعلامي أبو بكر الجامعي، والتي – وحسب شهادته الموجودة في اليوتيب – كان فيها اليسار أحياناً يمينياً كدفاعه عن الملكية البرلمانية كحد أقصى لمطالبه السياسية، والعدل والإحسان الذي كان أحياناً يسارياً راديكالياً حينما لا يحدد سقفاً لمطالبه حول طبيعة وشكل النظام السياسي الذي يجب أن يحكم المغرب !

علاوة عن التقاء الطرفين في عدد من الوسائل والغايات من أبرزها، إحداث “جبهة ديمقراطية تجمع كل القوى المؤمنة بالديمقراطية”، بحسب تسمية اليساريين، و”ميثاق موحد لجميع الأطياف”، بتعبير جماعة العدل والإحسان

لا مندوحة إذا؛ من كون التواصل السياسي مطلوب لتحقيق أكبر قدر من الديمقراطية في المغرب، بل هو فرض عينٍ لكل طيف سياسيٍ مهما علا شأنه أو نقص، إذ إنه من مشمولات الواقعية السياسية لدى كل تيار يضع نصب عينيه الوطن، وليس المصلحة الآنية، المتجلية غالباً في مقعد وزاري أو منصب بطعم الخيانة والتشفي، بل حتى من خارج دائرة العمل السياسي الرسمي يمكن خلق بدائل لرسم الخارطة السياسية، والضغط على صناع القرار الحقيقي، لإعادة توزيع السلطة المادية والرمزية.

باحث في علم السياسة