يطلق مصطلح الهوية المهنية في علم اجتماع الشغل على الخصائص الذاتية والموضوعية التي تميز مهنة ما عن غيرها من المهن الأخرى. كما أنها العامل الأساسي في اختيار هذه المهنة والتدرج فيها من المستويات الدنيا إلى المستويات العليا طيلة سنوات العمل، أو على العكس من ذلك تماما تركها إلى غيرها في حالة عدم توافقها مع الجوانب النفسية والمعرفية والأخلاقية لممتهنيها.

( راجع على سبيل المثال المقالة العلمية التالية على الأنترنت.. )   https://www.cairn.info/revue-management-et-avenir-2010-8-page-72.htm

بتعبير آخر، لكل مهنة جوهرها الخاص بها يشكل عمودها الفقري ومنه تسميتها ومنه تأتي وإليه تنتهي كل الأوصاف الفرعية المتعلقة بها.

وبالعودة إلى عنوان المقال، جاء في الإطار المرجعي المفترض للإستشارة والتوجيه الصادر بتاريخ 09 مارس 2022 ما يلي..

″ الاستشارة هي صلب مهنة المستشار في التوجيه التربوي وهي المحدد الرئيسي لهويته المهنية″

لكن..وخلافا لما كان متوقعا سقطت هذه الوثيقة في تناقضات عديدة تحدثنا عنها بإسهاب في مقالتنا السابقة حول الموضوع.

(راجع ″الإطار المرجعي للمواكبة التخصصية..″ بتاريخ 03 نونبر 2022 بالموقع.)

وسنكتفي بتناقضين رئيسيين لأن لهما صلة مباشرة بالهوية المهنية التي نحن بصدد الحديث عنها.

أولا، عدم الإنطلاق من واقع الإستشارة الفعلي..مما هو كائن وموجود كممارسات مهنية متعددة نعم لكنها تصب كلها في خانة واحدة..تقديم الإستشارة والتوجيه المناسبين للتلاميذ وأولياء أمورهم حول الدراسة والمهن.

الإطار المرجعي وعلى العكس من ذلك تماما ينطلق من نموذج افتراضي لمهنة الاستشارة والتوجيه..

المواكبة التخصصية!

كيف؟ لا أحد يملك الجواب! هكذا!

إنه نموذج افتراضي وكفى!

نموذج افتراضي لما ينبغي أن يكون عوضا مما هو كائن بالفعل على أرض الواقع.

لماذا؟

لأن ما هو كائن بالفعل على أرض الواقع لا يرقى إلى مستوى ما ينبغي أن يكون!

أي أن حاضر مهنة الإستشارة والتوجيه مخالف لمستقبلها الإفتراضي!

ولأدواته الجديدة..على الورق!

(وهل يمكن أن يكون غير ذلك؟؟؟..في قواعد المنطق يطلق على مثل هذه الإفتراضات..فرضيات التكرار..لأنها لا تضيف شيئا جديدا ولذا فلا قيمة لها كما أنه لا يعتد بها..Hypothèses tautologiques)

ولكي يتوافق المستشار في التوجيه التربوي مع هذا المستقبل الإفتراضي فما عليه سوى أن يتخلى عن المحدد الرئيسي لهويته المهنية التي هي الإستشارة ويستعيض عنها ب..المواكبة التخصصية!

مواكب للإستشارة..ومتخصص في مواكبة الإستشارة..عوضا عن مستشار!!!

هل يعقل هذا؟

لنعط أمثلة على ما نقول حتى تتضح الصورة أكثر ودائما من مجال الخدمات الذي تنتمي إليه مهنة الإستشارة والتوجيه.

وأنت طبيب على سبيل الإفتراض مثلا، لا يقتصر دورك على تقديم الاستشارة الطبية لطالبها فقط بل عليك بالإضافة إلى ذلك وعوضا عن ذلك..أن تواكب هذه الإستشارة وتتخصص في مواكبتها لتتأكد يقينا بأن صاحبها سيلتزم بها في المستقبل وإلا فإن حاضرك المهني سيتأثر بذلك!

مثال آخر..وأنت مستشار قانوني فالمطلوب منك، بنفس المنطق أن تواكب استشاراتك القانونية من البداية إلى النهاية وتكون على بينة من مصير أهلها حالا ومآلا!

وأنت خبير حسابات، لا مناص من مواكبة الشركات التي تستشيرك في مشكل ضريبي أو خلل في النفقات..والزيارات المستمرة لها لتتأكد بأم عينيك أنها ستطبق بالحرف استشاراتك!

وقس على ذلك…

باختصار، فتقديم الاستشارات لوحدها لا يكفي، بل عليك المواظبة عليها ومسايرتها بلا انقطاع في الزمان والمكان حتى تبلغ مرتبة المواكب المتخصص وتسير جنبا إلى جنب مع باقي مكونات الموكب التعليمي من أطر إدارية وتربوية.

آنذاك ستستريح وسيرتاح معك من لا يرتاحون لاستراحاتك!

مرة أخيرة..أنت لست مستشارا للتوجيه التربوي..أنت مواكب متخصص للاستشارة والتوجيه!!!

التناقض الرئيسي الثاني يكمن في تعريف المواكبة التخصصية التي تشمل الإعلام والاستشارة والمواكبة النفسية الإجتماعية.

كيف؟ ولماذا؟

لا أحد لديه الجواب.

في هذا المستوى بالذات غاب الخطاب العلمي الموضوعي ليحل محله الخطاب الاديولوجي بآلياته الخفية.

لن نخوض في تفاصيل اديولوجيا التدبير، حسبنا منها ما يتعلق بالهوية المهنية لمستشاري التوجيه التربوي.

(لمزيد من التوسع في الموضوع يرجى مطالعة كتاب la société malade de la gestion, Vincent de Gaulejac)

تعويم مفهوم الاستشارة المؤطر بخلفيات نظرية وعملية غنية ومتنوعة في محيط من مفردات التدبير الفضفاضة التي تعني كل شيء ولا شيء والشيء ونقيضه في نفس الوقت ولا يعلم أولها من آخرها ولا من أين جاءت أو من أين سقطت…يقود إلى نتيجة واحدة :

تفكيك الجهاز المفاهيمي المحكم من الداخل في أفق تفكيك الهوية المهنية المقابلة له من الخارج!

إنه نوع من التحايل على النقاش الأكاديمي وهروب من المسؤولية العلمية وتحليق على الواقع المعقد بمتغيراته المتداخلة إلى الحلول السهلة والنتائج السريعة.

وتدريجيا ومع مرور الوقت، والغرق في العمل الإداري من تقارير ومؤشرات…إلخ التي تتطلبها شظايا هذا الإنفجار الداخلي Implosion conceptuelle للهوية المهنية من الاستشارة إلى ما لا يعد ولا يحصى من ″المصطلحات″ الدخيلة، سيتحول مستشارو التوجيه إلى موظفين للتوجيه همهم الوحيد هو تعبئة الأوراق المتناسلة حول المواكبة التخصصية و″أمهات مؤشراتها″ التي يلهث وراءها المهووسون باديولوجيا التدبير من أطر التوجيه ومن غيرهم.

ختاما، فالهوية المهنية لمستشاري التوجيه التربوي ومع هذا الإطار المرجعي بين المطرقة والسندان.

سندان الواقع الذي لا يرتفع لأن القائمين عليه من المسؤولين المركزيين والجهويين والإقليميين ينكرونه ويتنكرون له باستمرار.

ومطرقة المتعالين على هذا الواقع من أطر التوجيه أنفسهم..يبكونه ويحلمون بغيره..لكنهم عاجزون كل العجز عن تغييره بالوقوف أولا أمام هذا السيل الجارف لإديولوجيا التدبير المقنعة والمغلفة في شكل مذكرات وقرارات ومقررات وأطر مرجعية…إلخ وثانيا باعتماد المناهج والمقاربات والنظريات العلمية الأكاديمية المعتمدة في مجال الإستشارة والتوجيه.