
العدل و الإحسان الأزمة المركبة
المأزق بين السياسي والمرجعي
آراء أخرى
يعلم كل المتابعين والمطلعين على شأن الحركات الإسلامية المغربية عموما والعدل الإحسان خصوصا، أن منطلقاتها الفكرية التي شكلت بالضرورة مرجعية و إطارا لسلوكها على المستوى الفردي والتنظيمي، تنبني على ركيزتين أساسيتين: الأولى، ركيزة تربوية روحانية و عرفانية، يصطلح عليها ب” الإحسان“، تروم تزكية النفوس وتطهير الأرواح لبلوغ أعلى مقامات الكمالات البشرية، وهي تتلاقى في ذلك وتتقاطع مع ما يعرف لدى المسلمين بالمدرسة الصوفية ومنهجها.
أما الركيزة الثانية، فهي حركية تدافعية وعملية زحفية ذات طابع تغييري سياسي واجتماعي، يصطلح عليها ب” العدل “، هذا الذي تبقى غايته القصوى متمثلة في إقامة ” الخلافة على منهاج النبوة ” والحكم وفق معيار القيم القرآنية الإسلامية.
لقد كانت أول انطلاقة لجماعة العدل والإحسان في مستهل الثمانينات من القرن الماضي تحت شعار “أسرة الجماعة“، مما يعني اليوم أنها قد بلغت أشدها واختتمت عقدها الرابع. بعد انصرام هذه الأربعين سنة من عمرها يحق لنا أن نتساءل عما حققته هذه الجماعة من إنجازات ملموسة وعن مدى استيفائها للأهداف والغايات الكبرى التي كانت أساسا لتشكيلها؟
لا ينكر أحد، بل الكل يشهد على القوة التي عرفتها هذه الجماعة عند انطلاقتها، ليس عند البدء فحسب بل قبل تأسيسها الفعلي والتنظيمي، وذلك للزخم الغزير الذي أمدها به مؤسسها ومرشدها العام السيد عبد السلام ياسين، رحمه الله، من خلال مواقفه التي رفع من خلالها السقف عاليا بحيث توجه في بداية السبعينات برسالة نقدية علنية تحت عنوان: “الإسلام أو الطوفان” إلى أعلى سلطة في البلاد وهو الملك الراحل. ثم ما تلا ذلك من كتابات باللغتين العربية والفرنسية شكلت القاعدة الأساس للمرجعية الفكرية لهذه الجماعة الفتية، كتابات ذات نفحة تجديدية تغييرية و جذرية تجمع بين قوة “الثورية” السياسية وعمق الروحانية الربانية التي كانت وراء إلهام طوائف عريضة من الشعب المغربي و خاصة الشباب منهم.
إن مجموع هذه المواقف وهذه الكتابات وما التف حولها من جماهير غفيرة من كل الفئات والطبقات الاجتماعية، كانت تؤشر على أن جماعة العدل والإحسان ستسير على خطى ثابتة من أجل خلق معادلة سياسية جديدة داخل البلد و من أجل إرساء دعائم روحية و ثقافية داخل المجتمع أيضا، لكن ما الذي حصل؟
الحقيقة أن الجماعة عرفت ضعفا بعد قوة وانكماشا بعد تمدد وتقهقرا بعد تقدم، فبداية الانكماش والجمود والتراجع، في واقع الحال، لوحظ على أدائها ما قبل وفاة مرشدها، رحمه الله. إذ يمكننا التحقيب لهذه المرحلة، وهي بالضبط تتحدد بعد خروج مجلس إرشادها من السجن سنة 1992، بعد ما قضوا داخل جدرانه سنتين حبسا نافذتين.
إن قراءة متأنية في تاريخ الجماعة تنبئ على أن قمة عصرها الذهبي، الذي بلغته أثناء تصاعد قوتها كان خلال هاتين السنتين أثناء غياب مجلس إرشادها ، وذلك لما عرفته من حيوية كبيرة في أنشطتها شملت الكثير من القطاعات منها الطلابية و التلاميذية والاجتماعية والدعوية والإعلامية والنسائية…إلخ
كما يمكن تسجيل ما عرفته هذه المرحلة من مرونة ذكية طبعت أداء قيادتها البديلة وكذا مناوراتها ضد النظام من خلال كيفية تخطيطها وتنظيمها للمسيرات الضخمة والإنزالات الجماهيرية الكبيرة والتي كانت تتميز وتتمتع بعنصر المفاجأة بالنسبة للقوى الأمنية، مثل اعتصام يوم 8 ماي 1990 الذي تم تنظيمه في قلب العاصمة الرباط، احتجاجا على محاكمة أعضاء مجلس إرشاد الجماعة استئنافيا، وكذلك مثال المسيرة الجماهيرية الضخمة التي عرفت إنزالا بشريا كثيفا من جميع المدن المغربية، حيث غصت أكبر شوارع مدينة الدار البيضاء في يوم 19 غشت 1991 بأمواج بشرية تضامنا مع طلبة كلية الطب في هذه المدينة، ناهيك عن المسيرات المليونية المؤيدة للقضية الفلسطينية و للشعب العراقي إبان الغزو الأمريكي لبلده …
إن كثافة هذه الأحداث النوعية وتلاحقها خلال هاتين السنتين جعلت السلطات الأمنية تنتبه إلى أن المبادرة أصبحت عمليا بيد القيادة البديلة وأن عنصر المباغتة والتنظيم المحبوك الذي يطبع أداءها أصبح مؤشرا على بداية لإرساء قواعد جديدة للصراع بينها وبين الجماعة.
فبعد خروج أعضاء مجلس الإرشاد من السجن وعند إطلاق سراحهم مباشرة دخلت الجماعة، حقا وحقيقة، حقبة الركود والسبات الشتوي. لكن مظاهر هذا الركود الذي طال لأكثر من عقدين لم تظهر تجلياته سوى خلال العشرية الأخيرة. هذا ما يستوجب التساؤل عن أسباب هذه الحالة و التنقيب عن الخلفيات التي تقف وراءها؟، ثم التساؤل هل هي راجعة إلى أسباب ذاتية أم إلى أسباب موضوعية أم إليهما معا؟
لكي أكون موضوعيا في تقييمي و مطالعتي هذه لحال الجماعة والتزاما مني بالإنصاف فإن الأسباب، في نظري، هي ذاتية من جهة وموضوعية من جهة أخرى.
الأسباب الموضوعية:
يكمن السبب الموضوعي الأساس في طبيعة النظام السياسي المغربي المبني على “إمارة المؤمنين“، الذي يتخذ من الدين الإسلامي ركنا شديدا و أساسيا في بناء شرعيته في الحكم. فهو بذلك لا ولن يقبل بأي شكل من الأشكال أن يظهر على الساحة من ينازعه أو يتقاسم معه ولو جزئيا الشرعية الدينية.
هذا من الناحية الدينية، أما من الناحية السياسية فالنظام في سياق إدارته للصراع مع الخصوم السياسيين منذ استقلال البلد ومنذ أن كان للمعارضين شعارات وطنية ثم يسارية، لم يسمح لأي مكون مهما كان أن يحتل موقعا متقدما يجعل منه مصدر خطر عليه، كما أنه لم يسمح لأي حزب أن يتقاسم معه ولو شطرا أو جانبا من الحكم. بل كل القوانين بما فيها الدستور وكذلك كل الأعراف والتقاليد الجاري بها العمل تجعل من مزاولة الحكم أمرا يدخل ضمن اختصاصات المؤسسة الملكية حصريا.
ففي هذا السياق يشهد التاريخ على اعتماد السلطات الأمنية فعل الاختراق كآلية فعالة لشق التنظيمات السياسية من الداخل، فالشواهد في هذا الباب كثيرة، بحيث تم شق حزب الاستقلال سنة 1958 ليخرج عنه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي هو الآخر تم شقه ليخرج عنه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي تم شقه أيضا ليخرج عنه حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ولازالت هذه الآلية تعمل عملها و تفعل فعلها إلى اليوم.
هذه آلية معروفة لدى من اكتوى بنارها من أحزاب ومنظمات حقوقية وغيرها كما أنها معروفة لدى الباحثين والدارسين للحياة السياسية المغربية وتطوراتها، وعليه فإن جماعة العدل والإحسان لن تشكل استثناء في هذا السياق ولن تشذ عن هذه القاعدة بالتأكيد، فمن الغباء الاعتقاد أنها عصية عن هذا الأسلوب الأمني أو أن بناءها التنظيمي يستطيع صد أي محاولة لشقها تنظيميا أو العمل على إضعافها داخليا أو إزاحتها وحرفها عن تحقيق مقاصدها وغاياتها التي تبرر وجودها أصلا.
الأسباب الذاتية:
أما العامل الذاتي فيمكننا القول بشأنه ما يلي: إن الجماعة منذ خروج مجلس إرشادها من السجن إلى اليوم وهي تعيش أزمة مركبة، إلى درجة أن عناصرها أصبحت متداخلة ومتشابكة بين أزمة قيادة وما تناسل منها من أزمة هوية إلى جانب أزمة إدارة وتسيير إلى أزمة رؤية..، اختلط الحابل بالنابل فأعطانا صورة لحالة ما هي عليه الجماعة اليوم وتنظيمها.
1– أزمة القيادة:
تعتبر الأزمة التي ألمت بقيادة الجماعة ذات أوجه متعددة، نأخذها ونحاول رصدها من خلال النقط التالية:
أ– تتشكل قيادة مجلس الإرشاد والماسكين بتلابيب السلطة داخله في الأغلب الأعم من رجال التعليم، معلمين وأساتذة في الثانوي، مع احترامي للمهنة وأصحابها، لكن لما يصبح الطابع الغالب لفئة مهنية معينة على قيادة جماعة كبيرة من حجم “العدل والإحسان” فهذا معناه أن التنوع في الكفاءات والمهارات والقدرات التي تتطلبها مقصورة القيادة قد تكون منعدمة، كما يؤدي ذلك إلى غلبة ذهنية معينة على عقل التنظيم، بحيث يسري نمط فكري واحد على كل مفاصله..
ب– أغلب أعضاء القيادة ذوي إمكانيات فكرية ومعرفية محدودة، بل تصل عند بعضهم إلى حدود الهشاشة والسطحية، والشاهد على ذلك أننا لا نجد لهم لا إصدارات ولا مؤلفات ولا كتابات ولا خطابة ولا فصاحة كما هو الشأن عند التنظيمات الجادة الإسلامية منها وغيرالإسلامية، بل الأدهى أن هذا الفراغ والعوز العلمي والمعرفي يتم تغليفه في لفافة من الخطاب التربوي الروحي الغيبي ليتمكن خطاب القلب من ستر عورة العقل.
ج– تتم صناعة القرارات ويتم اتخاذها على مستوى مجلس الإرشاد، رغم تعويم ذلك داخل مجالس ومؤسسات مثل مجلس الشورى أو مجلس التنفيذ فيما قبله، لكن المشكل لا ينحصر هنا فحسب، بل إن أعضاء القيادة لا يستندون في قراراتهم ورسم خططهم على أي أسس علمية، مثل الاعتماد على نتائج الدراسات والبحوث الدقيقة والمستفيضة التي يمكن أن تقوم بها جهات علمية متخصصة، بل الرأي هو ما يراه القائد حسب تقديره الشخصي، ومن الأمثلة على ذلك نجد الارتجال الذي شاب مشاركة الجماعة في أحداث 20 فبراير إبان ما سمي بالربيع العربي؟، على أساس أي من التقديرات الواقعية والمنطقية تم اتخاذ القرار بالالتحاق والمشاركة ثم سرعان ما اتخذ قرار آخر بالانسحاب المفاجئ والانصراف؟، ألا ينم هذا عن الارتجال وعدم الدقة وقلة النضج لدى هذه القيادة عند اتخاذ القرارات السياسية الكبيرة والمصيرية؟
و يمكننا الاستدلال أيضا ببشارة 2006 التي روج لها وتبناها مجلس الإرشاد، إذ بلغت حد اليقين القطعي عند السواد الأعظم من قواعد الجماعة وأعضائها، بشرت بالحدث العظيم، الذي ستعرفه البلاد والذي سيمس الحكم وأركانه. هذا التقدير لوضع البلاد لم يكن مصدره تقديرات إحصائية واستنتاجات لدراسات سوسيو– سياسية أو خلاصات لبحوث اقتصادية ومالية أو لتوقعات جيوبوليتيكية..، بل كان مصدره الوحيد والأوحد رؤى غيبية رآها فلان هنا وزكاها علان هناك.
د– القيادة تعيش تناقضا كبيرا بين منطلقاتها المبدئية، شعار العدل، وبين ممارستها العملية والواقعية. يتجلى هذا التناقض في أوضح صوره في الاستبداد الداخلي الذي يفضي إلى انعدام الحرية الفردية في التعبير وقمع الأصوات المعارضة وتهميشها وإقصائها بل يتم العمل على شيطنتها، حالة الأستاذ محمد العربي أبو حزم والمهندس إبراهيم الجعواني، الأول اتهموه بالعمالة والثاني رموه بالجنون، لا يوجد في قاموس هذه القيادة شيئ إسمه النقد الذاتي أو مراجعات للتقييم والتقويم، أما الخطير في الأمر أن هذا النظام الحديدي يتزيا بلباس الإيمان والتقوى وحفظ الآخرة.
تنفذ قرارات الفصل و الطرد دون إحاطة العضو المطرود من الصف علما بالتهم المنسوبة إليه وليس له الحق في المحاكمة المنصفة للدفاع عن نفسه وتقديم ما لديه من توضيحات أو أدلة لتبرئته.
كما أن الجماعة لا تتوفر على قانون تأديبي داخلي تتحدد من خلاله طبيعة الأخطاء ونوعية ودرجات العقوبات وليس هناك من مبدأ التسلسل في العقوبات، في أحسن الأحوال يتم إخبار العضو هاتفيا بطرده وإذا سأل عن صوابية القرار يتم إخباره، كما هي حالة مسؤول الجماعة السابق في “إنجلترا” من طرف أمين عام الدائرة السياسية، “هكذا نشتغل نحن ، أو هكذا نفعل“.
ومن ذيول هذه الممارسات المتناقضة مع مبدأ العدل الذي ترفعه الجماعة وتنص عليه أدبياتها نجد إجراء التعيين، بحيث يرتكز التعيين في مناصب المسؤوليات عند هذه القيادة على أساس الطاعة العمياء والولاء المطلق للأشخاص وليس للجماعة و يتم تجاهل وتغييب معايير الكفاءة والمهارات الخاصة لدى الأفراد والقدرة على التنفيذ والإنجاز.
قيادة تضع نفسها فوق المحاسبة والمراجعة و لا أحد يمكنه مطالبتها بكشف الحساب عن إنجازاتها وعن ماهية برامجها وتصوراتها للحاضر وللمستقبل وعن مدى نجاعة أساليبها وطرائقها في العمل، أصبحت عندها التربية أفيونا تخدر به الوعي والحس النقدي لدى القواعد العريضة من المنتسبين، وهذا تشهد عليه طبيعة الحوارات والسجالات التي تدور رحاها على ساحة العالم الأزرق الإفتراضي.
ويبقى السؤال قائم ويفرض نفسه، كيف لك أن ترفع شعار العدل وتطالب غيرك بإقامته في المجتمع وبخصوص مجالك الخارجي وأنت أعجز على أن تقيمه داخل صفك ومع أبنائك؟؟
2– أزمة الهوية:
إلى حدود اللحظة لايزال الكبار داخل التنظيم تائهون ولا يستطيعون التمييز بين ماهية الجماعة، هل هي حركة صوفية أم هي حركة سياسية ذات طابع صوفي؟ أم هي توليفة لا هي بالسياسية ولا بالصوفية.
مع العلم أن المرشد المؤسس عبد السلام ياسين، رحمه الله، لم يغادر هذه الدنيا إلا وقد فصل وبين وشرح واستدل من خلال مجموع كتبه وخطبه ودروسه على حقيقة وهوية هذه الجماعة وماهيتها، لكن وكما أشرت سالفا، مستوى القيادة المتدني لم يسعفها لإدراك وفهم عمق ما أثله صاحب المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا. ( يمكن الرجوع إلى كتابي: سؤال الهوية عند جماعة العدل والإحسان، أصدرته سنة 2000).
مما يدل على هذا التيه “الهوياتي” ما نجده و نرصده من اعتماد الخطاب الصوفي وآليات المدرسة الصوفية في إدارة التنظيم داخليا، فالقاعدة الصوفية التي تضبط سلوك الأفراد داخل “الزاوية” مفادها وجوب الطاعة العمياء والخضوع المطلق للشيخ، ف “المريد هو كالميت بين يدي غاسله“، هذه الآلية هي الحاكمة لدى الجماعة وعلى أساسها تنتظم العلاقة الهرمية بين القمة والقاعدة، بحيث يمنع الاختلاف داخل الصف ولا يسمح بتعدد الاتجاهات والآراء أو التوجه بالطعن أو النقد لقرارات واختيارات القيادة، بل يصنف ذلك كله و يعتبر طعنا ومسا ب“أولياء الله” الذين يديرون شؤون الجماعة ب“نور الله“، فالطعن في قراراتهم هو عين الحرمان وهو المروق بذاته عن الدين والمجازفة بالآخرة و بالمصير عند الله تعالى..
أما الوجه الثاني لهذا التيه “الهوياتي” هو ما نجده في المقاربة السياسية لدى القيادة، المغلفة بالخطاب الحزبي، بحيث تقدم هذه القيادة الجماعة أثناء حواراتها مع الأطراف السياسية الأخرى على أنها حزب سياسي وأن لديها تطلعات للمشاركة السياسية وفق قواعد السياسة المتعارف عليها، فهؤلاء لا يرون أي فرق بينهم وبين حركة الإخوان المسلمين في أدائهم السياسي، كما لا يرون من اختلاف بين ما يسعون إلى تحقيقه وما حققه “حزب النهضة” التونسي بقيادة رئيسه الأبدي راشد الغنوشي على سبيل المثال..
وفي هذا ضياع البوصلة لدى القيادة وهو ما جعل الجماعة تتخبط بين إدارة حديدية للتنظيم وبين الغموض والغبش اللذان يكتنفان رؤية المسار السياسي للجماعة. وللمزيد من توضيح الجادة التي حادت عنها هذه القيادة سأذكر بالسياقات الأولى لتشكيل الدائرة السياسية.
إن الفكرة الجوهرية التي كانت الأصل عند تأسيس هذا الإطار هي كون الجماعة، كما تنص أدبياتها، ليست حزبا سياسيا ولا يمكنها أن تلج العمل السياسي وتقتحم جبهاته بكامل أعضائها وبتركيبتها التنظيمية، وأن السياسة ما هي إلا جزء صغير من عمل ومهمات الجماعة وليست هي كل شغلها..، لذلك كان التوجه نحو تشكيل هيكل سياسي، ملحق أو مرتبط بالجماعة بشكل غير مباشر وله شبه استقلالية ذاتية، ينخرط فيه بعض أبناء الجماعة على أساس أن يكون هذا الهيكل جامعا لكل ” الفضلاء الديمقراطيين” داخل البلد، أي أن يكون إطارا منفتحا على أعضاء من خارج الجماعة بشرط وحيد هو الشرط الأخلاقي ونظافة اليد لدى هؤلاء، كما أن التحاقهم بالدائرة السياسية لا يعني الانتماء للجماعة بمعنى أن عضوية الدائرة السياسية لا تفضي بالضرورة إلى العضوية داخل الجماعة..
لكن مع الأسف، ونظرا للقصور في الفهم والسطحية في الوعي لدى الذين أوكل إليهم عمل التأسيس لم يرقى وعيهم هذا ليقبل بالتشارك مع الغير، الغير الذي سيصبح حتما شريكا لهم في القرار و في إدارة الأمور، فسيطرة عقلية الاستحواذ لديهم أدت إلى إجهاض هذا المشروع الجنيني ليولد ميتا. مشروع أراده المرشد، رحمه الله، ساحة للتلاقي والتلاقح والتعاون بين جزء من أبناء الجماعة وبين باقي الكفاءات أصحاب القيم والأخلاق والفضيلة من المغاربة، لكن إرادة مجلس الإرشاد والمتحكمين في قراراته سارت في درب آخر ورسمت له طريقا مخالفا تماما. فهاهي النتائج ما ترون لا ما تسمعون من تسول عند بعض المكونات السياسية بغية تشكيل جبهة معارضة داخلية وميثاق جامع. كأنهم لم يقرؤوا أصول الفقه المنهاجي التي تعتبر السياسة جزءا من مهام الجماعة وليست كل همها وشغلها.
3- أزمة الرؤية:
من بين مخلفات أزمة القيادة التي تعاني منها الجماعة نعثر أيضا على غياب رؤية واضحة لمسار هذه الجموع البشرية التي تم تجميعها خلال هذه العقود الأربعة على طول مساحة البلد وعرضه. فإلى أين المسار؟ وعبر أي اتجاه؟ ومن خلال أية وسائل؟ ولتحقيق أية أهداف؟؟
هي أسئلة كثيرة يتناسل بعضها من بعض عبر تعاقب الشهور والسنين، لكنها بقيت دون إجابات واضحة وصريحة وبدون أي آثار لمضامينها على الواقع.
سأل أحد الأفراد الناطق الرسمي للجماعة بعد خروجه من السجن: ” هل كانت مدة السنتين من الاعتقال التي اجتمعت فيها القيادة مع بعضها، وهي الفرصة التي لم تتأتى لها من قبل، مناسبة لإعداد وصياغة رؤية وتصور للجماعة؟ وهل خرجتم باستراتيجية لكيفية إدارة الصراع مع المخزن؟، فكان الجواب كالتالي: ” كل شيء جاهز ومكتمل ونحن الآن نشتغل لما بعد الحسن“.
مر على وفاة الحسن الثاني أكثر من عشرين سنة وما وعد به هذا الرجل من رؤية تمت صياغتها لم يسمع لها صوت ولم يشاهد لها أثر مع الأسف.
إذا كانت من مرتكزات أهداف الجماعة الكبرى هي إقامة العدل و بناء الدولة العادلة فما من شيء اليوم كما البارحة يؤشر على وجود خطوات واقعية وحقيقية تدل على السير على هذا الطريق. إذ أن المأزق الذي تعيش فيه القيادة هو عجزها التام في أمرين: الأول نظري والثاني عملي.
أ– العجز النظري:
تعتبر “الخلافة على منهاج النبوة” مرجعية نظرية مهمة تنطلق منها الجماعة للتبشير بالدولة الموعودة، كما أن توصيفها للنظام القائم على أنه “ملك عاض أو جبري” يشكل إطارا للواقع الذي تروم تغييره والذي تسعى للقومة عليه. لكن الإشكال هنا هو هذه القاعدة المرجعية للواقع وللدولة المنشودة بحد ذاتها التي لم يتم التفصيل فيها ولا تحديد معالمها، فالجماعة لم تقدم نموذج الدولة التي تقترحها بديلا عن واقع دولة الحكم العاض والجبري. مما يجعل المتابعين في ظل هذا الغموض ومن خلال هذه الشعارات العامة يصنفون “دولة العدل والإحسان” المتوقعة بأنها دولة تيوقراطية، سيتم الحكم فيها ب“إسم الله“. أو أن هذه الجماعة لا تؤمن بالديمقراطية من الناحية المبدئية وإنما ستستعملها تكتيكيا من أجل الوصول إلى السلطة والحكم ثم بعد ذلك تتخلص منها و تؤسس لديكتاتوريتها كما فعل الحزب النازي الألماني بعد الحرب العالمية الأولى في بداية القرن الماضي.
إذا كان الماركسيون و الشيوعيون يناهضون النظام الرأسمالي والدولة الليبرالية فهم في المقابل قدموا نموذجا لشكل دولتهم الشيوعية أو الاشتراكية من حيث طبيعة السلطات وتقسيماتها وتسلسلها وتحديد العلاقات فيما بينها…إلخ، لكن القيادة الموقرة للجماعة أخفقت إلى حدود اللحظة عن تقديم نموذج دولتها إلى المغاربة بل لم تقوى حتى على تقديم بعض خطوطها العريضة رغم مرور أربعين سنة على انطلاقتها.
ب– العجز العملي:
غالبا ما يؤثث خطاب أمين عام الدائرة السياسية و معه الناطق الرسمي للجماعة بحديث وتعابير عن مواقف جذرية مفادها أن لا نية لهم للدخول في اللعبة السياسية وفق قواعدها الحالية، وأنهم لا يؤمنون بمقاربة التغيير من الداخل التي لطالما قدموا بشأن تهافتها نصائح لإخوانهم في حزب “العدالة والتنمية“، وأن “المخزن” في تقييمهم هو الماسك الوحيد بكل السلطات في البلد وأنه هو الحاكم الفعلي داخل الدولة وأن البرلمان والحكومة وغيرهما من المؤسسات الدستورية التي لا تعدوا أن تكون ديكورا أو واجهة فقط، لتزيين الواقع الحقيقي واقع الاستبداد والتسلط..إلخ، لكن السؤال المنطقي والطبيعي هو ماذا بعد هذه المواقف وهذا التوصيف؟
نعم، استطاعت قيادة الجماعة أن تتمترس سياسيا خلف مواقفها هذه طيلة هذه السنين، لكن في الوقت نفسه يلاحظ المتابعون لشأن هذه الجماعة غياب ما يجب أن يلي هذه المواقف من خطوات عملية، بمعنى آخر أن القيادة لا تضع الجماعة في وضعية اشتباك مع النظام من أجل انتزاع بعض المكتسبات الحيوية للشعب المغربي من أمن ومأكل ومشرب وملبس ومسكن وتعليم وصحة وكرامة..، كما أنها ليست في حالة صراع مع النظام من أجل الضغط عليه للحفاظ على ثروات البلد المهدورة والتي تستأثر بها أقلية صغيرة من الانتفاعيين في مقابل القواعد العريضة من الشعب المفقر البئيس الغارق في الجهل والبطالة والأمية، كما أنها لم تشكل عائقا وحاجزا لوقف مسلسل التطبيع مع الكيان الصهيوني بل اكتفت ببعض الوقفات أمام المساجد لرفع العتب فقط، وهذا ما لا يتناسب مع حجمها وقوتها العددية وانتشارها الجغرافي…
كما أن هذه القيادة لا تتوفر على برنامج مطلبي تخوض على أساسه معركة العدل في مواجهة الدولة بالطرق السلمية، بطبيعة الحال، كما حددها مرشدها، رحمه الله، في لاءاته الثلاث: “لا للعنف لا للسرية لا للتمويل الخارجي“. كما أنها لم تبتكر ولم تبدع ولم تبلور ولم تجترح أي وسائل أو أدوات لإدارة الصراع وممارسة الضغط على أصحاب القرار من أجل إحداث إصلاحات أو تحقيق بعض التغييرات ولو بشكل جزئي على حياة الناس والتخفيف من معاناتهم.
فعقل هذه القيادة وبعد أربعين سنة، لم يتفتق بعد على وضع خطة للتدافع وانتقاء الوسائل والأدوات المواتية والفعالة والناجعة لتحقيق مقتضيات “العدل” الذي يشكل الركن الأول في مرجعية الجماعة، وإن كانت قد عجزت عن ذلك منذ ذلك الحين فهي اليوم قد نجحت بانتقالها إلى هدم الركن الثاني الذي هو “الإحسان” من خلال بدعة تعويم الصحبة في الجماعة والتنكيل بكل من طالب بغير ذلك، وبهذا تكون على الأقل قد حققت إنجازا عظيما يسجل في حسابها ويبقى خالدا إلى يوم الدين.