نظرة الإسبان للمغربي بين الأمس واليوم
كشفت رسالة رئيس الحكومة الإسبانية بيضرو سانشيس إلى ملك المغرب، عن الصورة النمطية التي مازالت عالقة بأذهان الإسبان حول كل ما هو مغربي، من المهم الإشارة إلى التوقيت الذي اختاره سانشيس ليبعث برسالته، حيث تعرف بلاده غليان داخلي على جميع الأصعدة بسبب ارتفاع الأسعار، فلا تكاد تجد مدينة تخلو من الإضرابات اليومية والمستمرة وصل صداها البرلمان حيث الصراعات المتكررة بين نواب الأحزاب تزيد من عزوف الإسبان عن السياسة.
آراء أخرى
خبر رسالة سانشيس نزل كالصاعقة على الجميع وحتى شريكه في حكومة الائتلاف التي يقودها، -حزب نستطيع Podemos– لم تقبل إخفاء الأمر عنهم، وانتقدوا بشدة كباقي الأحزاب تصرف رئيس حكومتهم، حيث بلغت الانتقادات ذروتها يوم 30 مارس الماضي حين اجتمع البرلمان بطلب من رئيس الحكومة لشرح موقفه من اجتماعه الأخير بالإتحاد الأوروبي والناتو وعرض إجراءات الحكومة لمواجهة زيادة أسعار الطاقة، إلا أن قضية الصحراء المغربية طغت على كل هذه المواضيع وواجه سانشيس انتقادات كل الفرق النيابية دون استثناء بعضها تجاوزت كل المعايير الأخلاقية في ممارسة السياسة.
كما أنه لم يسلم من معارضة نواب من داخل حزبه تزعمها النائب بالبرلمان والقائد السابق لمدينة سان سيباستيان الباسكية، أُدون إلورزا Odón Elorza، الذي صرح أنه ” من المهم الاعتراف بأن هناك تحول كبير في موقف الحكومة، ويجب شرح هذا الموقف بشفافية” وأضاف أن ” تغيير بهذا الحجم يتطلب حواراً وخلق إجماع واسع جداً لأنها قضية دولة ذات أهمية كبيرة” وحول ‘ابتزازات المغرب!’ ذكّر أنه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، غاب المغرب عن التصويت لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا”! لكنه عاد بعد يومين وقلل من حدة تصريحاته.
إذا كان من الممكن فهم موقف اليمين الإسباني العنصري من قضايانا الوطنية التاريخية، فإن مواقف أحزاب اليسار من أقصاه إلى أقصاه كانت دائما غامضة وملتوية ومنها موقف الحزب الاشتراكي الذي تحالف مع الديكتاتور بريمو دي ريفيرا سنة 1923 لسحق المقاومة بالشمال، حينها أدان إندالاسيو بريطو Indalecio Prieto أحد قادة الحزب، سكوت ومشاركة حزبه في إدارة الدولة، واعتبر أن ” إسبانيا مقبرة كبيرة، مقبرة لعشرون مليون من الأرواح الميتة” لكنه عند وصول الجمهورية للسلطة بقيادة الاشتراكيين سنة 1932، لم يتردد الوزير بْريطو في الدفاع عن استعمار إسبانيا للمغرب ورغم أن ذلك يتنافى مع ‘مبادئ’ حزب بابلو إغليسياس.
وبخصوص الكتابات التاريخية والأدبية الإسبانية حول المغرب فهي تكشف، وبشكل مفضوح، عن حقد واحتقار كل ما هو مغربي وخاصة الفترة الممتدة بين حرب تطوان 1859 ونهاية نظام الحماية سنة 1956، ومازالت تظهر من حين لآخر كتابات تزخر بأحكام استعمارية كما يقول الأستاذ عبد الله العروي، تعكر علينا صفوة يومنا. نرى من المهم الوقوف على بعض صورها. فرجل القانون والعالم السياسي الإسباني José María Cordero Torres يفتح كتابه القيم، تنظيم الحماية الإسبانية بالمغرب، Organizacion del Protectorado español en Marruecos، ب ” إذا كان بإمكان أي شخص أن ينتقد الهيئات والمؤسسات الرسمية في الحماية الاسبانية شمال المغرب، فسيكون من الإسبان وليس من المغاربة.” رغم أنه لا يخفي الدور المتميز للمغاربة “القاصرين سياسيًا” في حرب ” التحرير” بقيادة الخينراليسيمو فرانكو Generalisimo Franco. وكما جاء في تقديم كتاب هذا الأخير- يوميات عَلَم Diario de una bandera– يشير مانويل أثنار جد رئيس الحكومة السابق خوسي ماريا أثنار، أن ” إسبانيا تنقذ ماضيها الأوروبي والأمريكي وفي نفس الوقت تنقذ مستقبل المغرب”!. وفي هذا الكتاب الذي تنبأ فيه فرانكو قبل 14 سنة عن دور الجيش في نقل حرب الريف إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، يصف المغاربة بأوصاف عنصرية بعيدة من أن تكون من قائد جاء لنشر رسالة حضارية كما يدعون، ورغم كل ذلك، وبعد انتهاء الحرب وسيطرته على البلاد، لم يثق في غير المغاربة لحمايته وحماية أسرته، حيث أحدث جهاز عسكري خاص تحت اسم Guardia Mora، عمِل بجانبه حتى سنة 1956.
أما اليساري أرتورو باريا Arturo Barea فقد كتب سيرته الذاتية في روايته الثلاثية La forja de un rebelde والتي تعتبر من أحسن الروايات الإسبانية، من بين ما جاء فيها، قصة الكلب الذي اختار له اسم، علي بعد أن أنقذه خلال دورية للجيش الإسباني، وأنه يكره المغاربة حتى السعار ويتعايش بسلام منذ اليوم الأول مع الجيش الإسباني. وفي نفس الاتجاه ذهبت المؤرخة الإشتراكية ماريا روسا دي مادارياغا، المعروفة بكتاباتها القيمة حول تاريخ الشمال المعاصر، في دراستها حول استعمال الغازات السامة شمال المغرب ما بين 1921- 1926 إلى إثبات استعمال الطيران الحربي لهذا السلاح الفتاك، لكنها ترفض وبسخرية أي علاقة بين استعمال هذا السلاح وارتفاع حالات الإصابة بالسرطان بالمنطقة، وتضرب عرض الحائط النتائج التي توصلت إليها المختبرات الدولية التي تؤكد هذه العلاقة.
وهذه العنصرية ليست استثناءً بين المؤرخين والكتاب الذين تناولوا قضايا المغرب في كتاباتهم، بل كانت سياسة الدولة الحامية فالدورات التكوينية لنيابة الشؤون الأهلية والتقارير السرية لمراكز المراقبة التابعة لها حول القبائل، تحذر من المغاربة، وخاصة عملائها المخلصين، لأن “الغدر صفة طبيعية للمغربي”، وأنهم ” يتجاهلون تمامًا أي فكرة عن الحضارة والثقافة ولا يدركون أي نوع من الحضارة التي يرفضونها في خضم جهلهم الوحشي، رغم وجودهم على بعد ثلاث خطوات من أوروبا الحديثة، لهم ميل شديد للسطو والنهب، ولا يعترفون بأي قانون غير نزواتهم وجشعهم، ويكرهون المسيحيين حتى الموت”.
في عهد الجمهورية 1931- 1936 لم يقع ولو أدنى تغيير سياسي أو اجتماعي في نظام الحماية شمال المغرب، فحكومة الجمهورية اليسارية في مدة السنتين المعروفة بـالإصلاحية بين 1931-1933، لم تحاول حتى أنسنة النظام ولا إعطاء المغاربة ولو بعض الحقوق فما بالك بالاستقلال الذاتي، بل كانوا استمرارًا لما بدأته الديكتاتورية، ومنذ اليوم الأول من وصولها 14/04/1931 واجهت بوحشية المغاربة الذين خرجوا للاحتفال بانتصارها وسقوط الملكية! و كرسالة لهم أعادت تعيين الجنرال سان خورخو مقيمًا عامًا بتطوان، والذي صرح: “…لحسن حظنا ليست عند المغاربة أسلحة، غير أن ذلك لا يشكل ضمانة كافية على أن لا تثار حالة حرب حقيقية، ولا يمكن نهج إلا سياسة واحدة قوامها: السلطة والعدل من طرف الحامي، والخضوع والنظام من لدن المحمي “. كما أن دستور الجمهورية الذي لم تتجاوز صداه مدينة طريفة، نص على استئصال كل فكر وطني من عقول المغاربة مع شرعنة آليات القمع والمراقبة وتعميق الخلافات بين قبائل جبالة والريف، حيث عملت على منع اللغة العربية بالريف والأمازيغية بجبالة. كان الجميع، من رئيس الجمهورية حتى آخر مناضل يساري، يتناسى وجود مستعمرات إسبانية بإفريقيا، وهم الذين كانوا، قبل وصولهم للسلطة، دائمًا في مقدمة المظاهرات التي تطالب بالانسحاب من المغرب، لكن بعد وصولهم السلطة اعتبروا أن عمل الحماية لا يجوز تسميته حرباً وإنما عملية بوليسية تنظيمية.
فإذا كان الديكتاتور بريمو دي ريفيرا حاول أن يكون منسجمًا مع المواقف العلنية التي دافع عنها ما بين 1917- 1918 بطرحه مشكل التخلي عن المغرب، فكيف برجال ليبراليين واشتراكيين وماركسيين لم يحاولوا القيام بأدنى إصلاح استعماري؟
وفي زيارته للمغرب حذر الوزير فرناندو دي لوس ريوس،Fernando de los Ríos، مناضلي حزبه بالقصر الكبير بأنه “لا يمكن أن يغيب عنكم أننا نقوم بمهمة الحماية، ولذلك لا يمكن أن تُطرح نفس المطالب التي تُقدم في شبه الجزيرة ”
وفي سنة 1936 بعد اندلاع الحرب الأهلية، كان المغرب الحل الوحيد أمام الجبهة الشعبية لإنقاذ الجمهورية وإسبانيا من الحرب، لكنها رفضت مطالب بسيطة – يمكن اعتبارها مقبولة وقابلة للتنفيذ- قدمتها اللجنة المغربية التي سافرت لبارشلونة دون أن تلقى أي اهتمام من طرف حكومة الجبهة.
كانت هذه الحرب كارثية بكل المقاييس، ولا يتذكر منها الإسبان إلا مشاركة الموروس بجانب الجنرال فرانكو دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في أسباب وظروف تجنيدهم ونقلهم لإسبانيا ومتناسين مشاركة القوات النازية والفاشية التي دخلت الحرب بكل ترساناتهم الحديثة من طائرات ودبابات وأسلحة متطورة وجنود ودعم مالي…
كما أنه من أهم أسباب هذه الحرب التي نقلها الجنرالات من شمال المغرب، الذي يعتبرونه مجرد سوق للترقية والمكافآت والأوسمة، كانت أسباب داخلية، ويكفي الإشارة أن إسبانيا المعروفة عبر تاريخها بعدم التجانس في كل شيء، وخاصةً في نسيجها الاجتماعي، عرفت ما بين سنة 1833 وسنة 1939، أي خلال 106 سنة، 13 حرباً أهلية كلها لأسباب داخلية!، فحب إسبانيا لا يكون إلا من خلال إراقة الدماء وباستمرار وهذا يتجسد ويتجلى في الجيش الاسباني.
وبالعودة لانتقادات الأحزاب السياسية لسانشيز، نرى من المهم الوقوف على انتقادات القوميين وخاصةً الكاتلان والباسك الذين يُعتبرون أشّد المدافعين عن ما يسمى “الشعب الصحراوي”، ومنها ما جاء على لسان النائب غابرييل روفيان Gabriel Rufián المتحدث باسم فريق اليسار الجمهوري الكتلاني ERC بالبرلماني الإسباني حيث سأل رئيس الحكومة: ” لماذا تدافع الحكومة على حق الشعب الأوكراني في وجه الروس وترفض حق الشعب الصحراوي؟.” وأضاف: ” لماذا نرسل الدبابات لبوتين ونرسل رسالة للمغرب؟”. ومن جانبها توجهت النائبة ميرتشي أيزبروة Mertxe Aizpurua باسم فريق Euskal Herria Bildu ( الجناح السياسي لمنظمة إيتا المنحلة) لسانشس أنه ” بمحاولتك حل المشكل مع المغرب تسببت في ظهور ثلاث مشاكل، مشكلة مع “الشعب الصحراوي” وأخرى مع الجزائر وثالثة مع جميع الأحزاب الممثلة بالبرلمان الإسباني”
من المفارقة نجد أن هاتان القوميتان وعبر تاريخهما كانت لهم مواقف شجاعة ومشرفة بخصوص المغرب وقضاياه، فالباسك رفضوا سنة 1859 المشاركة في حرب تطوان ولم يتم إقناعهم بإرسال متطوعين من مناطقهم إلا بعد أن دخل الجيش الإسباني تطوان ووصل قبيلة ودراس، كما أن Sabino Arana مؤسس الحزب القومي الباسكي PNV الذي يعتبر قاعدة كل الأحزاب القومية اليمينية واليسارية ببلاد الباسك، كان يرفض التوسع الإسباني بالمغرب، وخلال حرب سيدي ورياش سنة 1893 خصص العدد الرابع من جريدته للدفاع عن حقوق المغرب بمليلية ودحض ادعاءات إسبانيا التوسعية. وفي سنة 1934 قامت الجمهورية اليمينية وبضغوطات فرنسية بإنزال جيشها جوًا وبحرًا بسيدي إفني واحتلالها، فخرجت الجرائد الباسكية لتكذيب “الاحتلال السلمي” والاستقبال الذي حظي به الجيش الإسباني حسب ادعاءات السلطات الإسبانية، ونوهت ب “شجاعة القبائل المغربية في الدفاع عن أراضيها”، وسيكون من المفيذ للنائب الباسكي ورئيس فريق القوميين الباسك اليميني PNV، أيطور إستيفان Aitor Esteban العودة إلى هذه الجرائد وإلى مبادئ حزبه الذي استطاع قادته، ومنذ تأسيسه أن يتجاوزوا موجة العنصرية التي عرفتها كل الأحزاب اليمينية الغربية، كما يمكنه العودة لموقف الحزب من النزاع المغربي- الإسباني حول صخرة ليلى سنة 2002.
خلال حرب مليلية أو حرب واد الذئاب سنة 1909 خرج الكتلان للاحتجاج ضد الحرب والتجنيد، قتل خلالها العديد من المدنيين وهي الأحداث المعروفة باسم “الأسبوع المأساوي” La Semana tragica . وللأمانة لم يكن هناك تعاطف دولي مع المقاومة المغربية ما بين 1921 و 1926 بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، مثل تعاطف القوميين الباسك والكتلان، في الوقت الذي كانت المدن الإسبانية تتنافس في شراء الطائرات باسمها وإرسالها للجيش بالمغرب لقصف الأسواق والمداشر بالقبائل، وفي سنة 1923 كثّف القوميين الثلاث – بالإضافة لغاليسيا- حملاتهم ضد الحرب بالمغرب ورفضوا “تجنيد مواطنيهم في حربٍ لا تعنيهم”، ودعا القوميون الباسك إلى فتح جبهة عسكرية داخل إسبانيا لفك الحصار عن شمال المغرب، وفي مؤتمر جمعهم بمدينة برشلونة يوم 11 شتنبر من نفس السنة، دعا القوميون الثلاث لإنشاء تحالف رباعي يضم القوميات الثلاثة والمغرب، لكنه بعد يومين قام الجنرال بريمو دي ريفيرا بانقلاب عسكري وحلَ البرلمان والحكومة ولاحق القوميين الذين اضطروا للهروب خارج البلاد، ورغم المراقبة المشددة على الصحافة حول الحرب في المغرب، استطاعت جرائد بلاد الباسك الإصدار ونقل حقيقة الحرب بشمال المغرب من خلال مراسليها بالمنطقة. وأمام صمت الدولة المغربية الطويل، مازال القوميون الباسك والكتلان إلى اليوم وكلما أتاحت لهم الفرصة يشيرون لضرورة اعتراف إسبانيا بجرائمها شمال المغرب وخاصة جرائم الحرب الكيميائية.
إذا كانت الدولة المغربية لها سياستها الخاصة مع جارتها الشمالية، فعلى المجتمع المدني المغربي بكل أطياف أن لا يتسامح مع الإهانات المستمرة التي تضرب في شرفه وعرضه وتاريخه، وأن يعمل، عبر كل القنوات المتاحة أمامه، على رفض هذه الإهانات، وأن يقوم بربط علاقات صداقة مع القوميين المذكورين من خلال التعاون الثقافي والعلمي وغيره… ولا نعتقد أن اليمين الإسباني المتطرف منه والأقل تطرفًا ومعهم الاشتراكيين حلفاء الملكية وباقي اليسار، سيكون من مصلحتهم أن يعرف العالم بوجود برتغال جديدة شرق مملكة قشتالة، وشبه جزيرة جديدة بالشمال، كلاهما بحدود إثنوجغرافية بارزة، وليست كما التي صنعتها إسبانيا جنوب المغرب.
باحث مغربي مقيم بإسبانيا