المنطق السياسي في الأزمة الأوكرانية يقول
في مقالتي السابقة تحدثت عن الميولات الكبرى لمسارات تناقضات الوضع العالمي، وكنت سأحاول، في هذه، التطرق لذات الميولات في ما يخص تناقضات الوضع العربي. ولكني أعطيت الأولوية في هذه الورقة للحدث الدولي الكبير لأزمة أوكرانيا، وقد اجتاحت المساحة الإعلامية العالمية الأوسع، وهيمنت على تفاعلات وتموقعات القوى الدولية. ولا مناص من أن يكون لحصيلتها تبعات عميقة على اصطفافات النظام الدولي. وقد سبق لي أن وصفت هذه الأزمة حال اندلاعها في مقالتي السابقة، بأنها أزمة مفتعلة من قبل الولايات المتحدة وأتباعها. ولا يعود هذا الافتعال إلى مصالح طارئة وعابرة، إنما هو اختيار استراتيجي تجاه روسيا الاتحادية، يستهدف فرملة نهوضها وإعاقة التحولات الجارية نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب. ولأن الغرب يستغل، في كافة الأزمات الكبرى، تفوقه الإعلامي الدولي، ليستعمله كوسيلة حرب ناعمة للتغطية على مآربه الحقيقية، يغدو من الضروري التعاطي مع ما هو معلن وظاهر في المواقف الدبلوماسية والإعلام بعقلية حذرة ونقدية تكشف عن المنطق السياسي الموضوعي الذي تحمله وتخدمه. وهذه هي الغاية من الاستخلاصات التالية، والتي جنحت فيها إلى التعميم متجنبا ما أمكن سرد الوقائع والمعلومات والأخبار ما دام عرضها في وسائل الإعلام كثيفا لحد التخمة.
آراء أخرى
1
أولا: سيكون سؤالي المنطقي البدئي، لماذا من أول وهلة في الأزمة، شنت الولايات المتحدة والغرب حملة إعلامية ودبلوماسية تهويلية تنذر بغزو قادم لا محالة من روسيا لأوكرانيا، وفي وقت كانت فيه روسيا تنفي بالقطع هذا الخيار، مادامت تنتظر ردود الولايات المتحدة والدول الأوروبية على مطالبها في ما طرحته من خطوط حمراء لتأمين أمنها القومي؟ وهل كان رفض أمريكا للتفاوض على ما هو جوهري في تلك المطالب، وفي مقدمتها الالتزام بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، جوابا مقنعا لخدمة السلام وتجنب الغزو المحتمل، أم أنه كان متعمدا للزج بروسيا في ركن الزاوية، ومن تم الادعاء بأن أمريكا كانت على حق عندما توقعت، استنادا على معلوماتها المخابراتية، التي لا يطالها الشك أبدا! أن روسيا في شخص رئيسها العدواني بطبعه سيغزو حتما ” أوكرانيا الديمقراطية” ؟
عشرات الحيثيات يمكن للمنطق السليم أن يحاجج بها جميع تلك التلوينات التبريرية والهروبية والتي قدمها المدافعون عن سياسة الولايات المتحدة وأتباعها في خضم هذه الأزمة. سأكتفي هنا ببعضها :
• ليس جديدا بالمرة أن الولايات المتحدة قد وضعت في اختياراتها الاستراتيجية الدولتين، الصين وروسيا الاتحادية، في منزلة “العدوين” ، صراحة أو بلغة الدبلوماسية الضمنية، ومع اختلاف بينهما في الرتبة الدرجية والأولوية. وحدث هذا الاختيار منذ رئاسة باراك أوباما، وهي الفترة التي بدأت فيها الولايات المتحدة تستشعر خلالها تراجع قدراتها على الانفراد بزعامة العالم. ولأن الولايات المتحدة دولة أمبريالية بامتياز، تشهد عليها حروبها الخارجية المباشرة أو بالوكالة وفبركتها للانقلابات عسكرية في العديد من البلدان، وفي معظم عمرها كدولة حديثة النشأة، ما كان أمامها من خيار آخر سوى أن تقاوم صعود الدولتين بكل ممكناتها المتاحة. ثمة في الولايات المتحدة رأي يوصي باتباع سياسة أكثر ليونة ومرونة مع روسيا الاتحادية لاحتوائها وعزلها عن الصين، وبما يشبه السياسة الأمريكية السابقة مع الصين في السبعينيات من القرن الماضي والتي أدت إلى عزل الصين عن العدو الرئيسي وقتذاك الاتحاد السوفياتي. إلا أن هذا التصور لا في عهد ترامب الذي أظهر إعجابه، لأسباب نفسية، بشخصية بوتين، ولا بالأحرى في عهد خلفه بايدن الذي وصف بوتين بالقاتل، وجد مساندة له من ما يسمى بالدولة العميقة، وعلى رأسها المجمع الصناعي العسكري، ومن دون أن نقلل من أهمية التشنج الأيديولوجي العام الذي تعيشه النخبة الأمريكية النيوليبيرالية المهيمنة، وهي تمر من حالة عصاب جمعي يغذيه انحلال ما كانت تعتقده تفوقا استثنائيا لقوميتها وقيمها. خلاصة ما سبق، أن الموقف الأمريكي في أزمة أوكرانيا لا يمكن عزله إطلاقا عن الاختيارات الاستراتيجية الأمريكية المعلنة قبلها، ولا عن الطبيعة الأمبريالية لنظام الولايات المتحدة. فمقولة الأمبريالية التي جرى طيها بلا سند علمي في زمن العولمة، ليست كلمة فارغة المحتوى، ولا هي شتيمة أيديولوجية، إنها كما كانت ولازالت إحدى المقولات التي ترشدنا إلى المصالح البنيوية الطبقية و (القومية) الخفية خلف المزاعم الأيديولوجية التبريرية الإنسانوية الخيرة.
أما حالة العصاب الجمعي في أمريكا (وفي الغرب الإمبريالي عامة ) فيتجلى في رد الفعل الإنكاري للواقع، لأن قيادات الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها، تعرف أن إقرارها رسميا بالمطالب التي طرحتها روسيا لضمان أمنها القومي، والخروج باتفاقية رسمية تقر بالتوازن الأمني في أوروبا، يعني اعترافها بأن موازين القوى الدولية قد تغيرت، وأن روسيا الاتحادية صارت دولة عظمى لها كلمتها الفاصلة في النظام الدولي المتعدد الأقطاب ، وهذا ما لا يتحمله راهنا العصاب الغربي الإنكاري. غير أن الرياح لا تجري كما تشتهي السفن، ولا حساب الحقل ينطبق دائما على حساب البيدر.
• دعنا الآن نجيب بسرعة على السؤال المنطقي الذي بدأت به. إذ في العديد من التصريحات لمسؤولين أمريكيين كبار ولمحللين غربيين قيل أن الحلف الأطلسي لم يكن في وارده ضم أوكرانيا إلى عضوية الحلف، ولا يسعى إلى ذلك في الزمن المنظور على الأقل، ما دامت أوكرانيا لم تستوف الشروط المطلوبة لذلك، وخاصة لانتشار الفساد فيها، كما جاء على لسان بايدن نفسه. وفي كل الأحوال، لا يمكن للحلف أن يمنع أي دولة من التعبير عن رغبتها في الانضمام إليه. هذا الرد الحربائي لا يريح المخاطب ولا يبعث على نيل ثقته، ولأنه يقدم جوابا ملغوما، فإذا كان ليس من مسؤولية الناتو أن يمنع عن حكام أوكرانيا الحق في طلب الانضمام إليه، فما هي مسؤولية الناتو تجاه السلم العالمي في تقديره لهذا الحق الشكلي، مادام القبول بالعضوية أو رفضها هو من اختصاص الناتو، ولا يتم تلقائيا لكل من أراد العضوية. وهو ملغوم من جهة أخرى، لأنه أبقى على إمكان قبول العضوية في توقيت يرى فيه الحلف أن أوكرانيا استوفت شروط العضوية. إنه إذن رفض مبدئي وكلي لما طلبته روسيا من مفاوضات تشمل عدا حيادية أوكرانيا، إعادة التوازن الأمني في أوروبا بعد أن تخلت أمريكا عن وعودها للقيادة السوفيتية السابقة بعدم تمدد الناتو إلى البلدان المنسلخة عنها. والشطر الآخر في هذا الرد الملغوم، أن لا شيء في حلف الناتو من شأنه أن يثير مخاوف روسيا منه، مادام الحلف قد تغيرت طبيعته بعد الحرب الباردة إلى حلف دفاعي، لا أكثر! والمفارقة هنا، أن هذا التحجج بدفاعية الناتو، الذي تكذبه تدخلاته الحربية في أكثرمن بلد، ينقلب بقدرة سحرية، إلى أن مخاوف روسيا ليست في حقيقتها سوى تطلعات عدوانية إمبراطورية مكبوتة تسعى إلى استعادة ما كانت عليه الإمبراطورية السوفيتية. وهكذا، تنقلب الصورة في الصراع الأيديولوجي التبريري رأسا على عقب، ليغدو الحلف الأطلسي المدجج بكل أنواع الأسلحة حتى الأكثر هجومية وتدميرية منها، والحاضن لثلاثين دولة نصفها من الحزام السوفياتي السابق، هو الحمَل الوديع وروسيا الاتحادية هي الذئب الجائع الماكر.
وهذه الصورة الدائعة الصيت في الحملة الإعلامية العالمية، ودائما في شخص بوتين” الوحش الكاسر الماكر“، تغنينا عن أي تحليل لمصداقية ما إذا كان الناتو حلفا دفاعيا أم هجوميا، لأن الأمر سيان مادام الدفاع أو الهجوم يتطلبان أولا معرفة العدو المحتمل في أي عقيدة عسكرية، والناتو تحديدا لأنه من مخلفات الحرب الباردة ومتمركز على الساحة الأوروبية يضع روسيا بصريح العبارة في مصاف العدو المحتمل. ومادام الانتقال من الدفاع إلى الهجوم مسألة سياسية بالدرجة الأولى ولا يتوقف فقط على نوعية الأسلحة الفائقة القدرة التدميرية لدى الناتو. وفي الجملة، الرسالة السياسية الوحيدة التي يتركها الحلف لروسيا الاتحادية، إما أن تكون طيعة للسقوف التي تحددها لها السياسة الأمريكية (وأتباعها)، كما كانت في عهد” يلتسين“، وإما هي دولة مارقة وعدوانية وخارجة عن إرادة المجتمع الدولي، كما تكرر الولايات المتحدة في جميع الحالات المشابهة.
• يسوقنا التفكيك السابق للموقف الأمريكي الحربائي من الطلب الروسي حول إجراء مفاوضات شاملة للتوازن الأمني في الساحة الأوروبية إلى سؤال آخر: لو كانت الولايات المتحدة راغبة فعلا في إقرار السلام وتجنب الأزمة الأوكرانية القائمة، فلماذا لم تعمل مع حلفائها الأوروبيين، طيلة السنوات السبع الفارطة، على تطبيق اتفاقية “ميسك 2″، والتي قبلت بها روسيا، وكان تطبيقها سيمنع التوتراللاحق ويفتح الطريق إلى ضبط العلاقات الدولية في أوكرانياو يحافظ على سيادتها ووحدتها؟
وللتذكير فقط، فإن اتفاقية (ميسك2) التي تم التوصل إليها وبتغطية داعمة لها من فرنسا وألمانيا ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية، تضمنت أمرين أساسيين: من جهة، وقف إطلاق النار بين قوات الدفاع الشعبي الموالية لجمهوريتي “دونباس” والقوات المحسوبة على الحكم الأوكراني. ومن جهة ثانية، منح منطقتي دونباس حكما ذاتيا نحو نظام فيديرالي للدولة الأوكرانية. ومن بين روايات الاجتثاث الدموي لسكان هذه المناطق، ليس صعبا التيقن ممن كان يهاجم الآخر، لأن القوى المتطرفة التابعة للحكم الأوكراني كان هدفها التعجيل فورا بتدمير الكيانين الناشئين في جمهورية دونباس، وقد أنجزت بهمجية بعضا من هذا الهدف بدليل احتلالها لأغلب المساحة في التقسيم الإداري الأوكراني لمنطقتي دونباس. ولن أدخل في بعض تفاصيل ما حدث في أوكرانيا وما شهدته من انتفاضة ملونة أفضت الصراعات التي تمخضت عنها إلى الاستيلاء على الحكم بالقوة المسلحة (في 2014) وبظهور في الغرب الأوكراني لقوى يمينية متطرفة مستلبة بالهوى الغربي وأخرى ذات ترسبات نازية قديمة، وكلاهما عملا بعدائية شرسة على اقتلاع كل ما يشد أوكرانيا إلى روسيا من انتماء حضاري مشترك. ولقد تمكنت الولايات المتحدة منذ تشكل الدولة الأوكرانية المستقلة من أن تكون لها اليد الطولى في جميع دواليبها واختياراتها. لكل ذلك، وجد الرئيس الحالي المنتخب (زلنسكي) نفسه، وهو القادم بلا خبرة من ميدان الكوميديا التلفزيونية إلى السياسة، سجينا لنظام تم تشكيله على المقاس من بين المكونات السابقة القومية المتطرفة والأخرى ذات الميولات النازية. وكان فوزه في الانتخابات لتعهده أنه سيجثو على الأرض ويمشي على ركبتيه لتحقيق السلام. وما أزعمه من تلك التلميحات الخاطفة لواقع تاريخي وسياسي قائم ومعقد بين أوكرانيا وروسيا، أن الولايات المتحدة الماسكة برقاب الدولة في أوكرانيا لم تسع قط إلى تطبيق اتفاقية ميسك الثانية لتجنيب أوكرانيا ما هي فيه، وهذا ما يفسر لنا أن أيا من المسؤولين الكبار في الإدارة الأمريكية لم ينطق يوما قبل الأزمة بلفظة اتفاقية ميسك، ولا بإمكان اعتبارها قاعدة أولى للحل. ولعل هذه الملاحظة تبين لوحدها كيف أن الولاية المتحدة كانت تريد أن تبقي على النظام الأوكراني كمصدر تهديد وتوثير دائمين لروسيا.
•إذا كان ما أوضحته في المنطق السياسي الأمريكي صائبا، فهل كان توقيت انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مناسبا، بينما كان ” المجتمع الدولي” ينتظر تهدئة مّا ايجابية بفضل المبادرة الفرنسية، وبدعم ألماني لها لعقد لقاء كان قريبا بين وزيري الخارجية الأمريكي والروسي، كمقدمة لعقد مؤتمر تلتقي فيه الأطراف الرئيسة المعنية بالأزمة الأوكرانية، وألم يكن إذن انطلاق العملية العسكرية يدل على تعنت ونية روسية مسبقين لتضييع فرصة السلام؟
في مقالتي السابقة أشرت في توقعاتي المستقبلية إلى أن المجتمعات الأوروبية غير قادرة بعد على أن تكون فاعلة وباستقلالية في بناء النظام العالمي الجديد، ما لم تتخلص من عائقين، أولهما، النمو المضطرد للنزوعات العنصرية الشوفينية في مجتمعاتها. وثانيهما، الوهم الأيديولوجي الذي يسكن كلا منها معتقدة أن تحالفها التبعي للولايات المتحدة هو دفاع عن قيم حضارية غربية مشتركة، بينما هو في الواقع ليس إلا تعبيرا عن مصالح طبقية أمبريالية مشتركة للفئات المهيمنة فيها جميعا، وإذا شئنا الدقة أكثر، ليس إلا علامة أيضا على الهيمنة الأمريكية المالية والاقتصادية والعسكرية على المؤسسات الأوروبية المثيلة المرتبطة بها. وبعيدا عن التوابل التحريضية في الهستيريا الإعلامية، والتي حاول بعضها، وخلال المبادرة الفرنسية، أن يُشغلنا بطول قطر المائدة التي جمعت بين الرئيسين ماكرون وبوتين في موسكو، على أنها صورة تحمل رسالة استصغار لفرنسا ولرئيسها، فإن القيادة الروسية التي توجهت حقا بخطابها إلى الولايات المتحدة أساسا، كانت تدرك جيدا الدور المحدود لفرنسا و لألمانيا والفاقد للفعالية طيلة سنوات الأزمة الأوكرانية المتمركزة وقتها في دنباس. وكانت تدرك جيدا بالأحرى، أن الدول الأوروبية عامة لارتباط أغلبها بالحلف الأطلسي وجميعا بالولايات المتحدة، وكما في جميع الأزمات العالمية الكبرى، لا يمكنها التمرد على القيد الأمريكي. وهذا ما وقع فعلا بعد حين، وعلى الرغم من أن المصالح الأوروبية النظيفة، إذا جاز القول، أي المصالح الموضوعية والعقلانية للشعوب الاوربية، كانت تقتضي من الاتحاد الأوروبي موقفا مستقلا جريئا يخدم مصالح شعوبها. ولذلك أجزم من أن الذي ضيع الفرصة في الحقيقة ليس روسيا الاتحادية بل الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال عاجزا يتخلى في جميع أزمات التحول إلى نظام عالمي جديد عن أن يكون من أحد أقطابه المستقلة.
2
ولا شك في الأخير أن السؤال الذي يدور في أذهاننا ويستحوذ على مشاعرنا، سؤال الآفاق الممكنة لما ستسفرعنه هذه الأزمة المهولة وغير المسبوقة. وسأحاول بأشد اختزال أن أجيب على هذا السؤال، كما أتصوره من خلال المقاطع الاستخلاصية التالية .
أولا: المعضلة المبدئية الملموسة في أزمة أوكرانيا، ليست كما يقدمها الغرب من زاوية نظر وحيدة، أي في ما يعتبره اعتداء على دولة ذات سيادة، بينما هي في الواقع الدرامي الملموس معضلة مزدوجة، بما أن لروسيا الاتحادية أيضا الحق في أن تحمي دولتها وكيانها من التهديد الخارجي للحلف الأطلسي من جهة، ومن النظام الأوكراني الذي وهب نفسه في خدمة الاستراتيجية الأطلسية من جهة ثانية. واذا كان المجال لا يتسع ” للتورط ” في تعقيدات تاريخية لنشأة الدولة الأوكرانية كما هي حدودها اليوم، ومن بين ذلك الأخطاء التي ارتكبتها القيادة السوفياتية السابقة، في رسم هذه الحدود على حساب التراب الروسي، لوثوقية أيديولوجية وحدوية عهدئذ ، فإن ما خلفته حيا من ذلك التاريخ، كإشكالية متفجرة لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها، أن مواطني مناطق دونباس وجزيرة القرم هم بأغلبيتهم الكبيرة روس بالمشاعرالقومية وباللغة و حاليا حتى بالجنسية، سواء قبل الغرب بالاستفتاءات التي أجريت فيها، أم لم يقبل، فلن يغير ذلك شيئا من تلك الحقيقة الصارخة.
وفي هذا الواقع المركب، قد يشعر بعضنا بالحرج، لكن بكل أسى وأسف، لا مخرج آخر، ما دامت الحروب ذات اللون الوطني أو القومي مازالت عنصرا أساسيا في التاريخ البشري، كما هي أيضا الصراعات ذات اللون الطبقي وثوراتها العنيفة أحيانا. وفي الحالتين لا يغير و لا يوقف هذه “السيرورة الموضوعية ” موقف التعفف والإدانة الإنسانوية المجردة، ولا خطاب البكائيات اللاعنة لتاريخ البشرية المطبوع بالعنف في كليته، وإنما المطلوب دائما، في الماضي والحاضر وفيما سيأتي، تحليل تناقضات القوى الفاعلة في الصراع لمعرفة ما تخدمه اتجاهاتها المستقبلية، لصالح التقدم أم لصالح النكوص والتراجع، ومن ثم اتخاذ ما يلزم من مواقف أخلاقية وسياسية في نفس الآن. قال الرئيس بوتن عن العملية العسكرية الروسية ” إنها عملية اضطرارية، فالغرب لم يترك لنا من خيار آخر“. ومن يريد التأكد من صحة هذه القولة تجاه الغطرسة الأطلسية، يمكنه العودة إلى المداخلة الشاملة لبوتن في مؤتمر ميونيخ ( لشؤون الأمن) لسنة 2007، لما لها من قيمة إستراتيجية، تشي رغم مراعاتها للديبلوماسية اللغوية، بكل الهواجس والأهداف التي تتحرك على مسارها الدولة الروسية. و بعد أن بلغت الغطرسة الأطلسية ذروتها في البؤرة الأوكرانية لما بعد 2014 في هذه الأزمة المركبة، بأبعادها العالمية وطابعها المحلي، سيكون الخاسر الأكبر النظام الأوكراني تحديدا، لأنه استهتر بوضعه الجيوبولتيكي، وتوغل في معاداة جذرية لماضيه الحضاري والثقافي وحتى لتكوينه الاجتماعي والإثني، ولأنه انخدع بوعود الغرب، ولم يدرك جيدا التحولات المستجدة في النظام العالمي. وإذا ما تطورت المفاوضات الجارية مع الحكومة الأوكرانية أو مع غيرها إذا ما تشكلت حكومة أخرى لقيادة المرحلة الانتقالية، سيكون من القضايا التي لا تستطيع أي حكومة أوكرانية حاليا التوقيع عليها، الشرط الروسي، بأن تعترف باستقلالية جمهورتي دونباس وجزيرة القرم التي لم تعد في الطرح الروسي واردة في أية مفاوضات قادمة. لكن لا حل أمام أي حكومة أوكرانية، بعدما ضيعت فرصة الحفاظ على الوحدة الأوكرانية خلال السنوات الفارطة، سوى أن تأتي الوحدة في القادم عبر الإرادة الحرة لمواطني دونباس. ومن الواضح أن أفضل صيغة في هذه الحالة هي ربط الحل مبدئيا بالتفاوض المباشر مستقبلا بين ممثلي دونباس والحكومة الحالية أو الانتقالية القادمة.
ثانيا : وفي الواجهة الميدانية انتقل الغرب وجميع أتباع الولايات المتحدة إلى مواجهة تصعيدية وتحشيدية شاملة تتسم بالهستيريا الجماعية، هدفها العزل التام لروسيا الاتحادية على جميع الجبهات والمنتديات الدولية بلا استثناء، حتى أنها طالت على سبيل المثال الثقافة و الإعلام و الرياضة، وهي ميادين تزعم الأيديولوجية الليبيرالية أنها تحصنها بالحرية و قداسة “الموضوعية الحيادية“. ولعل هذه المسألة قد تحتاج منا في مادة أخرى إلى نظرة نقدية أوسع و أشمل لكيف وظفت الليبيرالية مبدأ “الإستقلالية ” عن السياسة و التحزب الذي عممته على أغلب فئات و قطاعات المجتمع المدني، لكي يسهل عليها تدرير مكوناته إلى خلائط فرداوية في العمق، ولكي تحط من المجال السياسي إلى مجرد نوْبات حمى لمطالب ساخنة برغماتية جزئية قادرة النيوليبرالية على احتوائها و ترويضها و تسخيرها. فلنحذر من المبدأ الليبيرالي في الاستقلالية الملغوم ايديولوجيا والكاذب في الممارسة الواقعية. أما في الميدان الآني فالغاية عند الولايات المتحدة و حلفائها من عزل روسيا عن المجتمع الدولي، أو إخراجها منه بتعبيرهم إطالة الأزمة إلى أقصى حد ممكن لتحويل أوكرانيا إلى ساحة اقتتال واستنزاف لروسيا، وهذا ليس إلا امتدادا لنفس الهدف الأصلي لسياسة الولايات المتحدة في أوكرانيا، ولاستراتيجية الحلف الأطلسي وتريثه المخادع في إدماجها مباشرة في الحلف كي يصل إلى مبتغاه من دون أن يتورط في مجابهة عسكرية حتمية. وفي هذا الصدد شهدنا ” السخاء الحاتمي” الغربي المالي منه والتسليحي لدعم صمود الحكم الأوكراني، و يداعب مخيالهم الجمعي استنساخ تكرار تجربة ” مجاهدي أفغانستان ” في العهد السوفياتي بما يسمونه ” الفيلق الدولي ” لمقاتلة الجيش الروسي على الأرض الأوكرانية. وحتى إن تغاضينا عن تحليل دلالات هذا الخيار في علاقته بانتشار الإرهاب الدولي، ومسؤولية أمريكا فيه، فإنه رهان فوضوي مغامر ومجهول العواقب والارتدادات الوخيمة وخاصة على أوروبا والتي لن تدوم فيها طويلا هذه الحماسة القومية الشوفينية العمياء.
ومن بين كل أوجه التصعيد الهستيري لعزل روسيا عن المجتمع الدولي، أخص منها العقوبات الاقتصادية والمالية المتتالية من أغلب بلدان التحالف الغربي. ولأنها لا زالت في بدايتها الإجرائية، ربما يصعب حتى على المحللين المختصين في الشؤون الاقتصادية والمالية أن يقدموا لوحة شاملة دقيقة ومتكاملة لمفاعيل أضرارها المتبادلة من جهة على الغرب والأوروبي منه خصوصا ومن جهة ثانية، على روسيا الاتحادية، ومن جهة ثالثة، عل مجمل الاقتصاد العالمي. وما يهمني هنا ليس حساب تلك الأضرار الكمية المتبادلة هنا وهناك، وإنما التذكير بما هو أبعد من ذلك في المسائل التالية: أولا، إن العقيدة الليبرالية، واستطالتها النيوليبرالية الأشد فظاظة تقوم على تحريم تدخل الدولة لفرض خيارات من خارج ميكانيزمات السوق والتجارة الحرتين. ولجوء الدول الرأسمالية الكبرى إلى العقوبات هو أكبر دليل على أوهام العقيدة نفسها، وأكبر دليل على أنها لم تعد قادرة على مواكبة تطور العولمة التي أنتجتها، وبما هي أيضا علامة فاصلة على أنها تعاني أزمة تقهقر لا أزمة نمو. وثانيا، لقد أثبتت تجارب العقوبات على مختلف البلدان الخارجة عن الطوع الأمريكي أنها كانت سياسة فاشلة لم تحقق أيا من أغراضها لا الاقتصادية ولا السياسية بل هي تسوق الى الانتباه أكثر لعلاج ثغرات التبعية للخارج في التنمية المحلية، ما دامت إرادة التحرر الوطني هي الأساس. وأحسب أن روسيا الاتحادية، بشهادة العارفين بشؤونها قد هيأت نفسها مسبقا للتقليل من أضرار العقوبات عليها، وللصمود في مواجهة ضراوتها لا سيما وأنها تحوزعلى أوراق حاسمة في الحرب الاقتصادية والمالية (الغاز والبترول والقمح والأسمدة، وبعض المعادن الضرورية لصناعات إستراتيجية) كما لها ثرواتها ومؤهلاتها الأخرى في أكثر من مجال. ولها تحالفاتها الدولية الوازنة لكي تلتف على العقوبات الاقتصادية والمالية عليها.
ثم إن إفراط الولايات المتحدة في استغلال تحكمها في المنظومة المالية العالمية بالعقوبات، سوف يرتد عليها في المدى المتوسط والبعيد، لما سينميه لبدائل مضادة تحرر الدول من تبعيتها لتلك المنظومات ولمركزية الدولار في التعاملات المالية. وهذا اتجاه أخذت به روسيا والصين وبلدان أخرى وهو يؤشر إلى أن النظام العالمي المتعدد الأقطاب لا يقتصر فقط على تراتبية رقمية في الهرم الاقتصادي العالمي، بل ينطوي بالضرورة على تغيرات هيكلية في المنظومة المالية العالمية، عدا عن ضبطه للتوازنات السياسية ووقفه لفوضى ديكتاتورية العقوبات الانفرادية ما لم تصدر عن جهة دولية شرعية وبضمانات قانونية عادلة.
ثالثا: وكما كتبت في المقالة السابقة، لا زالت الولايات المتحدة تدفع بالصراع على المستوى الدولي مع الصين وروسيا والدول القريبة منهما، إلى انشقاق عمودي كامل الأركان بنفس المستوى الذي كان عليه في الحرب الباردة مع المعسكر السوفياتي سابقا. وقد يبدو في أول نظرة، بعد دخول الأزمة القائمة أسبوعها الثالث، أن الولايات المتحدة قد أنجزت في هذا السبيل تفوقا سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا ملحوظا، يأتي في مقدمته، أنها استعادت لحلف الناتو عنفوانه بعدما كان، بعبارة الرئيس ماكرون، على سرير الموت البطيء. واستطاعت أن تجعل من الدول الأوروبية والرأي العام الغربي، ومن حلفائها الآخرين، يصطفون وراءها بلا تردد. كما حصدت في المحافل الدولية أرقاما قياسية توحي وكأن ” المجتمع الدولي ” بأغلبيته أوركسترا تعزف على نفس النغمات الأمريكية. لكن هذه الانجازات النسبية، وهي ذات طبيعة دبلوماسية أساسا تريد أمريكا أن تذهب بها متماسكة إلى الأمد الطويل، غير أنها ستظل رهينة لما ستسفر عنه المعركة في الميدان الأوكراني أولا، ولتفاعلات الأضرار المتبادلة من العقوبات وخصوصا على القوى الرئيسة في هذا الصراع، وهي متشابكة المصالح في ما بلغه النظام الاقتصادي المعولم ثانيا، و للتحولات المضادة الأكثر قيمة جيوبوليتيكية، و منها استكمال الاتفاق النووي لصالح إيران في الأغلب، و استعادة القوى اليسارية التقدمية لدورها الريادي في أمريكا للاتينية و للوزن البشري و الاقتصادي للدول التي لم تساير أمريكا في موقفها من روسيا الإتحادية. و في هذا السياق لابد من التشديد على أن العملية العسكرية الروسية جاءت بُعَيد لقاء الرئيسين الصيني و الروسي, و البيان التاريخي الأول من نوعه الصادر عنهما, و الذي أوضح بجلاء تام القواسم الكبرى المشتركة التي سيعملان عليها نحو نظام عالمي جديد. و كان تصريح وزارة الخارجية الصينية مؤخرا ردا على التأويلات المضللة لموقف الصين من أزمة أوكرانيا بقوله, العلاقة بين الصين و روسيا متينة كالصخر. لاسيما وأن المعركة العالمية القادمة القاصمة لظهر النظام العالمي ستدور حول مصير جزيرة تايوان الصينية وزمنها يزداد قربا. ومن هنا يبدو لي أن الدفع بالصراع الدولي إلى انشقاق عمودي طويل الأمد، يكاد يكون مستحيلا للتوازن الجدي بين القوى الرئيسة وللتقلبات المحتملة أيضا. ولأني أستبعد تماما الانجرار إلى حرب عالمية ثالثة، فإن مآل التصعيد العمودي سيكون حتما أزمة اقتصادية عالمية مدمرة للجميع وفوضى اجتماعية في كل مكان. لا مناص اذن من تسوية قادمة ستكون خطوتها في ما تسفر عنه الأوضاع في أوكرانيا، وهي في الأغلب لصالح روسيا. وخطوتها الثانية، بعد فترة ما ساخنة ومعارضة للخطوة الأولى، تسوية للتوازن الأمني في أوروبا، لأن هذه الأخيرة في تقديري هي الأكثر عرضة لتحمل الارتدادات الضارة بأمنها واستقرارها واقتصادها، كلما استفحل الصراع على أوكرانيا، وكلما زاد تشابكا مع الصين أيضا، وحتى لو افترضنا أن أوروبا ” وهي عازمة على ذلك ” نجحت في التخلص من حاجاتها للمورد الغازي الروسي بالطاقة البديلة أو باستيراد مكلف من بلدان أخرى، فالزمن المطلوب في هذا الافتراض له كلفته السياسية و الاقتصادية هو الآخر . وسأتغاضى عما سيكون عليه حال بلدان الجنوب، اذا ما استفحل الصراع الدولي في أوكرانيا، خاصة منها تلك الأكثرية التي لا حول لها ولا قوة في هذا الصراع، لكي أنبه فقط إلى أن التردي الراجح لأوضاعها الاقتصادية يجعلها عرضة إما لفوضى اجتماعية وإما لراديكالية في اختياراتها وانحيازاتها الدولية. وفي أحوالها جميعا، ستضيّق على القوى الرئيسة هوامش منا ورائها وتضطرها إلى تخفيض سعارها الاستراتيجي. ولعل العبرة الأخيرة المستخلصة من هذه الأزمة الأوكرانية، أن الاستخفاف بالأبعاد الجيوبوليتيكية في أي بلد، بما هو استخفاف بأحكام التاريخ والجغرافيا، ينقلب بالضرورة إلى مآس في العاجل والآجل ولا يأتي إلا بالتخلف والفتنة. وتلك هي مصيبتنا الكبرى المزمنة على امتداد الساحة العربية من أقصاها إلى أقصاها.