
شيء من تناقضات النظام الدولي

في ختام المقالة السابقة، طرحت السؤال التالي : هل ستحرر الصراعات الدولية الجارية الحركات الاجتماعية في الغرب والدول المستقلة في الجنوب والشرق ، وهل ستساعدهم على إستعادة وهجهم السابق ؟ لن أهتم في هذه المقالة إلا بطرفي الصراع الرئيسين، الولايات المتحدة )وحلفائها) من جهة، والصين وروسيا الاتحادية من جهة ثانية، وعلى نفس المنهجية التي إتبعتها سابقا في التذكير ما أمكن بالمنظور الاشتراكي في ما يطرح.
آراء أخرى
1
وبالعودة إلى سؤالي السالف، فمن المفيد البدء بما كانت عليه في الماضي الرؤية الاشتراكية لعصرها وقتذاك، والذي كانت تصفه بعصر ” الانتقال إلى الاشتراكية”. ولربما ما زالت شهادة جان بول سارتر تتردد على مسامعنا بين فينة وأخرى، وهو القائل ” الماركسية هي الأفق الأيديولوجي لهذا العصر” . وهي شهادة كما نعرف لفيلسوف وجودي كبير، لم يكن على تناغم مع جميع المعايير الماركسية كاملة، ولكن شهادته كانت إلى حد كبير تعبيرا عن روح العصر وقتها. فهل مازال نفس التوصيف ممكنا؟ ولكي لا نخوض في نقاشات لا حدود لها، ستطال البناء النظري للاشتراكية ومسارها التاريخي، فإني أُفضل طرح السؤال الافتراضي التالي: في رحلة الثورة الاشتراكية من الغرب المصنع ، كما كان يتصور المؤسسان، إلى الشرق المتخلف بوجه عام، وبالمقارنة مع ما كانت عليه البلدان الرأسمالية الأوروبية في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمعول على ثورات اشتراكية متزامنة فيها، لما لها من قوى إنتاج وطبقة عاملة وحتى مجتمع مدني حديث، سيكون السؤال : ألم تستوف البلدان السوفياتية مجتمعة تلك الشروط الموضوعية ،بعد المنتصف الثاني للقرن العشرين، لكي تنتقل أنظمتها مجتمعة ومتشاركة إلى نظام أقرب إلى المواصفات الاشتراكية الحقة ، وهي لم تمر من نفس المرحلة الرأسمالية التقليدية التي كانت عليها أوروبا وراهن عليها المؤسسان وانتظرها الاشتراكيون؟
سؤالي الافتراضي هذا يختزن العديد من الدلالات الراهنة، سأختزل منها:
أولا: إذا كانت الدينامية التاريخية قد حسمت في أمر هذا الإمكان، بانهيار ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي، فإنها قد أنتجته كإمكان للتقدم أنجز في وقت وجيز، وبفضل الثورة الروسية، وبغير الطريق البرجوازي الرأسمالي التقليدي ، أغلب المعايير التي كانت تحتاجها للخروج من التخلف.
وثانيا: ما يهمني في هذا التذكير الذي أُشبع تحليلا، أن السردية النقدية الاشتراكية إلى اليوم، أبخست أيديولوجيا ” رأسمالية الدولة “، مع أنها كانت الطريق الموضوعي المتاح أمامها لتهديم أسوار التخلف، بعدما ذبلت إمكانيات الثورة الاشتراكية في الغرب.
ومن الضروري الإشارة هنا ، إلى أن ” لينين ” قائد الثورة، لم يكن يخجل في مرات من توصيف طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي في الاتحاد السوفياتي على أنه “رأسمالية الدولة ” مع إصراره على الطبيعة البروليتارية الاشتراكية للسلطة، وتشديده على اليقظة تجاه خطر البقرطة الداهم والحرص على إنماء الديمقراطية السوفياتية، والحذر من نمو مفرط للرأسمالية خلال إقراره سياسة النيب، و التي كان منطقه يراها لمرحلة طويلة انعاشا و حفاظا على التحالف الاستراتيجي مع الفلاحين، ومع توسيع تدريجي ممكن لمجالاتها الرأسمالية بغرض تنشيط سوق ضمرت و بلغت الحضيض من جراء الحرب الخارجية و الداخلية معا. ولم تكن صدفة أنه ركز في هذه المرحلة الأخيرة من حياته على تحديث الثقافة المجتمعية ضدا على البلترة الثقافية اللفظية. ولا أريد المضي في تحليل أشكال رأسمالية الدولة في الغرب و الجنوب والشرق ، ومنها رأسمالية الدولة الستالينية، و كذلك منها التي شكلت انتقالا صريحا نحو الرأسمالية وتلك التي تخدم التحرر الوطني والتحديث المجتمعي بأفق اشتراكي. والصين اليوم مازالت على هذا الطريق الأخير. وأما ما كنت أروم إليه ليس أكثر من التشديد على النظر لرأسمالية الدولة كواقع تاريخي لا مناص منه لهدم أسوار التخلف ، ومن تم بناء تصور نظري أكثر واقعية لعلاقتها بالأفق الاشتراكي، وبالدمقراطية الليبيرالية أو الشعبية. والاشتراكية في أصولها النظرية كما نعرف لم تقدم إلا خطوطا عريضة، وبرنامجا أدنى تخطاه الزمان. ولذلك سوف تبقى أنظمة مفتوحة على تجريبية متنوعة وصولا إلى بناء نظريتها العامة لاقتصادها السياسي.
وثالثا : وينجم عما سيق سؤال أخر، هل تاريخ التطلع إلى الاشتراكية في رحلته إلى الشرق بدل الغرب الصناعي المتقدم ، استنفد ماله من طاقات، وعادت الرحلة إلى سويتها الطبيعية في صعودها الحلزوني إلى الغرب من جديد؟
الشيء الملموس على الأقل، أن ما كان يسمى ببلدان العالم الثالث مازالت بالتعبير اللينيني ” الحلقة الأضعف ” في النظام الرأسمالي الأمبريالي العالمي، المسمى اليوم بالعولمة. إن ما نحسبه من عناصر تخلفها : غياب الدمقراطية السياسية والاجتماعية معا ، وبالتلازم مع حاجتها الملحة إلى تنمية وطنية مستقلة ، وبحثها الدائم عن التحرر من أثقال الأمبريالية عليها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا هي نفسها في ديناميتها الاجتماعية المتواترة، ما يجعلها بؤرا ملتهبة ودائمة تهدد النظام الامبريالي في ركائزه الأساسية. وبكلمة وجيزة، إن الجماهير الشعبية الأوسع في هذه البلدان هي الأقل استيلابا في نظام العولمة هذا، لأنها الأكثر تضررا منه، وليس لها ما تخسره فيه. فهل الصراعات الدولية الجارية تزيد من هذه الفرص وهذا الدور؟ ذاك ما سنراه في الآتي.
2
بعد أن توارى توصيف العصر بالتحول نحو الاشتراكية، سادت توصيفات أخرى، ومن أهمها: إما العولمة، وإما ما بعد الحداثة، وإما عصر الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والتواصلية. جميع هذه المفاهيم تطرقتُ لها بشكل أو بآخر في المقالات السابقة وفي علاقتها بالاكتساح النيوليبيرالي. وإذ أضحى من سمات العصر الأساسية، أنه يضاعف الاستيلاب المعمم وكأن الثورة التكنولوجية المتسارعة بدل أن تزيد من قدرات الإنسان على التحكم العقلاني في مصائره، تسلب منه هذه الماهية في بناء حريته. وما يتغول في الحقيقة هو الضياع و اللاأدرية الأيديولوجيان. ولا شفاء من مرض العصر المزمن هذا سوى بعودة الأيديولوجيا الإنسانية الاجتماعية والتحررية إلى مكانتها الريادية، وإلا فالفوضى والهلاك هما القادمان.
هذا التشديد الأعم يقودني إلى إفراز بعض الميولات المتناقضة في الوضع العالمي الراهن :
أولها : لا يزال عامل التفوق في القوة، بكل معانيه الشاملة ، هو العامل الناظم والحاكم في العلاقات الدولية. ولا يغير من هذه الحقيقة المباطنة، وجود مؤسسات وقوانين دولية تحث على احترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها ، وتدعو الى حل النزاعات بما يدعم السلم العالمي ويقوي من أفاق التعاون على جميع الصعد ولما هو في صالح التقدم البشري . جميع هذه المظاهر من مؤسسات وقوانين دولية خاضعة في نهاية التحليل لتوزيع تناسب عناصر القوة في المنتظم الدولي.
ليس من الضروري تقديم كشف حساب لما عليه العلاقات الدولية وأعطابها البنيوية في أدوار مؤسساتها الممثلة بهيئات الأمم المتحدة، إذ كل ما أريده أن الذي ما زال يحكمها جميعا ليس إلا تناسب عنصر القوة والذي ازداد الإفراط في استعماله من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، بعد انهيار نظام القطبين الذي كان عليه العالم بعد الحرب العالمية الثانية .
ولا أرى في ذلك تكرارا لبديهية يعرفها الجميع، لأن من يحلل الخسارات التي لحقت بالقضايا العربية مثلا، يدرك بسهولة أن التخلي عن بناء عناصر القوة الذاتية الجماعية ، والاستعاضة عنها بالاصطفاف الفردي مع أعدائها، تعويلا على شرعية دولية تكاد تكون سرابا، هو أصل الداء فيما لحق تلك القضايا من خسارات وكوارث متلاحقة.
وثانيها : إن الصراعات الدولية تتفاعل على مقربة من عالم متعدد الأقطاب. ولعل هذه الخاصية أهم ايجابية في جدلية النظام العالمي القائم. وقد تحتاج للتعريف بها إلى توضيح موجز للمفاهيم الثلاثة التالية: العولمة، والنظام الرأسمالي ، والنظام الدولي المتغير حاليا. النظام الرأسمالي بكل أطواره وأشكاله المختلفة قديم وسابق عن العولمة المعاصرة. بينما لا تشير العولمة الحديثة إلا إلى التداخل النوعي الذي طرأ على الأسواق الوطنية في النظام الاقتصادي العالمي وعلى قاعدة ما تحدثه الثورة التكنولوجية المتلاحقة من تغيرات جعلتها أكثر انشدادا لبعضها ، ما عدا ما نعرفه عن “سوق العمل” الذي بقي محجوزا و مثار قوانين قومية ممانعة و اديولوجيات شوفينية . أما النظام الدولي فهو يعتني بدراسة اتجاهات العلاقات الدولية وما تسفر عنه من نزاعات أو تعاقدات أو مصالح تبين في النهاية التغيرات التي تحدث على أدوار المؤسسات والقوانين الدولية. وفي تصوري، بقدر ما هناك ترابط صميمي بين المفاهيم الثلاثة السالفة، بقدرما هناك حاجة أيضا للتمييز المنطقي المجرد بينها، وان كان الواقع التاريخي الملموس، أو العملي، يقدمها جميعا كوحدة بنيوية متراكبة، لكنها متفاوتة أيضا. كان دافع هذا التوضيح الخاطف, أن التعاريف التي تُدغم بين المفاهيم الثلاثة توحي وكأن من هو ضد العولمة النيوليبيرالية هو أيضا ضد العولمة من أساسها ويدعو إلى التخلص منها بالعودة إلى اقتصاديات قومية أو وطنية مغلقة على ذاتها. بينما من المفترض مبدئيا أن العولمة ستتواصل أكثر فأكثر حتى وإن تغيرت مضامينها الاجتماعية ونظامها الرأسمالي، لأنها في جميع الأحوال تُمثل الحصيلة المادية والثقافية عن التقدم الحضاري للبشرية ، إلا إذا واجهاتها مقاومات همجية تعيد تاريخ البشرية إلى الوراء، وإذا ما بقي للإنسان حياة بعدها . وليس من جديد في أن المنظور الاشتراكي كان حافزه منذ أصوله الأولى تصوره العالمي للتحرر الإنساني. هكذا كان عندما نادى ب ” يا عمال العالم اتحدوا ” والى صيحته الثانية “ياعمال ويا شعوب العالم، اتحدوا !
3
بعد تلك التوطئة الإطار، أنتقل لتقديم استخلاصاتي العريضة من قراءتي لبؤر النزاع بين القوى الرئيسة في النظام العالمي. وهي كالتالي:
أولا: أول ما يجذب نظري في الصراع الأمريكي ( الغربي) لتحجيم تصاعد الصين وروسيا الاتحادية، الغموض الذي مازال يكتنف طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي الصيني: أهو بلد رأسمالي أم اشتراكي؟ والى أي منهما يتجه؟ قد تكون الصورة واضحة في روسيا الاتحادية، والتي وجدت قيادتها الراهنة نفسها أمام تركة تجذرت لرأسمالية رثة، بيعت خلالها روسيا ، اقتصادا وسيادة، بأبخس الأثمان في زمن الثورة المضادة للرئيس ” يلتسين”. ولأن القيادة الروسية الحالية مازالت تعاني و تُقوِّم تلك المخلفات المشوّهة لبنياتها الاقتصادية والاجتماعية والتي عادت بروسيا الاتحادية إلى وضعية باتت تعتمد في الأولوية على منتوج واحد ( الغاز والبترول) ، و بينما هي تملك جميع القدرات الصناعية والزراعية و التكنولوجية والملكات المعرفية و العلمية لتغيير هذا الاختلال المتبقي في نسبة توازنات انتاجها القومي الإجمالي . وحيث انها تستفيد أيضا بذكاء استراتيجي، وهي البلد النووي والعالي القدرات التسليحية الحديثة، من استعادة وترسيخ مواقعها الجيوبوليتكية المتنامية على الساحة الدولية، ولصد المحاولات الأمريكية الهجومية لوقف تمددها الدولي، ولعزلها أولا عن الغرب الأوروبي عبر تطويقها بالحلف الأطلسي،و ثانيا لمنع تحالفها مع الصين. ومن ذلك، الأزمة الساخنة والمفتعلة ضدها في أوكرانيا، ومحاولات زعزعة الاستقرار في بلدان خاصرتها الأضعف في أسيا الوسطى (مثال كزخستان) و قبلها لحليفها الأقوى في بيلاروسيا. وافتعال الأزمة الخطيرة في أوكرانيا جلية دواعيه ما دام الحل المستقر قد مهدت له الاتفاقية السابقة ( منيسك ) و التي لم يلتزم بها النظام الأوكراني القائم . ومن أساليب العزل عن أوروبا الغربية، الضغط الأمريكي على ألمانيا لكي تعلق العمل بمشروع “السيل الشمالي “الذي يمد أوروبا بالغاز الروسي الذي تحتاج إليه، ناهيك عن العقوبات الاقتصادية التي فرضت على روسيا، والإجراءات الدبلوماسية العدائية المتخذة من قبل بعض البلدان الغربية…. فضلا عن التحرشات العسكرية الاستفزازية و الحملة الإعلامية المسعورة ضد ما تخشاه و تتوهمه من إحياء لأطماع امبراطورية يحن اليها النظام السياسي الروسي المستبد في تصورها, و خاصة لنوعية شخصية الرئيس بوتن.
لكن جميع تلك الهجومات الأمريكية، الضارية في الظاهر، يراد منها في الحقيقة أن تخفي التراجع المؤكد لقدرات الولايات المتحدة، إذ ليست في النهاية إلا تكتيكا هجوميا لوضعية استراتيجية تراجعية و دفاعية بالضرورة ، غايته الرئيسة احتواء روسيا ما أمكن، وهي لا تستطيع ابتلاعها أو ترويضها. ولذلك تتهرب امريكا من الإقرار بالضمانات الأمنية الاستراتيجية كما تطرحها وتشترطها بحزم روسيا الاتحادية على إثر أزمة أوكرانيا المفتعلة. و ذلك لأن الإقرار بتلك الضمانات سيكون أول اعتراف صريح من الولايات المتحدة يشهد على تراجعها ويرسّم للتعددية القطبية في النظام العالمي الجديد. فماذا اذن عن الصين المعتبرة في الاستراتيجية الأمريكية الخطر الأول على هيمنتها العالمية؟
كثيرة التحاليل الاختزالية لطبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي في الصين والمقرونة غالبا بدمغ نظامها السياسي على أنه استبدادي تنعدم فيه الحريات الديمقراطية لدرجة التصفيات العرقية لمسلمي الايغور و عدا المظاهر الأخرى في التيبت و هونكونغ…و بعض الدراسات الغربية الأخرى تصور التقدم الهائل و السريع للصين و كانه ” نمر من ورق” , لأنه قام في مجموعه على الشركات الامريكية أساسا , فلو افترضنا انسحابها, فان النموذج سيتهاوى فورا. وأنا لا أنكر التعارضات الاجتماعية التي مازالت تتفاعل في النظام الصيني،و لا أنكر دور الرأسمال الأجنبي في الاقتصاد الصيني ، إلا أن لا هذا ولا ذاك يدعم الصورة الاختزالية والمشوهة التي تقدمها التحاليل الغربية عن الصين ، وهي في جميع الأحوال واجهة أخرى من وجوه الصراع العالمي نفسه.
وما أراه في الجملة، أن النظام الصيني في تركيبته العامة، لم يخرج عن المسار التاريخي لتقدم البلدان المتخلفة الذي دشنته الثورة الروسية، أو بالأحرى، وجدت نفسها فيه واستوعبته التجربة اللينينية تحديدا، بعد أن تأكد لها أفول الثورة الاشتراكية في الغرب. إن التجربة الصينية بعد الاصلاحات الكبرى الأربعة هي نسخة أخرى لرأسمالية الدولة الأقرب والأوسع لما بدأه لينين في سياسة النيب، وللمنهجية التي انطوت عليها، وعلى النقيض من النموذج الستاليني الإرادوي ذي التكلفة البشرية والاجتماعية العالية بعدها. ويبقى أن ما يجمع بين الحالتين السوفياتية والصينية قيادة الحزب الشيوعي للنظام السياسي فيهما. صحيح، أن الواجهة الأيديولوجية لم تعد تتصدر هوية النظام في معمعان الصراعات الدولية كما كانت التجربة السوفياتية، ولاهي حتى في الداخل الصيني المضخة الكبرى للتعبئة الوطنية، بقدر ما خفتت وتوارت لحساب برامج المصلحة الوطنية المرحلية “البرغماتية” (على نغمة ما يردده بعض القادة الصينيين : لا يهم أن يكون القط أسودا أو أبيضا، فالمهم أن يصطاد الفأر) ، وصحيح ان هذا الخفوت الأيديولوجي إنطوى أيضا على توظيف أكبر للموروث الأخلاقي الجمعي الكنفشيوسي,و لعله توظيف تراثي مستحب , إلا أن التراث الشيوعي للحزب يستمر هو نفسه الضابط الأخير لهوية الحزب ولمرجعيته في اختياراته الاجتماعية والسياسية و حتى الثقافية.
وهذا ما يتغافل عنه من يطابقون بين رأسمالية الدولة بقيادة حزب يستمد مرجعيته من الاشتراكية وبين نظام رأسمالي تقليدي أو نيوليبيرالي. وان ذكّروا بشيوعية الحزب في الولايات المتحدة خصوصا، ذات التقاليد المكارتية ضد الشيوعية، فللتهويل والشيطنة في الحرب الأيديولوجية ضد الصين.
وإذا سلمنا جدلا، أن القطاع الخاص الوطني والأجنبي، قد تعاظم دوره ومكانته الاجتماعية، نحو أربعين في المائة من مجمل الإنتاج الوطني كما يقول البعض، فالدولة استمرت هي الموجهة والضابطة للمسارات الاقتصادية والاجتماعية، لا بالتخطيط وسن القوانين المدروسة وحسب، وإنما أساسا لغلبة القطاع العام وتفوقه على سواه في مختلف المرافق الإستراتيجية وأخص منها، النظام البنكي ولومع وجود لأبناك فرعية أجنبية , وكذلك في المجال الزراعي وإن سمح بالتأجير وليس بالملكية أو المضاربة.
غلبة دور الدولة اذن في تحمل أعباء التنمية هو الذي يحدد توصيف النظام برأسمالية الدولة، وقيادة الحزب الشيوعي لها هو الذي يسمح مبدئيا بتوصيفها ” ذات الأفق الاشتراكي” ، وكما هما في الخصوصية الصينية، فان معايير الأفق الاشتراكي يتصدرها في هذه المرحلة إخراج الأغلبية الكبيرة في بلد كثيف السكان من وضعية الفقر المدقع التي كانت تعيشها إلى وضعية الإدماج في الاقتصاد العصري الجاري بناؤه, ومع توسيع مضطرد للحمايات الاجتماعية المادية الملموسة لكافة الشغالين,و لتحسين مستويات المعيشة الكريمة لكافة الطبقات الشعبية. وفي هذا المنحى حققت الصين انجازات كبرى، تمكن من عقد مقارنة بينها وبين الهند ذات التوجه الرأسمالي التقليدي في أي منهما يحمل هذا الخيار الاجتماعي ويحقق انجازات متسارعة فيه، وأظن أن النتيجة هي لصالح الصين بلا أدنى ريب .
وفي الخلاصة العامة: لقد أنجزت الصين خلال ما يربو عن سبعين سنة ونيف، وأقلها عقودا من النهج الإصلاحي، ما أنجزته الرأسمالية الغربية عبر قرون من التراكم العنيف، والذي لم تفارقه قط الحروب والاستعباد لشعوب أخرى. ولقد استطاع هذا البلد الذي لم يحتل غيره يوما، أن يهدّم أسوار التخلف، وأن يدفع بأكبر أمة إلى صدارة العالم. والجوهري في كل ذلك، أن الصين وطنت ذاتيا مقومات المعرفة والثورة التكنولوجية، عداعن حفاظها على نسبة نمو مازلت هي الأعلى من بين الاقتصاديات الكبرئ ، ولو في ظل جائحة كورونا التي أضرت باقتصاديات العالم، والتي خرج منها المجتمع الصيني المعروف بروحه الانضباطية وتفانيه في العمل، وهذه خاصية أنتروبولوجية موروثة لدى بعض بلدان هذا الجناح الأسيوي الشرقي( وبدون الحاجة الئ أفضليات البروتستانية كما تصورها العالم ” فيبر” )…نعم، لقد خرج المجتمع الصيني من هذه الجائحة بأقل الأضرار، والدولة كانت تواجه في آن واحد استفزازات وتحرشات الولايات المتحدة والحرب الاقتصادية المعلنة عليها .
في هذه المعركة المفتوحة التي شنتها الولايات المتحدة على الصين لفرملة تقدمها لصدارة العالم، وقد عبأت لذلك ما تستطيعه من عناصر القوة لديها، سواء بتحريك أساطيلها الحربية في شراكة مع بريطانيا وأستراليا في المحيط الهادي وبالعمل في نفس الوقت على النفخ في الخلافات مع بعض الدول الجارة للصين والمطلة على بحرها الجنوبي، وسواء بفرض رسوم جمركية عالية على مستوردات صينية إليها، وبشن حملة مركزة لإضعاف وتأخير السبق التكنولوجي للجيل الخامس الذي شرعت فيه شركة هواوي، ومع الضغط على العديد من الدول لعرقلة وتقطيع شبكة مشروع “الحزام والطريق” الذي سيمتد لأزيد من مائة دولة في أغلب القارات…وأخيرا وليس آخرا، توظيف ورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان كما كان الحال مع الاتحاد السوفياتي سابقا. ولعل أخطر الاستفزازات بعد الشحن الدولي لتسخين الفتنة في هونكونغ اللعب بورقة تايوان التي تحرص الصين بكل صرامة على إعادة توحيدها مع الوطن الأم.
جميع هذه المعارك الأمريكية لا أفق لها، ولعدة أسباب: منها أن الصين قد أضحت وبلا رجعة قوة عظمى على جميع المستويات.وهي أمة عريقة متماسكة تاريخيا على غير ما كان عليه الاتحاد السوفياتي من تجميع ل15 دولة قومية سهلت انحلاله الداخلي. ومنها ، أن الوضع الداخلي للولايات المتحدة في أعلى درجات تناقضاته المجتمعية على الرغم من أن غالبية النخبة الحاكمة من الديموقراطيين والجمهوريين لها نفس الموقف العدائي من الصين وروسيا الاتحادية، لكن تقاليد المزايدات السياسية الانتخابوية الليبرالية تظل هي الطاغية على نظامها السياسي.
ثم إن الحقيقة الموضوعية التي لا يستطيع أن يتجاهلها إلا مغامر من طراز هتلر، أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل تكاليف وأعباء توسعها الامبريالي في العالم، وما هزيمتها المدوية وانسحابها المذل من أفغانستان، بعد احتلال طويل، إلا علامة واحدة بارزة في هذا الشأن الذي أصاب هيمنتها الدولية وهيبتها في الصميم.
ومنها أيضا، أن التطورات الحاصلة في العولمة من اعتماد اقتصادي متبادل واستبعاد للحروب الكبرى بين دول عظمى يحدان من التمادي المفرط في سياسات التوتير والإقصاء والعزل بلا جدوى. ولعل حجم العلاقات التجارية والاستثمارية بين أمريكا والصين، والذي يعادل أو يزيد عن حجم المبادلات مع دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة ، خير مثال على هذا الاعتماد الاقتصادي المتبادل. ولذلك تتضاءل الفائدة المرجوة من العقوبات الاقتصادية والحروب التجارية بينهما مادام الضرر الكبير سوف يصيبهما معا . ولا ننسى أن الاقتصاد الأمريكي يعيش على الاستدانة الدائمة والمرتفعة، وللصين دور مؤثر في شراء سندات الخزينة لتمويل العجوزات المالية المتتالية للولايات المتحدة.ولا يخفى على الملاحظ المصلحة المتبادلة في هذا الشأن
كل ما سبق لا يعني أن الولايات المتحدة ستفقد جميع ما لديها من عوامل القوة، ولا يعني بالأحرى أنها ستنكفئ على نفسها متخلية عن نزوعها الأمبريالي المتأصل في تاريخها وثقافة نخبها الحاكمة. فللولايات المتحدة أوراق قوة أخرى لا تعادلها بعد لا الصين ولا روسيا الاتحادية حتى ولو استقر نسبيا نضام دولي متعدد الأقطاب. وأشير هنا إلى تحكمها في النظام المالي العالمي على قاعدة أن الدولار عملته الرئيسة. والى ارتهان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحتى منظمة التجارة العالمية إلى خيارات الولايات المتحدة أساسا مما يكسبها نفوذا عالميا، وخاصة تجاه دول الجنوب.ومنها تحالفاتها الدولية المتعددة في القارات الخمس، لا سيما مع دول الاتحاد الأوروبي، رغم بوادر الاستقلالية الطفيفة التي تظهر بين حين واخر، وهو تحالف من دول متقدمة( إضافة لكندا واستراليا وبريطانيا واليابان و كوريا الجنوبية) لا تبتعد كثيرا عن قيادة الولاية المتحدة وخياراتها وله ذراعه الحربي (الناتو) تحت إشرافها. بينما لم يتشكل بعد تحالف استراتيجي مقابل وله نفس الوزن الدولي، إذا ما استثنينا ما أضحت عليه من تقارب استراتيجي علاقات التعاون على جميع الأصعدة بين الصين وروسيا الاتحادية وإيران ،ولا يمكننا أن نضع منظمة شنغهاي على نفس الميزان مع تحالفات الولايات المتحدة، مع أنها أكبر إنجاز لدول الجنوب الصاعدة، وهي تضم إضافة للبلدان الثلاثة السابقة (جنوب إفريقيا،والهند، والبرازيل)، إلا أنها مازالت في خطواتها الأولى من التعاون الاقتصادي بالدرجة الأولى، ولا تضمها إستراتيجية واحدة لا تجاه الولايات المتحدة ولا في الصراعات الدولية عامة إلا في قضايا عامة وجد محدودة.
وليس أقل أهمية من السابق، القوة الناعمة لكلا الطرفين. إذ على هذا المستوى يظل الفرق شاسعا والتفوق واضحا لصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. وأقصد من ذلك الانتشار العالمي للثقافة واللغة، والقدرات الإعلامية الهائلة، والاختراقات الاجتماعية والأيديولوجية لما يسمى بالمجتمع المدني في العالم. ولعل هذا المستوى الأخير في القوة الناعمة هو أخطر تحول جرى بعد تواري الاشتراكية ( أنظمة وأيديولوجيا) وخلال الطريق الليبرالي (التبعي) الذي انتهجته معظم دول الجنوب وغيرها في زمن العولمة النيوليبيرالية ، والذي فتح مجتمعاتها على اختراقات اجتماعية وسياسية وثقافية من دواخلها، مما مكن القوى الإمبريالية من اليد الطولي في خنق أي مسار تحرري لها. وهذا تحول كبير لم تعهده بنفس القوة عندما كان ما يعرف بالمجتمع المدني ينتسب في أغلبه إلى القوى التحررية والتقدمية الذائعة الصيت وقتذاك.
4
في الختام ، إذا ما تأملنا في عناصر القوة لدى الطرفين الرئيسيين، وفي القدرات الكبيرة التي مازالت بحوزة الولايات المتحدة ( وحلفائها)، وأخذنا بالحسبان التكلس العقلي الامبريالي لدى نخبتها الحاكمة، فلا محالة أن الاستنتاج الأرجح سيميل إلى جهة أن الصراع بين الطرفين سيطول لمرحلة غير منظورة، إلى أن تتعادل أو تتغلب عناصر القوة لكل منهما. ومن هذا المنظور يصح لنا أن نصنف عناصر القوة تلك في دوائر سيطالها الصراع والتنافس، الواضح والخافت، الساخن والبارد، وفي تراتبية زمنية يحتاجها التوازن المفترض. وهي ثلاث دوائر في أزمنتها المتفاوتة: دائرة القدرة الذاتية الخالصة الاقتصادية والتكنولوجيا والعسكرية. ودائرة النفوذ العالمي وأخص منه المنظومة المالية ومركزية الدولار وكذلك توازنات التحالفات الدولية. والدائرة الثالثة للقوة الناعمة وأخص منها الانتشار الثفافي واللغوي، والقدرات الإعلامية، والامتداد أو الاختراق الأيديولوجي العالمي.وهكذا أتوقع:
في الزمن المنظور : مع أن الولايات المتحدة لازالت قدراتها الذاتية الخالصة في الرتبة الأولى عالميا، إلا أنها أضحت غير قادرة على تحمل تكاليف الزعامة الانفرادية للعالم ، أمام تصاعد قوى منافسة، واستفحال أزمتها المجتمعية الداخلية،. و تراجع حصتها من الاقتصاد العالمي . و لذلك غدا ولوج الوضع الدولي لعالم متعدد الأقطاب أمرا قيد التحقق. وهذا الوضع الجديد، والذي تعاند بشراسة العقلية الأميركية الإمبريالية الاعتراف به، سيمر حتما من مساومات اضطرارية مؤقتة، ولكنها تراكمية تصب في اتجاه الإقرار بتعدديته القطبية. ومن شأن هذا التراكم أن يرفع من وعي وحراك القوى الاجتماعية الشعبية الأمريكية والغربية عامة.إذ كلما ضعف الموقع الأمبريالي الدولي، كلما تحررت القوى الاجتماعية الغربية من استيلاباتها التي غذاها ماديا واديولوجيا التفوق القومي الأميبريالي. إنها معادلة تاريخية عكسية لا يمكن التنبؤ بمداها في الزمن المنظور، ولكنها واقعة بالضرورة.
وفي الزمن المتوسط المدى: الصراع الدولي يتجه من تلقاء ذاته إلى إيجاد بدائل لاحتكار الدولار للمعاملات الدولية ولانفراد البنكين الدوليين بتمويل خصاصات بلدان العالم وخاصة دول الجنوب، ومن تم التحكم في اختياراتها الاقتصادية بما يخدم الهيمنة الأمريكية.ولاغرو في أن جميع الدول بمافيها الحلفاء يضيقون ذرعا من سيف العقوبات المسلط على رقاب من يخالف منهم مصالح واختيارات الولايات المتحدة، وهي التي لا تأبه للشرعية الدولية ولا لسيادة الدول واستقلاليتها. ولا ضرورة لتفصيل الإجراءات العقابية والتهديد بها. يمينا ويسارا، ولا لتفصيل المحاولات البديلة والناشئة لمواجهتها، إلا أنها محاولات بدأت وستنمو وستستمر، وستكون مضاعفاتها السياسيىة والتحررية نوعية وكبيرة جدا على الهيمنة الأمريكية في الوضع الدولي. ومن ذلك أن بلدان الجنوب ستجد في الوضع الدولي المتعدد الأقطاب والنامي هامشا يزيد اتساعا للتحرر من التبعية الشبه مطلقة للهيمنة الأمريكية والغربية عامة، وستتقوى بالتالي أدوار تجمعاتها الجهوية كاختيار لابد منه لتعظيم إمكانياتها التنموية الذاتية المستقلة, بل سيكون العالم القادم متمحورا على التفاعل بين التجمعات الجهوية الكبرى التي سيتعاظم أدوارها. .و لا أستثني من ذلك أن التيارات الداعية لاستقلالية الاتحاد الأوروبي عن الهيمنة الأمريكية ستزداد هي أيضا قوة بعد تخطيها الحاجبين العائقين، نمو الميولات الشوفينية العنصرية في بلدانها، ووهم أن الغرب بتحالفه مع الولايات المتحدة يدافع عن قيم حضارية مشتركة ضد قيم شرقية معادية. والحقيقة أن هذا الادعاء ليس إلا إيديولوجيا تخفي ارتباطات التبعية للمصالح الرأسمالية الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة. وعلى وجه الإجمال، فإن التحالفات الدولية في هذا المسار ستغدو أكثر سيولة وليونه و تحررا مما هي عليه اليوم من صلابة وغلبة لصالح الولايات المتحدة.
وفي الزمن البعيد: وأفضل التعبير عنه ب”الزمن غير المنظور”. تبدو هذه الدائرة التي تضم (الانتشار الثقافي واللغوي والقدرات الإعلامية والتواصلية الدولية، والاختراقات الإيديولوجية) خافتة التنافس والصراع، ما عدا في مجال القدرات الإعلامية والتواصلية، والذي يذكرنا مجالها باتهامات الولايات المتحدة لروسيا بالتدخل في انتخاباتها الرئاسية، وبالهجوم الأمريكي لتقزيم شركة هواوي وتطبيقاتها الفرعية، وسعي الصين (وروسيا) لإيجاد بدائل للثغرات التي أظهرتها حاجتها لشركات غربية شاركت في مقاطعتها , و الذهاب لما هو أبعد في بناء استقلاليتهما عن المؤسسات التواصلية والمعلوماتية الدولية الأمريكية…ولا يخرج عن هذا المجال الهجومات والتجسس السبرانيين. في هذا الجانب التواصلي تحديدا، يمكن التوقع في الزمن المنظور أن الصراع سيواكب التطورات في الدائرتين السابقتين، لطي المسافة الشاسعة لاحتكار الغرب لوسائل الإعلام والتواصل الدولية .وأما ما هو شديد الأهمية في هذه الدائرة أيضا، أن الولايات المتحدة والغرب يخوضان صراعهما مع الصين وروسيا الاتحادية تحت راية الأيديولوجية الليبيرالية، ويستعملان الديمقراطية الليبيرالية سلاحا هجوميا، بينما لا يخاطب الخصمان العالم بأي صوت أيديولوجي مسموع سوى لغة المصالح المتبادلة. الولايات المتحدة وحلفاؤها يدفعان بالصراع إلى انشقاق عالمي عمودي كامل الأركان(الأيديولوجيا زائد معسكر النيتو) على طراز المعسكرين السالفين في الحرب الباردة ، بينما تصّر الصين وروسيا على إبقاء الخلافات في حدودها الاقتصادية والجيويولتيكية المجزءة والقابلة للمساومة الايجابية على قاعدة رابح رابح وغير الهادفة إلى تشكيل” معسكر دولي مضاد” حتى أنها تتجنب بينها اصطلاح ” التحالف الاستراتيجي” وتعبر عنه بصيغة التعاون المتبادل. وهكذا، لا يمكن للصين تحديدا، وهي تتعرض لهجوم ايديولوجي شرس أن تبقي على دورها العالمي كمجرد تاجر دولي طيب السمعة . اذ لا مناص لها من أن تدافع عن نموذجها السياسي على المستوى الأيديولوجي، و الا سيظل نظامها السياسي على المدى المتوسط أو البعيد معرضا للاهتزاز من الداخل , و لاختراقه من الخارج ,وليس لها من مرجعية أخرى غير الايدولوجيا الاشتراكية… وكما لمحت في السابق إلى غلبة الاخترافات الإيديولوجية النيوليبيرالية في معظم بلدان الجنوب، ولأن الأساس البنيوي لهذه الاختراقات النموذج الاقتصادي الليبيرالي والتبعي الذي غاصت فيه، فمن المتوقع في الدينامية العالمية التي سيحررها النظام العالمي المتعدد الأقطاب، كما أشرت في السابق، أن تستعيد الدولة دورها الريادي التنموي، وأن تتضافر مع ارتفاع ضروري لمنسوب الأيديولوجيات الوطنية والقومية التحررية، ومن بينها الأيديولوجيا الاشتراكية.