أسكب روحي في كأس شاي، أحتسيه وأطلق العنان لليد لتعبث في ضفيرتها،  تمسك بخصلة لتضعها على العين اليسرى، وبخصلة أخرى وترسيها على العين اليمنى حتى  يتسنى لي تقبيلها دونما تمنع ودون إبصارها لتفاصيل القبلة. كانت الشمس حارقة، والفيء قليلا  فقد امتنعت  الأشجار عن أن تظللنا. كانت رنة صوتها تشرف على  دمعاتي وهي تتقطر من العينين بإيقاع  يدغدغ  أوتار اللسان.  قابلتني، وتناولت كعكة  من الصحن، تأملتها ثم التهمتها. كأني بها تلتهم روحي، وكأني بروحي حشيش نوراني  ما إن تلتهمه حتى يضيء  عميق الأركان. كانت يدها تترنح وترتجف كلما مست يدي، وكلما ركزت ببصري على شفتيها.  ليتك تهتدين إلى شغاف قلبي، فأنت تقطنين هناك  دونما مقابل. يسعدني أن أشعر بأن قلبي لا يباع ولا يشترى. وأنا أقرأ وجهها أمرتني قائلة: إقرأ، قلت لها أنت نص قدسي لا يقرأه إلا  من يحسن تشفيره وترتيله، وأنا الرجل الأمي الآتي إلى محرابك تنفر مني الحروف  وتتمترس على قارعة لساني.

حملقت في خواطري، وعدت أفتش في جيوب الأحداث  والوقائع بحثا عن داع من دواعي هجرة بدني وروحي إلى عالم مصنوع من أبجديات فكرية وثقافية ونفسية بقدر ما أتقاسم بعضها بقدر ما لا أرى نفسي في بعضها الآخر.  تمايلت يمنة ويسرة، وخلعت عني نظاتي لأرى ما باستطاعتي أن أراه دون توسط. كانت الدوحة دوحة لا تخلو من غبار ومن صهد ومن وفرة . كانت تتزين بناءات وطرقات وجسورا ،  وكانت الحياة فيها تسير عجلى وكأن المرء يريد أن يتدارك  ما توفره الأموال المنبطحة على جنبات الرغبات.  كانت المدينة تستيقظ باكرا، وتغرب باكرا، وكانت القيلولة تأخذ من كل واحد قسطها. لم أكن أشعر بانفتاحها ولا باندماجي فيها، وكأني مكمل لديكور.

اغتسلت كما لم يغتسل إنسان هذا الصباح، رميت عني الأدران التي علقت بالجسم  من جراء انشطته، جففت ما بقي البلل عالقا به، جمعت بعض أغراضي الأكاديمية: حاسوبي، وجذاذات علقت بموضوعات محاضرتي لهذا اليوم.  كانت المحاضرة في الصواتة، وكان الموضوع حول أداة التعريف، وصهر لامها في الصامت الأول من الاسم. عرض تحليلات تراثية قديمة، ودراسات حديثة مستقلة القطع،  وطبيعة هذه الأداة ، ونظامها وأنواعها في لهجات العرب، وفي اللغات السامية. تحضيرا لهذه المحاضرة هيئت أوراق عمل حول هذه الموضوعات الفرعية، وحول مختلف المقاربات المعروضة، مع محاولة عرض متن مختلف.

كانت المحاضرة جلسة نقاشية تبادلنا خلالها المعارف، وعرضنا الإشكالية  والثغرة البحثيتين،  وبسطنا الفرضيات ووقفة نقدية للدراسات السابقة،  ووقفنا على الأطر النظرية ومدى انسجامها مع الوقائع المقدمة.  وأنهينا الجلسة بتقديم خلاصات البحث واتفقنا على أن تعد مجموعة منا دراسة في الموضوع مسترشدة بما انتهينا إليه في المحاضرة. كانت المحاضرة بحثا يخضع لكل الضوابط البحثية، لا مكان فيها للتلقين. كنا نلجأ لسد الثغرات إلى تقديم عروض فردية أو جماعية.  وبخصوص البحث الذي تنجزه الطالبة أو الطالبات  يكون محوره موضوعا من موضوعات المحاضرات المقررة.

كان التدريس دعوة إلى استعمال العقل، وكيفية صناعة الأفكار ومراجعتها ومواجهتها  مع الوقائع. كان الدرس يقوم على المساءلة وعلى السؤال، كان استحضارا وتوظيفا لأسئلة كينتيليان. لم يكن هناك تفضيل رأي على آخر، أو مقاربة على أخرى. كانت كل الرؤى تتبارى وتجادل وتتجادل وتتساءل بقدر ما تسائل. ولم تكن كل الخلاصات والنتائج نهائية. كان يراودنا شعور بأن الواقعة المدروسة ما تزال ثرة ، وما تزال الإحاطة بها مستعصية وستبقى كذلك.

لم تكن نهاية المحاضرة نهاية لعملي التدريسي. كانت بداية للتعديل والتصويب، وشروعا في صياغة أولى وربما ثانية وثالثة للموضوع.  ومع كل صياغة بروز نظر جديد أو طريقة جديدة في تناول الموضوع. كانت المراجعة ذات صلة  بتقييم مخرجات المحاضرات والتأكد مما إذا كنا قد حققنا في المحاضرة وبها ما كنا نستهدفه من نتائج.

كانت علاقتي مع طالباتي علاقة صداقة واحترام وتعاون. ومثلما كانت قاعة المحاضرة مكانا للعمل، كان مكتبي بالجامعة مكانا آخر للعمل. لم تكن المعرفة الصوتية والصواتية الذائعة الصيت  هنا معرفة حديثة. وحتى عندما تتطلع إلى أن تكون كذلك، فهي تفشل في الفهم وفي وضع المصطلحات المناسبة. كانت مهنة التدريس مزدوجة إذن إذ كان من المطلوب تصحيح المفاهيم وتدقيقها وصناعة مصطلحات شفافة يكون محتواها بمقاس شكلها.