قراءة نقدية للنموذج التنموي الجديد 2/1
من أجل قطائع حقيقية في السياسة والاجتماع والاقتصاد
آراء أخرى
لنجعل من النساء قوة اجتماعية جديدة للتغيير على تربة نهضة ثقافية تحديثية
تقديم
إعدادا لهذه القراءة النقدية للتقرير الذي سهرت على إنجازه اللجنة الخاصة بإعداد النموذج التنموي الجديد الذي سيختزل في كلمة واحدة في هذا المقال “النموذج”، كان لا بد من الاطلاع على كل مخرجات اللجنة من وثائق، التقرير العام والملحقات الثلاثة الخاصة بتلخيص للمشاورات المواطنة والمساهمات المؤسساتية، وأخرى بالموضوعات والتحديات ومجموع المشاريع المقترحة، ولائحة جلسات الإنصات وأنشطة اللجنة. وبموازاة ذلك، كان لزاما كذلك العودة إلى تقرير الخمسينية الذي أطلق العمل عليه سنة 2003 وهم تقييم 50 سنة من استقلال المغرب بالنظر لأهميته بالنسبة للمسار التنموي لبلادنا لما يشكله من لحظة تقييمية قام بها أيضا مغاربة وليس مكتبا للدراسات. وكذلك العودة إلى الدستور للوقوف على سقف النموذج وحدود مقترحاته طالما أنه أعلن النموذج صراحة الدستور كسقف له متجنبا الخوض في عملية إجراء تعديلات دستورية قمينة بالقيام بقطائع حقيقية تضع البلاد على سكة التقدم؛ وكذلك إلى بعض الخطب الملكية التي حددت ووجهت عمل اللجنة، منها خطاب العرش ل 31 يوليوز 2019، وخطاب ثورة الملك والشعب لنفس السنة. وقراءة بعض التحليلات النقدية للنموذج التنموي النيوليبرالي. يضاف إلى كل هذا تجربة عشر سنوات ونيف من الممارسة داخل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئية. هذه التجربة تدفعني منذ البداية إلى القول إنه لا يوجد تقريبا أي موضوع مما تناولته اللجنة لم يعط فيه المجلس رأيه باستثناء ما يتعلق بمصادر تمويل النموذج ومغاربة العالم، ماعدا ذلك فالمجلس قد استفاض فيه. وهو ما يدفع لطرح السؤال عن الغاية من كل هذا العمل الذي قامت به اللجنة؟ هل الغاية ضخ نفس جديد في الساحة العمومية التي يشوبها مناخ مضغوط جدا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا مضاف إليه ركود مدني عام، لخلق دينامية مدنية قبل الاستحقاقات الأخيرة 2021؟ أم أن هناك حقيقة إرادة في التغيير من أجل إقلاع المغرب. وإذا كان الأمر كذلك، فهل فعلا المغاربة لا يعرفون ما يحتاجون له لكي يتقدموا؟ وفي الأخير ومع وجود العديد من المؤسسات الدستورية معهود لها بتتبع أحوال البلاد، والتي لم يكن المغرب يتوفر عليها قبل أقل من عقدين، هل نحن في حاجة أصلا لهذه اللجنة؟ وهل فيما أنتجته اللجنة الخاصة من جديد مع تبني بلادنا لأجندة أهداف التنمية المستدامة 2030؟ إن هذه المقالة تنطلق من خلفية النقاش البناء وتعتبر أن كل فرصة متاحة يجب اقتناصها ولو كنافذة لتطوير النقاش العمومي لأنه في الأخير هو صمام أمان بلادنا، وفي المحصلة هو الذي يمكننا من فهم بعضنا البعض ويقربنا مما يصلح لتقدمنا.
لماذا هذه القراءة وما هي منطلقاتها؟
إن النموذج التنموي ليس مجرد خبرة تقنية مهما كانت أهميتها وعلت قيمتها، وإن كانت مطلوبة في محطة التطبيق التي يحتاج لها لتفعيل فعال وناجع. إن النموذج الذي يهدف إلى إقلاع أمة هو اختيار سياسي جريء في المبتدأ والخبر لقيادة متنورة مقدامة في مرحلة من مراحل تاريخ تلك الأمة. هذا الاختيار الجريء يكون في معظم الحالات كما عاشتها الشعوب التي عرفت بلدانها تقدما، على سبيل المثال لا الحصر اليابان مع ميجي، وماليزيا مع مهاتير، مستشرفة لنمو وعي المجتمع بشروطه التاريخية. لأن التنمية في المحصلة هي سيرورة وعي أمة ما بشروطها التاريخية. وبالقدر الذي يكون للفرد فيها دور كبير، بالقدر الذي يكون فيه الوعي الجماعي التربة المستنبتة للتغيير الذي تحمله القيادة المتنورة.
فهل للمغرب اليوم من التراكم التاريخي الكافي ما يجعله مهيأ للانخراط في جهود الإقلاع؟ وهل للمغرب من القيادة الجريئة الواعية بما يحتاجه المغرب للإقلاع، القيادة ذات الوعي المتقدم العارف بحاجيات الشعب والقادر على تحسس المستقبل؟ وهل للمغرب نخبة قوية مستقلة لتحمل المشروع؟ هذه أسئلة سابقة عن أخرى لها أهميتها أيضا، من شاكلة ما هي أشكال المقاومات الممكنة التي قد تقف ضد أي إصلاح من أجل تحديث ودمقرطة الدولة والمجتمع؟
إن هذه القراءة التي لا تزعم أنها تأتي بالحلول لإشكالية التنمية ببلادنا، ولكنها تبتغي مقاربة بعضها وإن بالسؤال قبل الجواب. لأن الأجوبة ليست دوما ممكنة قبل توفر شروطها، بل أحيانا بعد فوات الأوان. بل الغاية منها أمران، الأول ويتعلق بمدى تجاوب ما اقترحته اللجنة الخاصة مع التحديات المطروحة اليوم ببلادنا؛ والثاني وهو عبارة عن قراءة نقدية لنموذج اللجنة الخاصة من زاوية النوع وإن كان قد أفرد لذلك جزءا في التقرير.
وقبل الخوض في الموضوع، لا بد من الإشارة إلى أن هذا العمل لا يقلل من أهمية الكفاءات التي شكلت اللجنة الخاصة. فانطلاقا من تجربتي بالمجلس الاقتصادي وإن كانت المؤسستان مختلفتين، يمكنني القول أن التقرير الصادر باسم اللجنة ليس بالضرورة ما أراده العديد من أعضائها، ولا تعبر عن طموحاتهم جميعا في هذه القضية او تلك، بل أكثر من ذلك قد لا يكون بعضهم قد اتفق على زاوية المعالجة وما إلى ذلك من هذه الأمور. وبالنسبة للمختلفين يتم الاتصال بهم بشكل فردي ومحاولة إقناعهم والتذرع بأن الظروف لا تسمح بمثل هذه المقاربات وهلم جرا… وحتى وإن كانوا قد اتفقوا وبالإجماع التام والذي هو أمر مستبعد وغير طبيعي بالخصوص في عمل من هذا النوع والحجم، فلا يخفى على كل قارئ وقارئة لهذا التقرير من أنه لم يأت بجديد مما هو متداول في النقاش العمومي وبالخصوص بالنظر لما أنتجه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وأنه بقي في حدود “le politiquement correct” أي “المقبول سياسيا”، بل أكثر من ذلك لم يحدث القطائع الضرورية لإقلاع البلاد بالخصوص أن ظرفية كوفيد كانت مواتية لمراجعة الاختيارات في السياسة الاقتصادية للبلاد المتأثرة بشكل متخلف وهجين بالليبرالية المحدثة أو ما نسميه بـ النيو ليبرالية، والسياسة الاجتماعية التابعة لها. والأنكى من هذا كله مقاربة التقرير للعلاقات بين النساء والرجال، فقد جانبت اللحظة التاريخية وفوتت هذه المقاربة على البلاد فرصة اعتبار النساء قوة اجتماعية جديدة صاعدة قادرة على ضخ طاقة جديدة لمحرك التنمية ببلادنا وليست “فئة” une frange كما جاء بذلك التقرير ضمن عوامل الاندماج الاجتماعي. وسوف يفرد هذه النص حيزا مهما لتوضيح الفرق بين المقاربتين، مقاربة اعتبار النساء مجرد شريحة من الشرائح الهشة للمتجمع وجب العمل على إدماجها لضمان التماسك الاجتماعي، ومقاربة اعتبارهن قوة اجتماعية ناهضة قد تنقد المغرب من أزمته.
يعاني هذا التقرير أيضا مما دأبنا على تسميته في نقاشات تقارير المجلس الاقتصادي بداء الإطناب الذي تعاني منه غالبية تقاريره، إذ كلما طرح موضوع إلا وقيل انه موجود في التقرير، ويكون فعلا موجودا في شكل عبارة أو جملة أو فقرة تائهة لا قيمة لها في البناء. والأمر نفسه مطروح في تقرير النموذج التنموي، إذ كل ما يخطر أو لا يخطر ببال موجود. غير أن لكل تنمية مفاصلها الهامة les articulations التي تمكنها من التقدم.
يبدو من خلال مخرجات اللجنة أن عملا جبارا تم القيام به، وهذا عمل هام للغاية لمساعدة الرأي العام في إثراء النقاش العمومي ورسملة ما أنتج للتقدم في إنضاج الوعي الجماعي والفردي بقضايا التقدم والتنمية لبلدنا. من تجميع لمختلف الانتاجات المؤسساتية الدستورية والمدنية والفردية، وضمان المشاركة المواطنة والمجالية، ومن تحليل وتركيب وبناء في حلة لتبدو منسجمة…ألخ. إنه عمل أصبح روتينيا تقوم به بعض مكاتب الدراسات والتي جل أعضاء اللجنة متمرسون على هذا النوع من العمل.
العودة إلى تقرير الخمسينية ضروري لقراءة النموذج: لماذا غاب في تقرير اللجنة الخاصة؟
إن العودة إلى هذا التقرير الذي عرف انطلاقته من الخطاب الملكي ب 20 غشت 2003 والذي قام بعملية تقييمية لمسار التنمية منذ الاستقلال أي بين 1956 و 2005 و استشرافها في أفق 2025 وقد حمل كعنوان له ” 50 سنة من التنمية البشرية وآفاق 2025»، خلال عملية قراءة تقرير النموذج التنموي الجديد لسنة 2021، تبدو خطوة لا مندوحة لنا عن القيام بها حتى لا نهدر طاقاتنا في أعمال نقوم بها ونتركها من دون ادنى تقييم وهو الأمر الذي أكد عليه النموذج التنموي الجديد لنجاح سياساتنا العمومية. فهل قام مهندسو تقرير 2021 بهذه العملية؟ وعلى كل حال، فلم أعثر على أية إحالة له في كل ما قرأته اللهم إذا كان عبارة عن جملة تائهة لم انتبه لها في محيط ما أنتجته اللجنة الخاصة.
وكما جاء في تقرير الخمسينية فهو عمل جماعي تشاركي غايته ” تغذية النقاش العمومي وفتحه على اوسع نطاق حول السياسات العمومية التي يتعين تفعيلها في المستقبل القريب والبعيد، وذلك في ضوء الدروس المستخلصة من إخفاقات الماضي ونجاحاته.” وقد تكلف بإعداده لجنة سميت لجنة ادارة تقرير الخمسينية برئاسة المستشار الملكي عبد العزيز مزيان بلفقيه. وقد ساهم في إعداده حوالي مئة من الكفاءات الجامعية والإدارية وفعاليات المجتمع المدني. وقد اعتمد في صياغة تقرير الخمسينية الرئيسي على ما لا يقل عن 75 مساهمة فردية موقعة من طرف أصحابها و التي تم تجميعها في ثمانية مصنفات موضوعاتية، و16 تقريرا موضوعاتيا وأفقيا أعدها 13 فريق عمل.
قبل الخوض في الإشكالات التي عالجها تقرير الخمسينية والهموم التي حكمت تحاليله، لابد من التذكير بالسياق الذي ولد فيه تقرير الخمسينية. تميز هذا السياق بعودة الأمل في إمكانية بناء مغرب العدالة مع طلوع بعض مؤشرات الإصلاح على سبيل المثال، إطلاق مبادرة العدالة الإنتقالية مع هيئة الإنصاف والمصالحة، وإطلاق سيرورة إصلاح المدونة نتيجة خوض الحركة النسائية لحملة وطنية عرفت لأول مرة توطينا قويا على المستوى الترابي… هذان الورشان كافيان لتعبئة فئات واسعة من المواطنات والمواطنين ومن المجتمع المدني والسياسي للانخراط في المسار التنموي لبلادنا واستعادة الثقة في أن مغربا آخر ممكن. ولكن سرعان ما استفقنا من هذا الحلم الجميل وبقية الأمور لا نزال نعيشها. هذه الأجواء كانت مطمئنة للجنة مزيان بالفقيه التي سهرت على الإعداد ومشجعة على الجرأة في التحليل والدقة في العبارة حتى يكون هناك الوضوح الضروري للتملك من لدن الجميع. كما أنه ارتكز على ثلاث قناعات وجيهة أولها أن ” مصير بلدنا يوجد بين أيدينا”، وثانيها ” فضائل النقاش العمومي لا تقدر بثمن” وثالثها ” الممارسة الديمقراطية الموطدة هي وحدها التي يمكن أن توجه بلادنا نحو السير الثابت على طريق النجاح”. هذه المنطلقات تعتبر الديمقراطية والاستقلالية في الرأي والمشاركة الواسعة للشعب صمام أمان وضع قطار التنمية على السكة الصحيحة. ويجدر التأكيد على أن تقرير الخمسينية اعتمد مقاربة التنمية البشرية في أبعادها الشاملة وسياقاتها التاريخية، كأساس في التحليل بالرغم من أنها كانت لاتزال في بداياتها الأولى كمفهوم ومعايير في التحليل وهو ما قام فعلا بحث النقاش حول هذا المفهوم ببلادنا بالخصوص من لدن المجتمع المدني الناشئ. ويجب التنبيه إلى أن تقرير الخمسينية كانت غايته الكبرى إعداد مادة وعلى حد تعبيره ” قاعدة معرفية مدعمة بالدلائل والحجج” لتغذية النقاش وليس تصورا جاهزا للتطبيق. ولذلك جعل من الإمكان البشري le potentiel humain محور التقرير وليس فقط غايته مطوعا كل الأبعاد التنموية الأخرى بما فيها الاقتصاد حول الإنسان. فجاءت محاور التقرير كما يلي: ” تطور الإمكان البشري للمغرب كشعب” هذه الكلمة الخير التي تذكر ولو مرة واحدة النموذج؛ ” تحرير الإمكان البشري للبلاد كدولة”؛ ” تثمين الإمكان البشري باعتباره حياة وتجليات”؛ تعبئة الإمكان البشري من حيث هو قوة عمل وإنتاج للثروات”؛ “الإمكان المادي والطبيعي بوصفه إطارا وموردا للتنمية البشرية”.
وبعد تقييم لهذه الإشكالات تم الوقوف على أهم التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي على المستوى الديمغرافي والعلاقات الاجتماعية بين النساء والرجال إذ برزت أشكال لتحرر النساء وحركة نسائية نشيطة، والعلاقات الأسرية وأشكال التضامن التقليدية مع تنامي سلوكيات مجتمعات الاستهلاك، وأشكال التعبير والتعبيرات الهوياتية وظهور تحولات في المرجعيات القيمية تتجلى في ازدواجية سلوكية بين المحافظة والتحديث لدى الفرد والجماعة. كما وقف التقرير على ازمة الثقة بين المؤسسات والمواطنين، وما أضاعه مشكل الثقة بين المخزن والمعارضة من فرص للتنمية وخدمة المواطن… وقد أكد أيضا على التعددية الإثنية واللغوية والدينية وغيرها من التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي والتي تقتضي تغييرات هامة مناسبة لها. مع تبلور طبقة وسطى لكنها تبقى غير منسجمة ولا تتمتع بوعي مشترك بالانتماء الطبقي مما يجعلها غير قادرة على أن تلعب دورا محركا في الدينامية الاجتماعية، مع تنامي مجتمع مدني. إن هذا التحليل للتحولات المجتمعية يعطي روحا ووجهة لمغرب اليوم والغد وينأى به من تنميق الخطاب التكنوقراطي الذي لا لون ولا رائحة له.
وقد وجدت العديد من الإشكالات التي عالجها تقرير الخمسينية مكانا لها في دستور 2011 من حيث الحكامة وفصل السلط والحريات والحقوق وحول تحكم الدولة المركزية في التدبير الترابي وما إلى ذلك من القضايا الكبرى للتنمية البشرية ببلادنا. كما حذر تقرير الخمسينية من الفوارق بين القرية والمدينة ومن الهوة الكبيرة بين مشاريع الإصلاح وبين تطبيقها. ووضع كل من التعليم والصحة والحماية الاجتماعية كتحديات ذات أولوية معتبرا أن ما أدى إلى التأخر الذي تعرفه هذه الدعائم الأولى في بناء الإنسان هو إعطاء الأولوية ولفترة طويلة لما يسمى بالمشاريع الكبرى ونهج سياسات غير مواتية فيما يتعلق ببعض الخدمات الاجتماعية الأساسية.
وإذا كان المغرب قد نحا باقتصاده منذ بداية الاستقلال نحو الليبرالية، فإنه ظل اقتصادا مختلطا نظرا لأن الدولة استمرت في حمايته وفتحت أبواب التبادل الحر مع أزيد من 50 بلدا منذ 1993 وقبل ذلك كانت قد عانت من مراقبة المؤسسات المالية الدولية منذ 1983 مع برنامج التقويم الهيكلي. واستمرت في تبني سياسة فلاحية تقليدية معتمدة أساسا على التقلبات الجوية. فإن تقرير الخمسينية قدر ان تدخل الدولة في الاقتصاد شكل عائقا لتطوره اعتبارا منه أن المنافسة وحرية السوق ومدى اندماجه في الاقتصاد العالمي تشكل دعائم أساسية لتطوره انسجاما مع النظرية النيو ليبرالية السائدة إلى هذا الحين.
وإذا كان تقرير الخمسينية قد وصف الخمسين سنة من الاستقلال بأنها عقود الانتقالات المتعددة، انتقال ديمقراطي وانتقال مؤسسي وآخر اقتصادي واجتماعي وثقافي ديمغرافي، فما هي قراءة اللجنة الخاصة لمآل هذه الانتقالات؟ وهل تقدمنا نحو الخروج منها ام تأخرنا أم لا نزال نعيش بعضها أو تخلينا عن بعضها؟ وحدد المخاطر التي قد تعيق الإصلاح وأجملها في خمسة (عدم التحكم في أجندة الإصلاح، خطر الاستسلام للإكراهات الظرفية، حدوث أزمة داخلية أو خارجية حادة، عدم القدرة على بلوغ السقف المطلوب أو الوثيرة الكافية في العمل الإصلاحي، عدم تطبيق القوانين والاتفاقيات الملتزم بها).
وقد رسم تقرير الخمسينية معالم سيناريوان واحد ينذر بالتراجع لبلادنا عن مسار التنمية، وآخر لمغرب ممكن ومأمول. غير أن الحصيلة اليوم بعد مضي ستة عشر سنة عنه كلها تؤشر على أننا ركبنا مسار التراجع وعلى كل المستويات التي سطرها التقرير رغم ما أنجز في العديد من المجالات لأن هذه الإنجازات لم تستطع خلق شروط انبثاق الدائرة الفضلى للتنمية ليستشعرها الشعب في حياته اليومية. الخوف كل الخوف أن تأتي 2035 التي حددها النموذج كأفق لنجد أنفسنا مجانبين لمسار التنمية المأمول! وهو احتمال وارد لأن التقرير ظل في حدود ما يسمى ب ” المقبول سياسيا” (Le politiquement correct) وسنعود لهذا فيما بعد، وتكلم عن كل شيء لكن لم تكن له الجرأة في الأولويات وسكت عن العديد من الإشكالات على المستوى السياسي والمجتمعي والديني.
وعليه يمكن القول إن تقرير الخمسينية كان أقرب إلى السياسة والمجتمع أي إلى شروط التغيير التاريخية لأمتنا، من المقاربة التكنوقراطية.
التأطير الدستوري لعمل اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد:
لماذا صرفت اللجنة الخاصة النظر عن تعديل جديد للدستور كرافعة لنموذج تنموي قادر على تحقيق إقلاع البلاد؟
منذ السطر الأول للتصدير وبدون مواربة يعلن الدستور طبيعة الدولة والمجتمع المبتغاة. بناء دولة الحق والقانون الديمقراطية وتعزيز مؤسسات الدولة الحديثة؛ وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة. وفقراته الثلاثة الأخيرة المتعلقة بحماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء؛ وحظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي، مهما كان؛ جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة.
ورفعا لأي لبس، حدد الدستور في المادة 71 منه أن الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في التصدير، وفي فصول أخرى من الدستور ونظام الأسرة والحالة المدنية، من اختصاص القانون، أي من اختصاص السلطة التشريعية وليس الدينية. لقد حسم دستور 2011 إشكالية التنازع فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية بين النساء والرجال من مجال المقدس الجامد غير القابل للنقاش إلى مجال القانون أي مجال النقاش العمومي. فالرجوع بالنساء إلى ما قبل 2011 يعتبر ترددا محافظا للجنة الخاصة. وعلى العكس من ذلك كان بالأحرى الوضوح في العديد من الإشكالات التي عرفت نقاشات مجتمعية ومؤسسية وباتت أكثر جلاء بعض المواقف التي تحوز على اتفاقات واسعة بين القوى الحية للبلاد في انسجام تام مع السلوكيات الظاهرة وغير المستترة للمجتمع، على سبيل المثال، عدم تجريم العلاقات الرضائية بين راشدين، ورفع سيف ديموقليس على الإيقاف الإرادي لحمل غير مرغوب فيه والمساواة في الإرث وعلى رأسه حذف التعصيب وما إلى ذلك من القضايا التي عرفت نقاشا عموميا وتقدما في تمثلات وممارسة المجتمع لها. إن كل هذه الحيثيات كان بالأحرى أن تكون حافزا لوضوح اللجنة الخاصة بصددها وجعل إطلاق سيرورة ملاءة قانون الأسرة والقانون الجنائي وما وقعه المغرب من اتفاقيات دولية تعم الحقوق والحريات من أولويات النموذج وليس العكس المتجلي في التذبذب والتلعثم واخفاء المحافظة خلف اعتبارات إن كانت مفهومة مع بداية تسعينيات القرن الماضي، فهي لم تعد كذلك اليوم.
بعد مرور أزيد من عشر سنوات على الدستور، ألا يشكل هذا الدستور أحد معيقات التنمية؟ سؤال لا يخلو من وجاهة ونحن بصدد مناقشة النموذج التنموي الجديد؟ سوف يقول قائل لنستنفد الإمكانيات التي يتيحها اولا قبل التفكير في إصلاحه. ولهذا الرأي كثير من الحق بالخصوص في العديد من القضايا على سبيل المثال الحريات والحقوق المستمدة من الشرعة الدولية ومؤسسات الرقابة والتدبير الترابي والحكامة والديمقراطية التشاركية… لكن تبقى إشكالات دستورية أخرى، تأتي في عمق النموذج، ذات الصلة بطبيعة النظام السياسي تشكل معوقات للتقدم نحو المغرب الذي نبتغيه ونطمح له جميعا حيث تتمتع الطاقات بكل شروط التفتق والانبلاج. علاوة على أن هناك العديد من العبارات الاستطرادية المحشوة حشوا في بعض المواد تشوش على روح الدستور التواقة لتحديث البلاد والتي تشكل مشجبا للمحافظة تعلق عليه تردداتها أو معارضتها لتفعيل هذه الروح التحريرية. إذ يؤكد بعض أعضاء اللجنة التي كلفت بإعداد نسخة مشروع الدستور أن النسخة التي تم التصويت عليها لم تكن هي تلك التي قدمت لجنة المنوني، بل أضيفت لها العديد من الجمل في آخر لحظة إذعانا لضغط من المحافظين وهو ما يشوش على جلاء فلسفته العامة المتقدمة المنتصرة للقيم الإنسانية الديمقراطية والحديثة. ففي باب فصل السلط وصلاحيات كل الملك ورئيس الحكومة ومجلسي الوزراء والحكومة وإلى ما إلى ذلك تحتاج لوضع حد للمناطق الرمادية التي تزيد من سوادها الممارسة المترسخة في ذهنيات النخب السياسية أو التكنوقراطية. فالخطاب السائد والممارسة والانتظارات كلها تكرس تركيزا شديدا للسلطات والمسؤوليات لدى المؤسسة الملكية وهو ما يجعل كل من رئيس الحكومة والحكومة عبارة عن عمال منفذين وميسرين للشأن العام لدى الملك. وهذه الحالة تفرغ الممارسة الديمقراطية من محتواها وتفقد ثقة الناس في المؤسسات وتركزها في الملك مما يشكل خطرا محدقا ليس في مصلحة بلادنا. هذه الثقة التي جعل النموذج منها أحد أسسه. وترجع سيادة المناطق الرمادية في الممارسة السياسية ببلادنا إلى ثلاث إشكالات، الأولى وذات الصلة بالدستور، والثانية مرتبطة بالعقليات وتمثلات الحكم لدى النخب كانت في الممارسة أو تتطلع للمسؤولية العمومية، والثالثة وتتجلى في سيادة عدم احترام القانون. وهذا يبين أن المناطق الرمادية في الحكم ليست قانونية بحتة ولكن أيضا ثقافية لهذا يقتضي الأمر وضوح في القانون أولا، وتتبع ورقابة نزيهة ومستقلة لمدى تطبيق ثانيا، ونخب قوية ونزيهة حاملة لقيم النزاهة بدرجة عالية وقادرة على ممارسة النقد وقول الحقيقة بطرق مقبولة تراعى فيها الحساسيات ثالثا.
التأطير الملكي لعمل اللجنة:
يمكن اعتبار خطاب العرش لسنة 2014 الذي دعا فيه الملك كل من المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بتعاون مع بنك المغرب وبعض المؤسسات الأخرى الوطنية والدولية القيام بدراسة لقياس القيمة الإجمالية للمغرب ما بين 1999 و2013، أي 15 سنة من حكم الملك محمد السادس، لبنة أساسية في سيرورة مراجعة النموذج التنموي المغربي. لما طرحه من تساؤلات حول وجود الثروة التي تكلمت عنها بعض تقارير البنك الدولي، وهل استفاد منها جميع الجميع، مع ضرورة معرفة حقيقة الوضع. وفي هذا السياق حدد المطلوب من هذه الدراسة، من تشْخيص موضوعي للأوضاع، وتقديم توْصيات عملية للنهوض بها. وقد استغرقت هذه الدراسة سنتين من العمل المتواصل وقدمت نتائجها في نهاية 2016. وكان من أهم مقترحاتها بناء نموذج وطني للتنمية المستدامة ينبني على التوزيع المنصف للثروة كطموح جديد للصعود بالمغرب لمصاف الدول الصاعدة. ومن أجل ذلك اقترحت الدراسة سبع رافعات تصدرتها تعزيز قدرات الرأسمال البشري، والرأسمال المؤسساتي، إرساء ميثاق اجتماعي جديد، تعزيز أرضية القيم المشتركة وجعل الثقافة رافعة للتنمية المستدامة، تحول هيكلي للاقتصاد، نموذج تنموي وطني في إطار دينامية مستدامة، وجعل المغرب قطبا للاستقرار والشراكة التضامنية.
فجاء خطاب العرش لسنة 2017 مؤكدا على سوء الخدمات العمومية للإدارة وضعف مواردها البشرية واصفا الحصيلة الاجتماعية لما يقوم به المغرب بالمخجلة والتي لا تليق به…كما قام بنقد العمل الحزبي والمسؤولين السياسيين الذين لم يتجاوبوا مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة بل اعتبرهم ” فعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون، إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا وإعلاميا، من المكاسب المحققة. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه. “إن مسؤولية وشرف خدمة المواطن، تمتد من الاستجابة لمطالبه البسيطة، إلى إنجاز المشاريع، صغيرة كانت، أو متوسطة، أو كبرى”.
كان خطابا حادا موجها للنخبة السياسية والإدارية جاء على خلفية حراك الريف المدوي الذي ألهب نيرانه طحن الشهيد محسن فكري في حاوية الأزبال يوم 28 أكتوبر 2016 بطريقة همجية مروعة. دعا إلى تفعيل وبشدة مقتضى ربط المسؤولية بالمحاسبة وفي جميع المناطق وهو ما سوف تكون له تداعيات سلبية ضد مجموعة من الوزراء والمسؤولين.
ثم توجه خطاب العرش 2018 مرة أخرى للأحزاب السياسية ونبهها لأدوارها وضرورة تشبيبها ولعب ادوارها تجاه المواطنين والتفاعل مع الأحداث …وخصص معظم الوقت للشأن الاجتماعي. ” فحجم الخصاص الاجتماعي، وسبل تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، من أهم الأسباب التي دفعتنا للدعوة، في خطاب افتتاح البرلمان، إلى تجديد النموذج التنموي الوطني.” مؤكدا على تشتت بل وتنافر مئات من البرامج الاجتماعية؛ معتبرا السجل الاجتماعي الموحد بداية واعدة لتحسين مردودية البرامج الاجتماعية. “إن الأمر يتعلق بمشروع اجتماعي استراتيجي وطموح”. مع دعوة “الحكومة وجميع الفاعلين المعنيين، للقيام بإعادة هيكلة شاملة وعميقة، للبرامج والسياسات الوطنية، في مجال الدعم والحماية الاجتماعية…” علاوة على مجموعة من المواضيع ذات الصلة بالتنمية الاجتماعية من حوار اجتماعي وخلق فرص الشغل عبر مبادرات موجهة لتشجيع الاستثمار وإنعاش المقاولات الصغيرة والمتوسطة.
وفي خطاب 20 غشت 2018، كانت الإشكالية التي تم التأكيد عليها هي ضرورة وضع الشباب في صلب النموذج الجديد ودعوة الملك لإعداد استراتيجية مندمجة لهم للنهوض بشكل استعجالي بأوضاعهم مع ضرورة اتخاذ تدابير مضبوطة مستعجلة قصد توفير الشروط للتقليل من البطالة والتصدي لإشكالية الملاءمة بين التكوين وسوق الشغل.
وأما خطاب العرش 2019، فقد تم التأكيد فيه على الثوابت والخيارات الكبرى للأمة والتي أجملت في ثلاثة: ” وأولها: الملكية الوطنية والمواطنة، التي تعتمد القرب من المواطن، وتتبنى انشغالاته وتطلعاته، وتعمل على التجاوب معها؛ وثانيها : الخيار الديمقراطي والتنموي، الذي نقوده بعزم وثبات؛ وثالثها : الإصلاحات العميقة، التي أقدمنا عليها، والمصالحات التي حققناها، والمشاريع الكبرى التي انجزناها؛” وحسب ذات الخطاب فبالرغم من النقلة النوعية على مستوى البنيات التحتية و في مجال الطاقات المتجددة، وتأهيل المدن والمجال الحضري؛ والخطوات المشهودة في مسار ترسيخ الحقوق والحريات، وتوطيد الممارسة الديمقراطية السليمة… إن البنيات التحتية، والإصلاحات المؤسسية، على أهميتها، لا تكفي وحدها. لأن آثارها لم تشمل جميع فئات المجتمع. بالخصوص في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية، والحد من الفوارق الاجتماعية، وتعزيز الطبقة الوسطى. “لقد أبان نموذجنا التنموي، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية. وهو ما دفعنا للدعوة لمراجعته وتحيينه.” ولقد تم الإعلان عن تشكيل لجنة خاصة بالنموذج التنموي وخصائص أعضائها وحدود عملها بأن تأخذ بعين الاعتبار التوجهات الكبرى للإصلاحات التي تم أو سيتم اعتمادها في عدد من القطاعات، كالتعليم والصحة، والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي؛ وأن تقدم اقتراحات بشأن تجويدها والرفع من نجاعتها… وأن ترفع للملك الحقيقة ولو كانت قاسية أو مؤلمة. وان تتحلى بالشجاعة والابتكار… والأهم من ذلك هو تطبيق الخلاصات والتوصيات. وطموح هذا العمل والأهم منه هو دخول مرحلة جديدة من التنمية ليلتحق المغرب بركب الدول المتقدمة. وتواجه هذه المرحلة الجديدة تحديات ورهانات داخلية وخارجية في مقدمتها توطيد الثقة والمكتسبات ورهان عدم الانغلاق على الذات بالخصوص علاقة بالخبرات والتجارب العالمية، رهان التسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية، ورهان العدالة الاجتماعية والمجالية…
هذه النبذة من التوجيهات الملكية التي استحضرتها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد في عملها، كان لابد لأية قراءة لهذا النموذج استحضارها للوقوف على مساحة الحرية التي كانت تتوفر عليها في تشخيصها ومقترحاتها. ويبقى السؤال الذي يفرض ذاته، هل استنفذت اللجنة كل الإمكانيات المتاحة لها؟ أم أنها بقيت تحت هذا السقف فقالت الحقيقة للملك ولو كانت قاسية أو مؤلمة وهل تحلت بالشجاعة؟
يتبع