
"العدل والإحسان" في منزلة البرزخ السياسي

النصر ليس حليفا لمن يتبع القواعد ولكنه حليف لمن يسن القواعد ويفرضها على خصومه، ولا يمكن فرضها ما لم تكن هناك مواجهة واحتكاك مباشر بواقع الشعب والنظام وتصدر الصفوف والانخراط الذاتي في هموم الشعب وتبني مطالبه والعمل على تحقيقها بمقارعة النظام المتسبب في مأساته وظلمه من خلال صناعة الحدث وواقع جديد بمعادلات جديدة لا بالاكتفاء فقط بتشخصيه والاستماتة في تقريع الفاعلين فيه، بما لهم أو عليهم، كما تفعل الجماعة اليوم وهي تكتفي فقط بممارس هواية تجريح تجربة حزب العدالة والتنمية وانتقاد سياسات الحكم. هذه مهنة يتقنها الكثيرون من محللي ومعتلي المنابر. لا يحق للعازب أن يتحدث عن الحياة الزوجية كما يقول المثل التركي، وليس هناك مشروع، كيفما كانت طبيعته، سياسية أو تجارية أو مالية أو ثقافية، لا يخضع لعامل الزمن ونظرية التطور الاجتماعي، وها هي الجماعة قد تجاوزت أربعة عقود من عمرها، ولازالت في مرحلة التعبير عن نيتها في التغيير وتنتظر أن تجتمع كل العوامل المفضية لتحقيق الهدف، إن كان لها هدف واضح ومحدد وقابل للتحقق والقياس في الزمان والمكان.
آراء أخرى
هناك حقيقة يجب أن يعيها الإخوة في الجماعة، وهم اليوم مقبلون على تقلد الجيل الثالث قيادة الجماعة، بأن سنة التدافع بين الفرقاء السياسيين وأطراف الصراع، قوى حزبية واقتراحية وسلطة، تقوم على الاقتحام والإقدام، وبأنه لا يمكن لأي حركة إسلامية أو حزب سياسي، يشارك في اللعبة السياسية أو يكتفي بانتقادها وإحصاء زلاتها من موقف سلبي لا يراكم الإنجازات الموصلة لتحقيق الهدف، أن يكتفي بالنقد والموعظة وينتظر أن تتنازل له السلطة طواعية أو تسن قواعد جديدة للعبة السياسية بما يحقق للجماعة التفوق الاستراتيجي عليها، دون أن يكون لهذا الهدف ضريبة كبيرة لابد وأن تدفع من الرجال والحريات، وربما يكون ثمن هذا الاستحقاق جيل أو جيلان أو أجيال تتحرك في ساحة المعركة السياسية لا في منابر التواصل الاجتماعي والصالونات والندوات أو تراهن على الأموات والذكريات المجيدة والتفسيرات العاطفية للماضي، وتزعم بأن عامل الوقت لصالحها حتى لو امتد هذا الزمان لعشرات العقود. هذا أمر مخالف للنقل والعقل وللواقع.
ليست القوة من تدمر التنظيمات الحركية والحزبية وإنما الغرور وتضخم الذات، لا شك أن قادة الجماعة يعرفون أحوال جماعتهم وإمكانياتها وقدراتها وأين وصلت في نيتها في التغيير، ولكن هذا لا يكفي، لأن النية، وإن كانت صحيحة وصائبة شرعا وعقلا، لابد لها من مناسبة لاختبارها وأن تكون مقيدة بالزمان وبالأهداف حتى تتبين الحقيقة من المجاز والتشخيص من التغيير وتعرف دقة وصوابية مشروعها وقراءتها للمشهد السياسي العام، لأنه، كما يقول القائد المغولي جينكز خان: “لا خير في أي شيء قبل إتمامه”، والجماعة أتمت كل شيء إلا مشروعها الذي لا يعرفه إلا رجالها، وكلما سئلت أو استفسرت حول هدفها مع سؤال “الكيف” والـ “متى” غضب رجالها وشككوا في نية السائل وافترضوا بأنها نية سيئة ومبيتة، أما نيتهم في التغيير، وإن كانت مجرد نية، فهي مفتاح المستقبل ومدخل القومة ومنهاج العمل.تعيش الجماعة مرحلة البرزخ السياسي.
تتصرف الجماعة، منذ عقود، وكأنها هي من يتحكم في جميع أطراف الصراع وعلى أساس أن الوقت كله بين يديها تختار منه المحطات والمعارك التي تروق لها، خاصة تلك التي لا تكلفها الكثير، تنخرط أو تنسحب وتجعل لأعمالها وأفعالها المعنى الذي تريده، وتفسرها وفق تخيلها لحركة التغيير ووفق نيتها لا وفق واقع الصراع وكلفة التغيير، وتدعو “الفضلاء”، من شتات اليسار، للحوار، وتحرم منتقديها من أبنائها من نعمة الحوار وقيمة الاختلاف، وتفصلهم من تنظيمها كما يبتر العضو من الجسد. إن من مشاكل الجماعة هو عدم قدرتها على قياس المسافة بين نيتها في التغيير وبين التغيير نفسه على أرض الواقع، بين طموحاتها وتمثلها لخصمها السياسي وبين الوسيلة لتعديل ميزان القوة بينها وبينه، فهي تؤمن بدور عامل الوقت في تعديل هذا الميزان، ولكن لا تعمل من أجل هذا التعديل بجهد ذاتي وتخطيط محكم يترجم على أرض الواقع ويحقق التراكم المطلوب لصناعة كتلة وشرط التغيير. تؤمن الجماعة بديناميكية كل الأطراف المساهمة في تعديل هذا الميزان لصالح التغيير، بل وتراهن عليها، الشعب وقوى شبه اليسار، ولكنها تفتقر هي لهذه الديناميكية الذاتية في فعلها السياسي ومساهمتها في تحقيق تعديل ميزان القوة للوصول للتفوق الاستراتيجي على خصمها.
تشبه حالة الجماعة، إلى حد التطابق، حالة فريق كرة قدم، له حارس مرمى ودفاع ووسط الملعب أثبتا، حتى الآن، حماية الفريق من الهزيمة، ولكنه يفتقر للهدافين للوصول إلى مرمى الخصم، أمام تشجيع الجمهور، ثم يفشلون في تسجيل الهدف لأسباب نفسية أو لافتقارهم لخبرة اللعب داخل مربع الخصم، أو ربما لأنهم يفضلون التعادل على الانتصار، أو ربما لخوفهم من الانتصار ليس على الخصم، ولكن لخوفهم من مرحلة ما بعد الانتصار لغياب التصور والمشروع والكفاءات، لذلك تجدهم ينتظرون أن ينزل الجمهور للملعب ويسجل الهدف في مرمى الخصم، ثم يتبنون هذا الإنجاز بدعوى أنهم هم أصحاب الملعب والمشاركين في اللعبة.
قراءة في ندوة “المغرب وسؤال المشروع المجتمعي”
لا خلاف بين جميع القوى الحية الفاعلة في الحياة السياسية بالمغرب، داخل وخارج منظومة السلطة السياسية، حول طبيعة النظام الحاكم وتشخيص ممارساته سواء تعلق الأمر بالديمقراطية أو حقوق الإنسان وحرية التعبير أو كرامة المواطن أو العدالة ومحاربة الفساد وحماية الثروات الوطنية، فكل هذه الركائز للحكم الراشد غير متوفرة فيه، بل هو أبعد ما يكون منها ويعمل على إجهاض أي فرصة أو مسار قد يفضي لإصلاح سياسي ودستوري حقيقي كما حصل غداة الاستقلال مع حكومة عبد الله إبراهيم)1958-(1960، ومع حركة 20 فبراير عام 2011 في سياق ثورات الربيع العربي، بالرغم من الوعود والشعارات التي أطلقها في خطاب 9 مارس من نفس السنة وما أعقبه من استفتاء حول دستور جديد وانتخابات مبكرة أوصلت حزب العدالة والتنمية لرئاسة الحكومة إلى حين.
الجماعة بدورها، اليوم مع الندوة الحوارية التي نظمتها يوم السبت 11 ديسمبر الجاري بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيل مرشدها ومؤسسها عبد السلام ياسين، رحمه الله، بعنوان “المغرب وسؤال المشروع المجتمعي”، وقبل هذه المناسبة، لم تشذ عن هذا “الإجماع” التشخيصي لواقع النظام السياسي والقوى السياسية المتحالفة معه منذ فجر الاستقلال، إذ تكتفي هي الأخرى، منذ تأسيسها الرسمي عام 1981، بدور المفسر لأفعال النظام وسياساته وتحليلها وتشخيصها، وهو تشخيص أصبح جل الشباب يعرفونه ويعبرون عنه بجرأة أكبر من القوى السياسية، بما فيها الجماعة، في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما برز بقوة في الورقة الختامية التي تلاها رئيس الدائرة السياسية عبد الواحد المتوكل، إذ قال بأن الحكم هو “نظام هوى فاسد ومستبد ومعيق للتنمية ولأي إمكانية إصلاح الوضع القائم”، وبأن “نظام الحكم العادل هو الركن الركين والشرط الأساس لكل الأهداف والمقاصد النبيلة التي يتطلع إليها عقلاء هذا البلد”، ولكن لم يقدم، كعادة قيادات الجماعة منذ بدايتها، بل حتى تيارات اليسار، الحل، وسيلة وسبيلا وإجراء للوصول لهذه “الأهداف والمقاصد النبيلة”.
تحدث المتوكل عن “جسور العبور” كأنها وصفة سحرية لتحقيق التغيير، لكن سرعان ما يتحول الخطاب، القوي في التشخيص والتفسير، إلى ضبابية وخطاب عائم قد يكون سببها غياب سؤال “الكيف” و”الأجرأة” لتحقيق “الأهداف والمقاصد النبيلة” أو عدم وجود حل من أصله فيما يتعلق بالبديل عن النظام القائم، لا حول كيفية إصلاحه ولا كيفية تغييره، بل حتى حول كيفية التعايش معه. ثم عاد ليطرح الحل، وهو أن تطالب القوى الحية بالحرية أولا ليستطيع الجميع، بما فيه القوى المقصية”، بتعبيره، ويقصد الجماعة، وهذا هو المدخل لمناقشة القضايا الجوهرية بما فيها صياغة ووضع دستور جديد (!). كلما وصلت الجماعة للملكية، وهي مجرد طرف داخل نظام سياسي أكثر تعقيدا مما يتصور الكثير، والتي، بالمناسبة، تعلق عليها الجماعة كل المصائب والمأساة التي يعيشها المغاربة، عامتهم ونخبتهم، إلا وتراجعت عن الخوض في سؤال “الكيف” وتقفز للحديث عن الأهداف وليس عن الوسائل والإجراءات والسبل لتحقيق تلك الأهداف. إن النضال السياسي عبر التاريخ البشري والاجتماعي ليس دعوة لعشاء بين المعارضة والنظام السياسي وتقاسم المجاملات، وإنما هو نزال بين نظامين، نظام قائم ونظام يسعى لتقويمه وإصلاحه أو تغييره، هو صراع إرادات، إرادة الأمر الواقع والجمود وإرادة المفاصلة وتغيير الواقع.
أي نضال من أجل الحرية أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان وحرية التعبير أو الكرامة ودستور معبر عن إرادة الشعب ومحاربة الفساد والاستبداد، أي نضال ممكن من أجل هذه “الأهداف والمقاصد النبيلة”، بتعبير القيادي في الجماعة، في ظل نظام حكم يصفه هو وباقي قيادات الجماعة بأنه معطل لكل مبادرة إصلاحية أو خطوة ومسار تصحيحي لبنية السلطة الحاكمة وطبقتها الأوليجارشية الحليفة؟ إنه لا يمكن الفصل بين النضال من أجل الحرية بمعنى عام وبين النضال من أجل اختيار النظام السياسي بإرادة حرة، إنهما أمران ملازمان وخطان متساويان، والفصل بينهما زمنيا هو فصل تعسفي يخفي عجز الجماعة عن تحمل تبعات وكلفة النضال كما تحملها اليسار منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي في مواجهة النظام، رغم أن ورثة ذلك الجيل اليساري الوطني، للأسف، انحرفوا عن درب النضال وتخلوا عن تركة الآباء المؤسسون من أجل تسول المكاسب والمناصب.
لا فرق بين اليسار والإسلاميين بهذا الصدد، انتهوا صرعى بسبب الجشع والجبن، وأعتقد بأن الجماعة تستحضر هذا الواقع المر والنهاية المخزية الأليمة لمن سبقها في الارتماء في تجربة حكومية بلا ضوابط ولا ضمانات ولا أصول العمل السياسي المستقل والنزيه، لذلك تتردد في الإقدام على هذه الخطوة، وهي المرحلة ما قبل الأخيرة في النضال من أجل تحقيق التغيير المنشود، كما فعل اليسار والإسلاميين من حزب العدالة والتنمية، وهي المشاركة في اللعبة الانتخابية داخل صندوق النظام وقواعده وطقوسه وخرافاته ومقدساته، فتفضل إطالة عمر التبشير بالتغيير وإقامة نظام “الخلافة” وتحقيق”القومة” أكثر ما يمكن وتدعو شتات يسار لا وزن له للتحالف معه حتى لا تجد نفسها لوحدها في مواجهة النظام، بدل أن تعمل على تحقيق التغيير نفسه وتعتمد على قواعدها وعلى تراكم رصيدها النضالي من أجل العمل على رفع الظلم عن الشريحة المضطهدة العريضة، وهو غاية كل تنظيم سياسي وحركة تغيير حقيقية. إن الإنفاق من الحرية والعمر والصحة والأسرة الحياة هو الثمن الذي تدفعه حركة ورجال تغيير لنيل الهدف المنشود.
من جانبه، لم يختلف أمين عام الجماعة في كلمته، الأستاذ محمد عبادي، عن تشخيص الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مكتفيا بطرح أسئلة استنكارية على الطبقة الحاكمة دون أن يسمي من يتحملون مسؤولية هذه السياسات دستوريا وسياسيا وتاريخيا وأخلاقيا، واستطرد في تشخيص الواقع السياسي وتقريع النظام متسائلا: “أين يتجه المغرب؟”. إن حركة دعوية تدعي بأنها تحمل البديل، وقائدا يريد تحقيق هذا البديل على منهاج النبوية لا يطرح هذا السؤال الغريب، وإنما يطرح الجواب على السؤال ويطرح الوسيلة والآلية والسبيل من أجل تحقيق هذا الهدف، جواب قابل للقياس والإنجاز ومعقول شرعا وواقعا ومحدد في الزمان السياسي لا في الزمان المطلق كما هو حال الجماعة، يطرح جوابا إجرائيا وليس تشخيصيا، جوابا يحمل تبعاته ومسؤولياته وعواقبه وأثمانه على عتقه أمام الله ثم أمام الشعب والتاريخ، لا أن يلقي على شتات اليسار نصف المسؤولية في النهوض بهذه المهمة العظيمة ويدعوهم للتحالف من أجل التغيير. هكذا تساءل الملك ذات مرة: أين الثروة؟ واستهجن الناس والنخبة السؤال لأنه في مركز المسؤولية والسلطة وعلى رأس هرم الدولة وله مؤسسات وأجهزة قادرة على أن تجيبه على سؤاله، وقد فعلت بعضها وكان مصير رؤسائها الإحالة على التقاعد والنسيان عقابا لتجرئهم وصدقهم. كان حريا به أن يأمر بإحالة من سرقوا ونهبوا واستباحوا الثروة الوطنية إلى المحاكم والسجون لا أن يعاد تدويرهم في مناصب عليا جديدة.
ثم عاد أمين عام الجماعة ليجيب على سؤال “الكيف” باستحضار مرشد الجماعة الراحل في ذكراه التاسعة، وقال إن “الإمام عبد السلام ياسين أرقه ما يعانيه المغرب من ويلات وما يتخبط فيه من مشاكل، وما تعانيه الإنسانية جمعاء، لأن مشروعه مشروع إنساني بمعنى الكلمة، لذلك وضع خطة محكمة فيها خلاص للفرد والجماعة والأمة من شأنها أن تسهم في إنقاذ البلاد والنهوض بها من هذا الوضع المزري”. مؤكدا بأن مشروع جماعته”لا يزعم لنفسه الكمال والعصمة، فصاحبه وضعه للمدارسة والمناقشة والأخذ والرد والتعقيب والتصويب، لكنه يملك من مقومات النجاح ما ينافس به كل المشاريع”. لم يقدم أمين عام الجماعة، ولا جميع المتدخلين من قادتها في هذه الندوة، أي عنصر من عناصر سؤال “كيف التغيير” من وحي قراءة دقيقة للواقع الراهن وفهمه وتفكيكه وتجاوزه وطرح البديل عنه، وإنما الجميع يمتحي من كلام وكتابات المرشد الراحل كأن روحه لم تغادر جسد وفكر وعواطف الجماعة. أعتقد السبب في ذلك هو أن القيادة التي تولت إدارة الجماعة بعد المرشد ليس لها جديد تقدمه وبأن زمانها توقف قبل تسع سنوات مع رحيل مؤسسها، بل لم تفلح في الانعتاق من سلطة المؤسس أو تنزل تصوره للتغيير في واقع يتغير كل يوم، وليس، للأسف، لصالح ما تنشده الجماعة ولو كان يسار الشتات لها ظهيرا.
إن كثيرا ممن هم اليوم وراء القضبان، أو أحرارا مؤقتا، من أصحاب الأقلام والمواقف من إعلاميين وحقوقيين ومؤثرين ونشطاء وسائل الاتصال الاجتماعي، شخصوا وقع النظام وحالة الشعب ووضع البلد بشكل أعمق وأدق وأجرأ مما جاء في مداخلات ندوة الجماعة، بما فيها كلمة أمينها العام، وكان على من يقودون حركة إسلامية دعوية منظمة بهذا الحجم والقوة كما تقول تصريحاتهم ومسيراتهم وقد عمرت أكثر من أربعة عقود تدور حول ذاتها دون إنجاز سياسي واحد يتصل مباشرة بمعادلة الصراع والتغيير وبميزان القوة بينها وبين خصمها السياسي، النظام، حسب زعمها، كان عليها أن تتحلى بالتواضع وتعترف بعجزها عن الإجابة على سؤال “كيف التغيير” أمام جلد النظام ومكابرته وعناده وغروره بالرغم من أنه، هو الآخر، في حالة تخبط وارتباك ويتصرف بدون أي تخطيط استراتيجي أو تصور سياسي لقرارات وسلوكياته راهنا ومستقبل.
الجماعة، جمود في التفكير واحتكار في القيادة
الجماعة مثل باقي القوى السياسية، حزبية وحركية، أثبت هي الأخرى، كما تأكد ذلك مع تجربة حزب العدالة والتنمية خلال مؤتمرها الاستثنائي الأخير، بأن الجمود في التفكيرواحتكار القيادة في جيل التأسيس هو سيد الموقف، إذ لم تقدم لأبنائها خلال جلسات التربية مادة حرية الرأي والتعبير والاختلاف والاستخلاف القيادي، لتبقى ما يصطلح عليه بالقيادة التاريخية لا تغيب شمسها وعن مواقعها إلا بالموت وليس عبر دينامية التناوب القيادي بين مختلف الأجيال والكفاءات والاجتهادات، بل في حالة الجماعة، لازال المرشد المؤسس حاضرا بقوة بعد تسع سنوات من رحيله، ليس عبر الذاكرة والعاطفة والوفاء، وهذا أمر مقبول ومفهوم، ولكن في أدبيات ومفردات وندوات الجماعة لدرجة أن الكثير من قادتها وأبنائها يضعونه في مقام السمو والإمامة في المخاطبة والتعظيم والذكر والاستحضار، ويخاطبونه كأنه لازال بينهم وقادرا على إلهام القيادة الحالية في عملها وتوجيهها ومسارها ونهجها السياسي (!).
كل القوى السياسية بدون استثناء ربت وأنشأت أتباعها على الفكر المطبوخ والفهم المطبوخ للعمل الحركي والسياسي ولم تعلمهم الفكر والفهم والاجتهاد باستقلالية وحرية، لذلك حينما كانت تنظيماتها في حاجة لقيادات من الصف الثاني للانتقال بالعمل والمشروع نحو أفق أوسع وفرص أكبر من أجل التغيير بطاقات جديدة وإرادات متجددة قادرة على الاقتحام وفهم الواقع واستشراف المستقبل بشكل أكثر نجاعة وقوة ودراية وكفاءة، كما وقع مع حزب العدالة والتنمية مؤخرا، حينها لم تفلح هذه القيادة الشابة في الانتقال للصف الأول ولم يسمح لها جيل التأسيس بذلك.
لا شك أن النظام السياسي هو الآخر يقوم على نفس التقاليد والطقوس، انتقال القيادة بإرادة المؤسس أو القائم على رأس الدولة والحكم لا بطبيعة الأشياء وبإرادة المحكومين ومن يمثلونهم، لأن المسؤول الأول يخاف، كما هي القوى السياسية، أنه إذا أعطى الفرصة للصف الثاني والثالث الحرية في التعبير والاختلاف وفي تولي المسؤولية بحكم الكفاءة والاستحقاق مكانه لا بحكم الوراثة والشرعية التاريخية، أن يفقد مواقعه بما تمثله من امتيازات ومنافع واستئثار واحتكار للسلطة والمال والنفوذ. إن الأهم في أي مشروع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي هو نجاح واستمرار المشروع لا الأشخاص، وتطور الفكرة لا أصحاب الفكرة، لأن البناء والعمران والحضارة والدين ليسوا حكرا على جيل دون جيل أو على رجال دون رجال، الأهم في ذلك أن يتولى مسؤوليتها الأكفأ والأجدر والأنفع للفكرة وللمشروع.
لا يصبح انتقال المسؤولية لجيل الصف الثاني أمرا ضروريا وحيويا إلا إذا أصبح بقاء جيل التأسيس على رأس الحركة أو الحزب، كما حصل مؤخرا مع حزب العدالة والتنمية ويحصل في كثير من مواقع المسؤولية في الدولة، معطلا للمشروع ومعرقلا لنجاحه وبلوغ أهدافه السياسية والاجتماعية والحضارية، ولا يختلف وضع الجماعة اليوم عن هذه الحقيقة وعن هذا الواقع، جماعة تراوح مكانها منذ عقود،وتبحث عن أجوبة في سيرة مرشدها الراحل منذ سنوات لأسئلة واقع سياسي راهني معقد وعنيد ومتغير، جماعة لازالت تعبر عن نيتها في التغيير وتشخص أدواء المجتمع والدولة والحكم والأحزاب، وتبشر بنظام خلافة راشدة على منهاج النبوة طال انتظاره دون أن تتقدم خطوة واحدة في التأسيس له من خلال جدلية معادلة الصراع والتغيير على أرض الواقع، وطرح الآليات والوسائل والسبل المؤدية لهذا المقصد والهدف السياسي الكبير وفق جدول زمني معقول وواقعي.
- باحث في التاريخ السياسي المغربي