عودة القذافي للمشهد الليبي
إخترت في المقالين السابقين أن أبحر بالقراء الكرام عامة و طلاب العلم خاصة، في أعماق فكر مالك بن نبي و مشروعه الحضاري و تشخيصه لمشكلات الحضارة، و قد يبدو للبعض ان هذا المنحى نوع من الترف الفكري ، لكن من خلال تحليلي العميق للمشكل الحضاري، و للتخلف الذي تعيشه بلداننا العربية مقابل تقدم باقي البلدان و خاصة الأسيوية، أجد نفسي ملزما بالعودة إلى قضية الوعي و الفكر ، لأنها بداية كل تغيير ، فالمشكل بعالمنا العربي، ليس نذره المواردة أو الظرفية الدولية غير المساعدة ، و لكن المشكل بدرجة أولى في هذه الشعوب و سيكولوجيتها التي تتضمن مجموعة من القيم و السلوكيات المعيقة للتنمية و التقدم و التطور، فالفيروسات الفساد و الاستبداد القاتلة والمدمرة للنهضة، لا يمكن لها أن تنمو و تتكاثر و تتوالد دون وجود بيئة حاضنة، فصمت الشعوب العربية يدعونا إلى ضرورة تحليل سيكولوجية هذه الشعوب، وكيف تحكم على الأشياء وما رؤيتها للمستقبل، و خاصة في ظل الأوضاع القائمة و التي لا تزداد إلا سوءا و انحدارا للقاع…
آراء أخرى
وقد رأينا في مناسبات عدة، أن أغلب شعوب العالم لا تتعاطف مع الفساد و الاستبداد و تنتفض ضده من “باريس” إلى “موسكو” و “بكين” و “سيول” و”كوالالمبور”، وخير مثال على ذلك المظاهرات التي شهدتها موسكو قبل اشهر ضد الرئيس “بوتين” والتي رفعت شعار “ارحل بوتين” و ذلك على خلفية اعتقال الناشط و المعارض الروسي “أليكسي نافالي” الذي نشر على موقع يوتيوب فيلم استقصائي عن الفساد في هرم السلطة، و كشف عن القصر الفخم الذي يمتلكه بوتين على البحر الأسود و الذي تم بناءه بأموال غير مشروعة بحسب نفس المصدر، وقد تم اعتقال نحو 238 من أنصار “نافالني” خلال مظاهرات خرجت بمناطق مختلفة ونددت بالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” وطالب بالتغيير وبالتوازي مع ذلك تباطأت خدمات الهاتف المحمول والانترنت في عموم روسيا وهو نفس المشهد الذي تم في ثورات الربيع العربي…
الغريب و المدهش أن قيمة هذا القصر لا تتعدى مليار و نصف دولار، و مع ذلك خرج الشعب الروسي منتفضا على الفساد، مع العلم أن “بوتين” أنقد روسيا من الانحلال و الضعف ، و أعاد لها مجد الاتحاد السوفيتي، فمن المؤكد في عهد بوتين أصبحت روسيا قوة دولية لها وزنها و دورها في الساحة الدولية، و لنعرف حقيقة التحول الجذري يكفي العودة إلى وضع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي و في فترة حكم “يلتسين” الذي مهد الطريق لصعود بوتين…هذا الرقم لا يساوي شيئا مقارنة بالأموال المنهوبة و المهربة في العالم العربي من قبل حكام و نخب نجحت في الإفساد بإمتياز، ولم تحقق أي إنجاز إلا التفريط في حقوق الأوطان و الشعوب، و مع ذلك نجد أن الشعوب العربية صامتة و داعمة للثورات المضادة …
ما دفعني للعودة إلى الحديث عن موضوع الفساد و الإستبداد، و تعاطف الشعوب مع المستبدين و المفسدين، هو إقدام سيف الإسلام القذافي الملاحق قضائيا في ليبيا ومن المحكمة الجنائية الدولية ، عن تقديم ترشيحه رسميا للانتخابات الرئاسية في ليبيا يوم الأحد 14 تشرين الثاني /نوفمبر..فقد أكدت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في بيان صحافي” أن سيف الإسلام، نجل الزعيم معمر القذافي الذي قتله معارضون خلال ثورة 2011، قدّم “أوراق الترشح لرئاسة الدولة وتقدّم بمستندات ترشحّه إلى مكتب الإدارة الانتخابية في سبها (في جنوب البلاد)، مستكملا المصوغات القانونية”.
كما استلم بطاقته الانتخابية من المركز الانتخابي المسجل به بمدينة سبها، وفق البيان…وظهر سيف الإسلام في مقاطع مصورة تم تداولها على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، جالسا على كرسي، مرتدياً العباءة الليبية التقليدية والعمامة باللون البني، وهو الزي نفسه الذي كان والده يشتهر بارتدائه على الدوام… وكان الى جانبه محاميه خالد الزائدي. ووقّع سيف الإسلام عددا من الأوراق، وبعدها تلا آية من القران، وختم قائلا “بارك الله فيكم”، قبل أن يغادر مقرّ المفوضية في سبها…
وعلى الرغم من إعلان مفوضية الانتخابات في ليبيا استكمال سيف الإسلام القذافي “المسوغات القانونية” لعملية تقديم ترشيحه رسمياً، يظل الوضع القانوني لنجل القذافي المحكوم في ليبيا بالإعدام، والمطلوب من القضاء الدولي، محل جدل.
فقد صدر في حقه حكم بالإعدام في عام 2015 من قبل القضاء الليبي، رمياً بالرصاص، و ذلك نتيجة تورطه بارتكاب جرائم حرب لقمع الانتفاضة التي أطاحت بنظام والده العقيد معمر القذافي…لكن الحكم لم ينفذ ، و في عام 2017 أعلنت المجموعة المسلحة التي كان محتجزاً لديها إطلاق سراحه وفقا لقانون “العفو العام” المثير للجدل الذي أصدره البرلمان الليبي…
عودة القذافي للمشهد الليبي و هو من رموز الفساد و الاستبداد في بلده ، ليس بالاستثناء في عالمنا العربي الموبوء بالفساد و الاستبداد نفس الأمر تكرر في أغلب بلدان الربيع العربي، عودة الدولة العميقة و رموزها الفاسدة بدعم من قبل قطاعات واسعة من الشعوب العربية التي تعيش خارج العصر بكل ما تحمل الكلمة من معنى، تعيش محرومة من كل حقوقها الفطرية، و بالأحرى حقوقها المدنية و السياسية ، و بدعم من قبل أنظمة غربية ترفع شعار الديموقراطية و حقوق الإنسان ، لكن عندما يتعلق الأمر بمصالحها الاقتصادية، و الأمنية و الجيوإستراتيجية تتحالف مع المستبدين الفاسدين و لصوص الأوطان…
عودة الاستبداد ورموز الدولة العميقة قبل ربيع الشعوب 2011، و الذي نجح في كسر قيود العبودية و الاستبداد التي إمتدت لثلاثة عقود و نيف، فقد تم إسقاط نظام بن علي في تونس و نظام حسني مبارك في مصر ، ثم في ما بعد نظام القذافي و عبد الله صالح، و نحن على أبواب الذكرى الحادية عشر لهذه الأحداث، يسترجع الكاتب ذكريات هذه الفترة التي حملنا فيها أمالا و أحلاما كبيرة، تم إجهاضها و كسرها بفعل تفاعل و تداخل عدة عوامل منها: ماهو ذاتي مرتبط بنا نحن معشر شباب الثورة و قياداتها، و منها ما يعود للدولة العميقة و أباطرة الفساد و شبكاته، و أيضا الدور الذي لعبته القوى الخارجية الغربية و الخليجية في دعم الثورات المضادة ، فبدورنا في المغرب خرجنا للشارع بكثافة، وكلنا أمل في بناء وطن يسوده العدل و الحرية و المساواة و يحترم كرامة و أدمية كل مواطنيه..
ولأخفيك أخي القارئ ، أن خروجنا أو سعينا للتغيير لم يكن نتاج لمطلب شخصي أو سعي لمنصب أو مغنم ، و لكن لأننا نريد بناء دولة تدار و تحكم على نفس شاكلة كوريا الجنوبية و ماليزيا و اليابان ، فمواقفي السياسية منذ 2011 دفعت ثمنها من خلال دعمي إعلاميا للحراك المغربي و العربي عامة ، و دعم غزة عندما تعرضت للقصف الصهيوني و بموجب هذا الدعم تعرضت القناة الفضائية في لندن و التي تملكها الشركة التي أتولى رئاسة مجلس إدارتها، لمضايقات من جهات لا أعلم ما تريد …لكن و نحن نرى الشعوب العربية استسلمت للظلم و الفساد و الاستبداد مجددا، و أضاعت البوصلة و فرطت في حقوق الشهداء و المعتقلين نصاب باليأس و الحزن الشديدين…ففي هذه الفترة قدمنا جميعا تضحيات بالغة من أجل التغيير، لكن للأسف الثورات تم سرقتها من قبل شداد أفاق و منافقين يسرون غير ما يعلنون…و إرتكبنا كقادة للحراك أخطاء جسيمة، ليس المجال لذكرها ، و نتمنى أن نكون قد إستفدنا جميعا من أخطاءنا …لأن الانتفاضات الشعبية قادمة لا محالة ، فالأسباب التي أشعلت حراك 2011 لازالت على حالها ، إن لم نقل أنها تضخمت و توسعت و الاستبداد تعمق و تجبر و الفساد تفشى و طغى…
فقد أصبح من الشائع في قضايا الفساد العابر للحدود حضور قيادات بعض بلدان الخليج، ففي ماليزيا تم الكشف عن الدور الذي لعبته السعودية والإمارات في قضايا الفساد التي تم إثارتها في عهد رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق، إذ كشفت التحقيقات أن الرجل و بعض أقاربه تلقي رشى خارجية منها 681 مليون دولار من الأسرة المالكة بالسعودية، كما كشفت قضايا الفساد التي تورط فيها وزراء سابقون، ومسؤولون اقتصاديون جانبا آخر، لعلاقة ولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد” وإخوته في تدمير التجربة الماليزية، وهو ما جعلهم بالوثائق مرتكبين لجرم و معرضين للمتابعة القضائية الماليزية… إذ كشف اتصال أجراه “نجيب عبد الرزاق” بولي عهد أبوظبي، و طلب منه بشكل صريح المساعدة في تهم غسل الأموال التي يواجهها ابن زوجته صانع الأفلام في هوليوود “رضا عزيز”، وذلك في أوج فضيحة الصندوق الماليزي السيادي العالمي، التي بدأت الولايات المتحدة التحقيق فيها منذ عام 2016…
وفي الشهور الماضية تم الكشف مجددا على أن ملك إسبانيا السابق “خوان كارلوس” تلقى أموالا من ملك السعودية الراحل “عبد الله” ، وقد تم فتح تحقيق في ذلك مع ملك إسبانيا و أفراد أخرين من العائلة الحاكمة، لكن من يستطيع محاسبة حكامنا العرب الذين يتصرفون في أموال و ثروات شعوبهم كأنها ملك خاص لهم اكتسبوه بجهدهم و عرقهم متناسين أن هذه الثروات نعمة من الله يشترك فيها جميع المسلمين..و ليست حكرا على الحاكم و من يدور في فلكه..؟ فلو كان هؤلاء الحكام مقاولين أو تجار أو حتى مقامرين لا صلة لهم بالسياسة والشأن العام لما كلفنا نفسنا بالحديث عنهم ، أو السعي إلى محاسبتهم فهم أحرار فيما كسبوه و فيما ينفقونه..نفس الأمر ينطبق على باقي البلدان العربية بما فيها بلدي المغربي و أوراق باناما و ذهب دبي شاهد على حجم الفساد، و ما خفي أعظم…
والحقيقة أن غياب المساءلة و المحاسبة و غياب الحكم الرشيد سبب رئيس فيما نراه من تبذير لثروات الشعوب العربية، فالأموال و الثروات العربية أنفقت في تدمير أغلب بلدان العالم العربي و إعاقة تحرر الشعوب العربية، فبأموال الخليج دمرت سوريا و ليبيا و اليمن، و بأموال الخليج تم دعم الانقلاب العسكري في مصر و تمويل مشاريع السيسي الشخصية و الفئوية..و بأموال الخليج يبنى سد النهضة الذي يشكل أكبر تهديد لمصر و شعبها..و بنفس الأموال تم تدمير اليمن و تشريد هذا الشعب..و بأموال النفط تم تمويل الانقلاب على حكومة “أردوغان” في تركيا..و بأموال النفط تم تأجيج الفتنة الطائفية بين السنة و الشيعة في العراق و لبنان..و بأموال النفط تم الاتفاق على تمويل “صفقة العار” وتصفية القضية الفلسطينية، و التخلي عن القدس و حق اللاجئين و إقبار الحقوق الفلسطينية في أرض فلسطين لصالح الكيان الصهيوني المغتصب للأرض و العرض..بإيجاز أموال العرب تم استثمارها في تدمير الوطن العربي و خدمة المصالح الغربية التوسعية الإمبريالية…
والشعوب بالنهاية هي من تدفع و ستدفع ثمن هذا الفساد من قوتها و مستقبلها و مستقبل أبنائها..فهناك عملية لتوريث الفقر و الجهل و انعدام التنمية، و المستقبل في ظل الظروف الراهنة لن يكون حتما إلا أكثر سوءا و سوداوية، وتغيير هذه الحتمية ، رهين بموقف الشعوب حاضرا من الفساد و النخب الفاسدة، و صمت الشعوب و قبولها بالوضع القائم و استسلامها لمنطق القمع و التضليل سيحكم عليها بالاستمرار في نفس الحلقة المفرغة من الفقر و التفقير والتجهيل و التهميش و القمع المنظم…
ففساد الأنظمة العربية الحاكمة أصبح أمرا واضحا و شبه مؤكد ، و “ليس بين القنافد أملس”، فمن المؤكد أن العالم العربي الإقليم الوحيد في العالم الذي لا يزال يعيش تحت رحمة الفساد السياسي و الاقتصادي، واحتكار السلطة وقمع الحريات المدنية والسياسية، هذا إلى جانب إتباع سياسات عمومية عرجاء لا تخضع لأي منطق عقلاني، فحالة الفقر و انسداد الأفق لدى أغلبية شباب المنطقة ليس نتاج لضعف الموارد كما يقول أصحاب الكراسي و المكاسب، فلو كانت البلاد العربية تعاني فعلا من ضعف الموارد لما اكتشفنا ملايير الدولارات تهرب سنويا إلى خارج حدود العالم العربي…في الوقت الذي تعاني فيه بلدان عربية من اتساع دوائر الفقر و التهميش…فالاختيارات التنموية و السياسية المتبعة في أغلب هذه البلاد لن تقود –حتما- لمستقبل أفضل و على الشعوب أن تدرك هذه الحقيقة حتى تتحرك صوب تغيير وجه السياسات و الاختيارات الفاشلة و موقف الشعب الروسي و الإسباني و الصهيوني و الماليزي خير مثال…
فعلى المستوى الاقتصادي مثلا لا يمكن أن يتحقق إقلاع اقتصادي دون وجود منافسة حرة و تكافؤ في الفرص وسيادة القانون و استقلال القضاء و الشفافية في تداول المعلومات الاقتصادية ، فلا يعقل أن ينافس تاجر عادي –مهما كان حجم رأس ماله – وزيرا أو مسئولا حكوميا فهذا الأخير يتوفر على ميزة تنافسية أفضل بحكم المنصب أو القرب من دائرة صنع القرار، لأجل ذلك يحرص العالم المتقدم على محاسبة أي مسئول عمومي حقق مكسبا تجاريا أو غيره من المنافع بحكم المنصب، لكن في العالم العربي أقرب الأبواب لتحقيق الثروة الاستثمار في السياسة …
خلق دورة تنموية حميدة لن يتحقق دون مكافحة الفساد و نهب المال العام، فالتساهل في هذا الجانب يدمر كل عملية تنموية مهما كانت سليمة نظريا، و كلمة المفتاح في أي تحول ناجح هو مكافحة الفساد و الفصل الصارم بين التجارة والسلطان، و هو أهم تحدي يواجه الشعوب العربية في المستقبل القريب، و على خلاف التفاؤل الذي يبديه حكام المنطقة و داعميهم بأن الشعوب العربية لن تكرر ما قامت به في 2011 ، فإني على قناعة أن التغيير قادم لا محالة ، الحراك الشعبي الذي تشهده السودان و تونس و المغرب و العراق و لبنان..كلها بوادر تؤشر على ان العودة لتكرار سيناريو ما قبل 2011 مسألة مستبعدة، و الموجة القادمة للربيع العربي ستكون أكثر فعالية و قطار التغيير لن يحمل هذه المرة بين عرباته الفاسدين و المنافقين و المنتفعين و المطبلين للأنظمة الحاكمة التي تأكد بأنها تخدم مصالحها الشخصية و مصالح القوى الكبرى التي تحميها، و من يعتقد عكس ذلك فهو لم يقرأ التاريخ جيدا…و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..