رأينا في مقال” خصخصة الشركات المملوكة للدولة بين العلاج بالصدمة و أسلوب التدرج..” كيف أن الاقتصاديات الاشتراكية واجهت أسئلة ملحة مرتبطة بالمنهجية التي ينبغي أن تتبعها للتحول إلى القطاع الخاص، فمعظم بلدان (CEE) قررت خصخصة عدد كبير من الشركات المملوكة للدولة، معتمدة في ذلك أسلوب “العلاج بالصدمة” ، فتم  تفويت المؤسسات العمومية للقطاع الخاص ب”الجملة”، وهو ما كان له في البداية تأثيرات سلبية على استقرار الاقتصاد الكلي.في مقابل ذلك، انتهجت الصين أسلوبا مغايرا نوعا ما، فالخصخصة مست في البداية قطاعات ومناطق جغرافية محدودة، فكانت البداية بخصخصة الاستغلاليات الزراعية، أما تفويت المؤسسات المملوكة للدولة فلم يكن عاما، إذ أن الصين اختارت تفويت المقاولات الصغيرة والمتوسطة، بينما أبقت على المؤسسات الكبيرة الحجم.  ولم تتبنى الحكومة وجهة النظر الداعية بتسريع وثيرة الخصخصة و إنما تبنت أسلوب التدرج …

وسنحاول من خلال هذا المقال استكمال ذات النقاش وإعطاء تصور عام، عن التحولات التي مست دور الدولة والسياسات العمومية بعد 1978. ولن نركز هنا على توصيف الأداء الاقتصادي أو الاجتماعي، بقدر ما سنركز على البحث في ملامح التحول التي طبعت أسلوب وأدوات عمل السياسات العمومية. وكيف استطاعت الحكومة الصينية أن تواجه بكفاءة دورة «انشطار الإصلاحات “، فكل إصلاح يقود باتجاه إصلاحات أخرى موازية أو مواكبة.

فالتحكم في مخرجات السياسات العمومية في مجال تحفيز النمو الاقتصادي مثلا، لم يقتصر على مجرد الانفتاح الاقتصادي والتحول نحو اقتصاد السوق، بل اعتمد على وضع دورة جديدة لسياسة النمو الاقتصادي الذي يقوده التصنيع.. والتصنيع مرتبط بتسريع معدل الاستثمار، والاستثمار الكثيف في البنية الأساسية، ولتحقيق الاستثمار الضروري لابد من تشجيع الادخار الخاص، ولتشجيع الادخار لابد من تحويل هيكل الإنفاق، من هيكل يعتمد على الرفاه الاجتماعي، إلى هيكل في الإنفاق يركز على خلق البنية الأساسية للتصنيع والإقلاع الاقتصادي.

لذلك، فان السياسات الاقتصادية واكبها تحول في السياسات الاجتماعية، فالدولة لم تقم ب”تسويق” الاقتصاد فحسب، بل عملت أيضا على “تسويق السياسات الاجتماعية” بإدخال “فاعلين غير دولاتيين” . وذلك بغرض توفير الدعم المالي اللازم لإنفاذ مختلف السياسات العمومية. كما تم اعتماد أسلوب اللامركزية في تنفيذ السياسات العمومية، فعدد المشاركين في الإنفاذ والتمويل قد توسع ، فأصبحت الدولة توجه أكثر مما تتدخل  .

كما أن سياسات الإصلاح جعلت الدولة مطالبة بتقوية نمط الضبط والربط، عبر مجابهة التحديات الجديدة المتولدة عن الإصلاح. فسياسة النمو القائم على التصنيع بالرغم من نجاحها في تحقيق معدلات نمو مرتفعة، إلا أنها قادت باتجاه مجموعة من الاختلالات التي ينبغي للسياسات التدخل لمواجهتها ، وهو ما قاد بالنهاية الى تقوية دور الدولة في المجتمع.

ولتحليل هذا التشابك في السياسات العمومية، سنعمد إلى تحليل سياسة النمو الاقتصادي، وذلك عبر البحث في العوامل التي ساعدت على تسريع النمو، والآثار الارتدادية التي ولدتها هذه السياسة، و من خلال تحليلنا لسياسة النمو الاقتصادي القائم على التصنيع، سنلاحظ أن النمو السريع لم يكن تلقائي بل نتاج لسياسات مواكبة. وهذه السياسات حرصت على ضمان تأمين خلق “دورة حميدة للنمو”، عبر الاستثمار الكثيف في البنية التحتية، وتشجيع الادخار المحلي والأجنبي على الاستثمار في القطاع الصناعي.. لكن على الرغم من نجاح السلطات الصينية في حفز النمو، إلا أن النمو السريع ولد بدوره تحديات جديدة، ومن تم دخلت الصين في حالة من “انشطار الإصلاحات” فكل إصلاح تتولد عنه سلسة من الإصلاحات اللاحقة.. وهذه الخاصية لم تقتصر على السياسات العمومية في المجال الاقتصادي، بل شملت حتى السياسات الاجتماعية، والتي عملت بدورها على تدعيم سياسة النمو الاقتصادي السريع… وهو ما سنحاول شرحه بتفصيل في القادم من الأيام  إن شاء الله تعالى … والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

*أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..