
نَـقْد العَمل بِالتِيَارَات السياسية داخل الحِزب

في هذا المقال، أنـتـقد العمل بأسلوب ”التيارات”السياسية داخل الحزب(courants politiques, political currents). وقد اِستعملتُ بعض الحُجَج المُسْتَخْلَصَة مِن تجربة استعمال هذه ”اليارات”داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحّد”، الموجود في المغرب.وقد دامت هذه التجربة خلال قرابة عشرين سنة(ابتداءً من يوليوز 2002).
آراء أخرى
وقبل الشُرُوع في نقاش مسألة ”التيارات”، نحتاج إلى تقديم بعض المُعْطَيَات أو التفاصيل حول أحزاب اليسار بالمغرب. وفي سنة 2021، يتـكوّن اليسار في المغرب من أربعة أحزاب، ومن بعض التِيَّارات أو التـنظيمات المتنوّعةوالمستـقلّة. وهذه الأحزاب الأربعة هي”الحزب الاشتـراكي الموحّد”، و”حزب الطليعة الديمقراطي الاشتـراكي”، و”حزب المؤتمر الوطني الاتحادي”، و”حزب النهج الديمقراطي”. وتـتحالف الأحزاب الثلاثة الأولى في ”فيديرالية اليسار الديمقراطي”. وتسعى أحزاب ”فيديرالية اليسار”إلى اِنْدِمَاجِهَا في حزب يساري واحد. ومنذ قرابة سنة 2015، تَـقدّمت كثيرًا هذه الأحزاب الثلاثة في مجال نـقاشاتها، وتـقاربها، وتـعاونها، إلى درجة أنها أصبحت في بداية سنة 2021على وشك الإعلان عن اِندماجها في حزب واحد مُوَحَّد.
وسبق لِـقيادات أحزاب اليسار الثلاثة، المُتحالـفة في إطار ”فيديرالية اليسار الديمقراطي”بالمغرب، (وهي”الحزب الاشتـراكي الموحد”، و”حزب الطليعة”، و”حزب المؤتمر”)، أن وضعت تصريحا لدى هَيْئَة (تَابِعَة لِوزارة الداخلية) تُشْرِفُ على تـنظيم الانتخابات في المغرب.وَيُخَوِّلُ هذاالتصريح للأحزاب الثلاثة(وهي ”الحزب الاشتـراكي الموحد”، و”حزب الطليعة”، و”حزب المؤتمر”)تـكوين تحالـف سياسي، وانـتخابي. ويسمح هذا التصريح للأحزاب الثلاثة بِتَرْشِيح أعضائها بشكل مُشتـركَ، في إطار لائحة انتخابية واحدة،خلال الاستحقاقات الانـتخابية المقبلة، والتي سَتُجرىفي شتـنبر 2021.وبعد مُرور عدّة شهور على إِيدَاع هذا ”التصريح”، واعتبارًا لِحُدُوث أفعال، واعتبارًا لِتَرَاكُم رُدُود أفعال، أَثَارت خِلافات وصراعات مُتوتِّرَة،فيما بين مكوّنات ”فيديرالية اليسار”، أَقْدَمَت فَجْأَةًنـبيلة مُنيب، (الأمينة العامة ”للحزب الاشتـراكي الموحد”، وَبِدَعْم من أغلبية أعضاءالمكتب السياسي لهذا الحزب)، أقدمت على سَحْب توقـيعها من التصريح المشتـركالمُسَجَّل لدى الهيئة المُشرفة على تـنظيم الانتخابات.وسحب توقـيع نـبيلة منيب يعني عمليا انسحاب حزبها (”الحزب الاشتـراكي الموحد”) من ”فيديرالية اليسار الديمقراطي”، ومن هيئاتها الوطنية والمحلية. وفي 4يوليوز 2021، اِجتمع المكتب السياسي ”لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي”، والكتابة الوطنية ”لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتـراكي”، وقرّرا استمرارَ تحالـف ”فيديرالية اليساري الديمقراطي”، ولو بعد اِنسحاب ”الحزب الاشتـراكي الموحد”منه.
وفي عشرة أيام الأخيرة من شهر يونيو 2021، وَقُبَيْل انطلاق عملية الانـتخابات العامة المُبرمجة في شهر شُتنبر 2021 (وهي الانتخابات المتـعلّقة بِالغُرف المِهَنية، وبالجماعات المَحلية، وبالجِهات، وبالأقاليم، وبالبرلمان)، حدثـت صراعات، وصدامات، وخصومات.
وأدّت فَجْأَةًمُبادرات وَقَرارات نـبيلة منيب(الأمينة العامّة ”للحزب الاشتراكي الموحّد”)إلى تـقسيم ”الحزب الاشتـراكي الموحد”إلى ”تِيَّارَين”سِيَّاسِيَّيْن عَدُوَّيْن،وَمُتَـنَاحِرَيْن.وأدّت كذلك إلى تـقسيم «فيديرالية اليسار»بالمغرب إلى طَرفين مُتناقضين.
وأسباب هذه الصّراعات الحادّة، وأحداث هذه الانـقسامات المُخَرِّبَة، التي وقعت في ”الحزب الاشتـراكي الموحد”، وكذلك في ”فيديرالية اليسار”، مُتـعدّدة،ومُتـنوّعة، ومُزمنة،ومتـرابطة فيما بينها. ومن غير الممكن أن نـُحَلِّـل هنا (في مقال قصير) كل هذه «الأسباب»،و«النقائص»،و«الأخطاء» المُرْتَـكَبَة.وقد سبق لي أن شرحتُ أهمّ نَـقَائِص، وأخطاء، وَنُـقَطُ ضُعف، أحزاب اليسار بالمغرب، في كتاب سابق يحمل عنوان ”نَـقد أحزاب اليسار”. ويمكن للـقارئ المُهتم أن يُنَزِّلَ هذا الكتاب من مُدَوَّنَة الكاتب( ). ومن المؤسف أن عامّة المناضلين لا تَـقرأ بما فيه الكفاية.وسأكتـفي هنا بِالإشارة إلى أهم أسباب ضُعْف وَتَـأَزُّم ”الحزب الاشتـراكي الموحد”.وألخّصها فيما يلي:
1) عدم توفّر الحزب على مسؤولين قـياديّين مُحْتَرِفِين، أي مسؤولين مُتَـفَرِّغِين للعمل السياسي الثوري.وَمُجْمَل قَادَة أحزاب اليسار بالمغرب يُرَكِّزُون جُهدهم على عملهم المِهَنِي، وعلى عائلتهم، ولَا يَتَـفَرَّغُون للنضال السياسي سوى خلال يوم الرَّاحَة أو العُطلة الأسبوعية.
2) العمل بأسلوب ”التِيَّارَات”السياسية(courants politiques, political currents)داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحد”. وهذا الأسلوب يؤدّي، في آخر المطاف، إلى تَكْبِيل الحزب المعني، ثم إلى تخريبه.(وسأعود فيما بعدلِلـتَـفْـصِيلفي نـقد العمل بأسلوب ”التيارات”السياسية داخل الحزب).
3) ضُعف التَـكْوِين السياسي، والنظري، والثـقافي، لدى معظم أعضاء، وأطر، وقـياديِّي ”الحزب الاشتـراكي الموحد”،وكذلك لدى مُجمل أحزاب اليسار بالمغرب.(خاصّة في مَيَادِين: النظرية الماركسية، وتاريخ الثورات المُجتمعية في العالم، وَفُنُون الثورات المُجتمعية، وفنون التـنظيم، وأساليب النضال الجماهيري الثوري، وتاريخ المغرب، والـفلسفات، والمنطق، والنظريات الاقتصادية، والعُلوم، والتـكنولوجيات، وعلوم المُجتمع (sociologies)، وفلسفة الـقانون، والبيئة، إلى آخره). ولا تتوفّر أحزاب اليسار على مَدَارِسَمُنَظَّمَة، وَمُمَنْهَجَة، وَمُتَوَاصِلَة، لتـكوين أعضاء الحزب، وأطره. ولا تـُـقَدِّم أحزاب اليسار لأعضائها تـكوينا منظما، ومتواصلا، ومتنوّعا.
4) لَا تُشَجِّـعُ القيادات السياسية أعضاءَ الحزب على ضرورة الرَّبْط بين المبادئ السياسية الثورية، والأخلاق النـبيلة. كما لَا تَحُثُّهَا على ضرورةالرّبط بين النظريات والمُمَارَسَات.
5) الثـقة المبالغ فيها في ”العمل السياسي العَلَنِـي”.والتَخلّي التام عن الاحتياطات الحزبية السّرية. وعدم التشدّد في مُراقبة شروط الحصول على العضوية دَاخل الحزب. والإفراط في فتح إمكانية العَضوية في الحزب على مصراعيه أمام كل غريب. وَخُلُوّ الحزب مِن العمّال والـفلّاحين.وهيمنة الأشخاص البرجوازيّين الصِّغار على الحزب. وعدم توفّر الحزب على جهاز أمنيمُضاد لِلْمُخبرين، ومضاد لِتَسَرُّب العناصر المُعادية إلى داخل الحزب. وَنَسِيَ قادة ”الحزب الاشتـراكي الموحد”أنه سبق مرارًا وتـكرارًا للأجهزة المخابراتية (التابعة للنظام السياسي الـقائم في المغرب)أن سَرَّبَت عناصرها داخل بعض الأحزاب اليسارية القديمة، وحوّلتها مِن الداخل إلى نَـقِيضِها. (مثل تَسَرُّب اسماعيل العلوي، ونـبيل بـن عبد الله،إلى داخل ”الحزب الشيوعي”الـقديم، وحوّلاه إلى حزب ملكي، محافظ، ويميني، وانتهازي. وتوجد أمثلة أخرى على عناصر تسرّبت داخل”حزب الاتحاد الوطني للقُوَّات الشعبية”، وَعَمِلَت على إضعافه، وعلى تقسيمه. كما تُوجد أمثلة أخرى على تَسَرُّب عناصر مُعادية إلى داخل ”حزب الاتحاد الاشتـراكي”، وسَاهَمَت في تحويله إلى حزب ملكي، ويميني، وغير مبدئي. إلى آخره).
6) مَيْلُ بعض الـقِيَادِيِّين في أحزاب اليسار بالمغرب، وخاصة منهم بعض الكُتَّاب العَامِّين، إلى محاولة فرض «زَعَامَتِهِم»الشخصية(leadership)،أو إلى مُحاولة تَرْسِيخمَنَاهِج «الزَّعَامِيَة» داخل الحزب. وتُبْنَى دائمًا «الزَعَامَة»على أساس غُرُور «الزَّعِيم»، وعلى أساس أوهامه الشخصية، وَذَاتِيَتِه المُفرطة. وقد سبق لي أن أوضحتُ كيـف أن منهج «الزَّعَامِيَة» يُؤدّي حتمًا إلى إضعاف الحزب، ثميُؤدِّي إلى تَخْرِيب طَاقَات الحزب (أنظر مقال: «نَـقد الزَّعِيم وَالزَعَامِيَة»)،
7) في إطار تـفسير نَاقِص، أو خاطئ، لانهيّار ”الاتحاد السوفياتي”، تَـقَرَّبَت بعض أحزاب اليسار(ومنها ”الحزب الاشتـراكي الموحّد”) مِن المناهج الإصلاحية، أو اِبْـتَـعَدَت عن استراتيجية النضال الثوري، أو تَنَحَّت عن تُرَاث الـفكر الماركسي الثوري،أو تخلّت عن المَرَاجِـع النظرية الأساسية، المتجلّية خُصوصًا في النظرية الماركسية. كما تـراجعت بعض قـوى اليسار عن الطُمُوح إلى الاشتـراكية الثورية، أو أصبحت تُعاديها، أو غَدَتتَـتَبَـنَّـى الرأسمالية، أو الليبيرالية، كنظام مُجتمعي حَتْمِـي وَأَبدي.وَصَارَت بعض أحزاب اليسار تَـعتـقد أن الرأسمالية هي المصير الوحيد والأبدي للبشرية. بينما المُلاحظ فيما بعد انهيّار ”الاتحاد السُّوفْيَاتِي”، هو أن رُوح الثَورية هي النظرية المَاركسية ! وكلّ المناضلين القُدَامَى الذين تَخَلَّوْا عن دراسة تُرَاث الفِكْرِ الماركسي الثوري، أَصْبَحُوا رَأْسْمَالِيِّين، أو مُحَافِظِين، أو يَمِينِيِّين، أو مُتَعَاوِنِين مع الإمبرياليات!
8) لا يمارس قادة أحزاب اليسار (بما فيهم قادة”الحزب الاشتـراكي الموحد”) النـقد الـفكري، والصراع الأَيْدِيُولُوجِي، ضد الأطروحات الاقتصادية الرأسمالية، ولا ضدّ الأفكار السياسية البرجوازية، ولا ضد الأيديولوجية الإسلامية الأصولية.
—– * —- * —–
بعد هذه الإشارة المُوجزة السّابقة إلى جزء محدود منالأسباب العامّة التيأَزَّمَت”الحزب الاشتـراكي الموحد”، لنحاول الآن التـعمّـق في دراسة،وَلَوْ سَبَب واحد، من بين هذه الأسباب المذكورة سابقًا، وهو العمل بأسلوب ”التِيَّارَات”السياسية داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحد”. وهذا الحزب، هو الوحيد في المغرب الذي ظلّ يعمل بأسلوب ”التيارات”السياسية. ويوجد تـرابط بين عمل هذا الحزب بأسلوب ”التيارات”، وبين احتـداد التـناقضات داخله، إلى درجة استحالة التـعايش، والتـعاون،والتـكامل، فيمابين ”التيارات”السياسية المكوّنةلهذا الحزب.
لَا يُمكن فهم العمل بِـ ”التيارات”السياسية، داخل ”الحزب الاشتراكي الموحّد”، دون الرجوع إلىتَـفاصيل تاريخ الصراعات السياسية داخل هذا الحزب. ومِن المؤسف أنه لم تُنشر بعد أية دراسة حول تَاريخ ”الصراع بين التيارات”السياسية داخل ”الحزب الاشتراكي الموحّد”.
وحسب توضيحات المناضل غني القباج، أحد المشاركين في تأسيس وبناء هذا الحزب، كان هذا الحزب يتكوّن مِن أربعة مُكَوِّنَات مختلفة. وقد بدأ العمل بأسلوب ”التيارات”قبل المؤتمر الأول للحزب في سنة 2004. وكان المناضلون الماركسيّون الثوريّون في الحزب هم السَبَّاقُون (في سنة 2002) إلى الدِّفَاع على ضرورة العمل بأسلوب ”التيارات”السياسية داخل ”الحزب الاشتراكي الموحّد”.وكان هدفهم من ذلك هو تَوْفِير فضاءلِلتَحَاوُر، ولِلْعَمَل المُشترك، داخل الحزب المُشترك الواحد، فيما بين أعضاء الحزب الحاملين لأفكار، وتصوّرات، وَطُمُوحَات، سياسية مختلفة. وكانتغَايَة أولئك المناضلين الماركسيّين (مِن اِستعمال”التيارات”) هو تَلَافِي الاِنْشِـقَاقَات، أو الاِنْـقِسَامَات، بين المجموعات الحاملة لِأُطْرُوحَات سياسية مُختلفة أو مُتَبَايِنَة.وفي المؤتمر الثاني للحزب، المُنْعَـقِد في سنة 2007، قُدِّمَت للمُؤتمرين 7أرضيات. ولم تَحْصُل على ”العَتَبَة القانونية” (أي 5 %من الأصوات) سوى 5أرضيات.وكان العمل بأسلوب ”التيارات”يتمّ كالتّالي: أثناء انعقاد مؤتمر الحزب، تُـقَـدِّمُ كل مجموعة (أو ”تِيَّار”) أرضية سياسية خاصّة بها؛ ثم يُصوت المؤتمرون (كأفراد مُسْتَـقِلِّين، وليس كَمُنْضَبِطِين لِهَيْئَة مُعَيَّنَة) على مختلف الأرضيات السياسية المقترحة؛ ثم تُوَزّع مَـقَاعِد ”المجلس الوطني”للحزب بين هذه ”التيارات”المُتبارية، وذلك حسب النِسَب المِئَوِيَة التي حَصَلَت عليها مختلف الأرضيات.بينما تُمْنَحُ أغلبية مقاعد ”المكتب السياسي للحزب”إلى ”التِيَار”الذي حصل على أغلبية الأصوات.و”المجلس الوطني”هو أعلى سلطة في الحزب. وهو الذي يَحْسِمُ في القرارات الهَامَّة.وَيُطْلَبُ مِن ”الأمين العام للحزب”أن يعمل كَمُنَسِّـق، وليس كَـقَائِد، أو كَمُـقَرِّر.مع التَأْكِيد على إِيصَال كل الأخبار والمعطيات إلى كلّ أعضاء ”المجلس الوطني”.وكان أولئك المناضلين الماركسيّين يُلِحُّون على ضرورة العمل بِأُسْلُوب «القيادة الجماعية»، وليس العمل بِـ «قِيَّادة ”التيار”الأَغْلَبِي»، وَلَا بِقيادة «زعيم»مُعَيَّن(أو «زعيمة»).لكن الذي حدث فيما بعد، وبالمَلْمُوس، هو أن المجموعات السياسية المختلفة أخضعت فكرة ”التيارات”السياسية الداخلية في الحزب لِلتَّحْرِيف، ولِلتَشْوِيه، لِـتلبية مصالح خاصّة، أو لِخِدْمَة طُمُوحات شخصية انتهازية، أو يَمِينِيَة.
وخطأ العمل بهذه ”التيارات”السياسية يأتي خُصوصًا مِن كونها، لَا تـعمل كَـ «تيّارات فكرية»، وإنما تـعمل كَـ «جماعات عَصَبِيَة»، أو كَـ «قَبَائِل سياسية».بل تحوّلت ”التيارات”بسرعة إلى «أحزاب» قائمة بذاتها، داخل الحزب الواحد المشترك.ويميل كلّ ”تيار”إلى القيّام بأنشطة سياسية، أو يقوم بدعاية سياسية، خاصّة به كَـ ”تيّار”مُتَمَيِّز. وكلّ نشاط سياسي للحزب يُصبح مُنَظَّمًا، ومَحْسُوبًا، بِمنطق المُحَاصَصَة فيما بين”التيارات”، وليس بِمَنطق الحزب الواحد المُشترك.
وفي الأصل، كان المطلوب من هذه ”التيارات”السياسية أن تـَـكُونُ مَرِنَة في مواقفها، ومُتَحَرِّكَة في تَركِيبَتِهَا البشرية، وذلك حَسب تطوّر الواقع، وحسب تطوّر الأطروحات الـفكرية، وحسب تَـقدّم الاجتهادات النظرية.لكن في تجربة ”الحزب الاشتـراكي الموحد”، بَـقِيَت هذه ”التيارات”السياسية، وخلال قرابة عشرين سنة،ثَابِتَة في جماعات بَشريةمُحدّدة، وفينفسالأشخاص المَعْنِيِّين. بل تـعملهذه ”التيارات”السياسية كَـ «أحْزَاب داخل الحزب» الواحد. وَلَا تَـتَـغَـيَّـرُ تَرْكِيبَة هذه ”التيارات”السياسية، حتّى لَوْ تَبَدَّلَت الأوضاع السياسية، وَحتّى لَوْ تـغيّرت الإشكاليات السياسية المطروحة.
ومن الغرائب أنه، منذ أن بدأ ”الحزب الاشتـراكي الموحد”العمل بأسلوب «التيارات»السياسية إلى الآن، على امتـداد قُرابة عشرين عامًا، لم نشاهد نـقاشات فكرية حقيقية، أو صراعات أيديولوجية، حول أطروحات سياسية، بين هذه «التيارات»السياسية. وإنما رأينا، على الخصوص، تـنافسًا، أو تـدافعا، أو تـزاحما، بين أشخاص أو جماعات، حول مناصب المسؤوليات القيادية في الحزب. الشيء الذي يُوحِي، أو يؤكّد، أن «التيارات» السياسية، المعمول بها داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحد”، هي في الحقيقة«قبائل سياسية»، وليست«تيارات»فكرية.
ومن الغرائب أيضًا أنه، رغم الطابع الحاد، والمتواصل، للصراعات السياسية الجارية فيما بين ”التيارات”السياسية الموجودة داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحد”، فإن عامّة المناضلين في قـوى اليسار الأخرى، وكذلك المناضلين غير المُتَحَزِّبِين، لا يَقدرون على مَعْرِفَة، وَلَا على فَهْمِ، ما هي بالضبط الخلافات السياسية، أو النظرية، الـقائمة فيما بين ”التِيَارَات”الموجودة داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحّد”.ويشهد كثير من المناضلين أن هذه الصراعات (القائمة داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحد”) هي صراعات بين شخصيات، أو بين جماعات، أو بين «قبائل»سياسية، وليست صراعات بين خُطُوط سياسية حقـيقـية ومُتَبَايِنَة.وكثير من مناضلي اليسار لا يـفهمون مثلًا ما هي الخلافات السياسية، أو النظرية، أو التـكتيكية،أو الاستـراتيجية، الموجودة فيما بين ”تِيَّار”الأغلبية المرتبط بالسَّادَة نـبيلة منيب، ومصطفى مسداد، ومصطفى بوعزيز، وابراهيم يَاسِين، ومحمد بُولَامي، من جهة أولى، ومن جهة ثانية ”تِيَّار”الأقلية المُرتبط بِالسّادة محمد السَاسِـي، ومحمد امجاهد، وعمر بلافريج، ومصطفى الشناوي.ورغم الصراع الحاد بين هذين ”التيارين”، فإنهما، هما مَعًا، يُعَارِضَان النضال الجماهيري الثوري، وَيَـتَـهَـرَّبَان هُمَا معًا من المُساهمة في خوض النضالات الجماهيرية المُشتركة، وَيُؤْمِنَان هما معًا بِإِمْكَانِيَة إِصْلَاح النظام السياسي من دَاخل مؤسّـساته الصُّورية، واستراتيجيتهما هما معًا تَـقْـتَـصِرُ على المُراهنة على المُشاركة في انتخابات تُوصِلُ إلى مُؤسّـسات شكلية، وَهُمَا معًا يرفضان الماركسية الثورية، ويرفضان الطموح إلى الاشتراكية، ويـقبلان العمل في إطار الرأسمالية، ويقبلان التَـقَيُّدَ بِمَنْظُومَة الانتخابات كما هي، ويرفضان مواجهة مَنَاهِج الرأسمالية.
وَفي تاريخ المغرب الحديث، حدثـت العديد من الانشقاقات في أحزاب اليسار. وكانـت دائما ”التيّارات”«الأكثر ثورية» هي التي تـنـفصل، أو تَبتـعد، عن ”التيارات”«الأقلّ ثوريةً»، أو «الأكثر يمينيةً». لكن في حالة الصراعات الحالية التي جرت داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحّد”، لا تـعرف عامّة المناضلين مَن هو ”التيّار”الأكثر «ثورية»، وَلَا مَن هو ”التيّار”الأكثر «يمينية»، مِن بين ”التِيَّارَيْن”الرئيسيّين المتصارعين داخل هذا”الحزب الاشتـراكي الموحّد”.
والسبب في غموض هذه الصراعات بين ”تيارات”الحزب الاشتـراكي المُوحّد،يرجع لكون هذه ”التيارات”، أو «الـقبائل»السياسية، لَا تُعَبِّر، وَلَا تُوضِّح، وَلَا تـنشر، بما فيه الكفاية، آراءها السياسية، أو النظرية، أو التـكتيكية، أو الاستراتيجية.ولا تُمارس النَـقْد السياسي المكتوب، أو العلني. ويبقى السِجَّال فيما بين هذه ”التيارات”يدور حول: «قَالَ فُلَان»، و«فَعَلَ فُلَان»، و«فُلَان مُمْتَاز»، و«فُلَان أَرْعَن»، و«فُلَان زْوِينْ»، و«فُلَان خَايْبْ»،و«فُلَان مَعَنَا»، و«فُلَان ضِدَّنَا»، إلى آخره. وغالبًا ما لَا يرقى النـقاش، أو الجِدَال، فيما بين هذه ”التيارات”إلى مُستوى البحث النظري، والمَوْضُوعِي،والمُعمَّـق، والعِلْمِي، حَول آراء سياسية، أو حول أطروحات نظرية.
وعندما نـقرأ الآراء النادرة التي ينشرها الأفراد أو الجماعات المتصارعين داخل ”الحزب الاشتـراكي الموحّد”، نلاحظ أن خلافاتهم، لا تـدور حول أطروحات فكرية، أو حول تـكتيكات مختلـفة، أو حول برامج استـراتيجية، وإنما تـدور هذه الصراعات حول التـنافس فيما بين أشخاص، أو بين جماعات، تـعمل كَـ «أحزاب»مُتميِّزة ومتواجدة داخل نـفس الحزب الواحد الشّامل. ونلاحظ أنه لا تُوجد خلافات استـراتيجية فيما بين أعضاء هذه ”التيارات”. بل يَتَّـفِـقُأعضاء مختلـف هذه”التيارات”على الكثير من الـقضايا الأساسية. وبإمكانهم أن يتـعايشوا داخل حزب واحدوموحّد، وبدون الإحتياج إلى العمل بأسلوب ”التيارات”السياسية.
وَبعد تجربة ”انهيّار الاتحاد السوفياتي”(في قرابة 1990)، وبعد انـتشار التـفسير الغربي الرأسمالي لهذا الانهيّار، أصبحتغالبية أُطُر ”الحزب الاشتـراكي الموحد”تظنّ أن وجود «الديمقراطية»داخل هذا الحزب، يستوجب بالضرورة العمل بأسلوب ”التيارات”السياسية. وأصبح أحد أســس هذا ”الحزب الاشتـراكي الموحد”هو العمل بأسلوب ”التيارات”السياسية داخل الحزب.
لكن نـتيجة العمل بِـ ”التيارات”التي حصدها هذا الحزب، لم تـكن هي «الديمقراطية»الداخلية، وإنما هي إغراق الحزب في مُنَافَسَات عَقِـيمَة،أو في صراعات غير مُنْتَهِيَة، ليس حول أطروحات فكرية، وإنما بين أشخاص وجماعات يصعب التوفيـق بين طموحاتهم الشخصية أو الزَعَامِيَة.
كما أدّى العمل بأسلوب ”التيارات”إلى تَـكْـبِـيـل مُجمل طَاقات الحزب، وذلك إلى درجة أن الحزب لم يَعُد قادرًا على اكتساب أية فعالية في ميدان النضالات الجماهيرية المشتركة.
وكان دائمًا ”التيار”السياسي الذي يحظى بالأغلبية داخل مؤتمرالحزب، يُمارس سُلطة مُطلـقة على ”التيارات”الأخرى، ويهمّشها إلى حدّ الإقصاء.وحتّى داخل ”التيار”ذُو الأغلبية في الحزب، لَا نجد العمل بِـ «الديمقراطية» الداخلية، وإنما نجد مجموعة صغيرة من الأشخاص هم الذين يَنْـفَرِدُونبِتَدْبِير تطوّر هذا”التيار”، ويُـقرّرون كذلك في تطوّر الحزب المشترك، بعيدًا عن إشراك ”التيارات”الأخرى المنافسة، وبعيدًا عن إشراك أعضاءالقـواعد الحزبية في التـفكير، وفي تهيئ اِتِّخَاذ الـقرارات السياسية الهامّة. فَلَا يُمكن ”لِـتِـيَّارات”لَا تُمارس الديمقراطية داخل هَيْئَاتِهَا الخاصّة، أن تُمارس الديمقراطية مع ”التيارات”الأخرى المنافسة لَهَا.
ومن خلال الاتهامات المُتَبَادَلة فيما بين ”التيارات”، يظهر أولًا أن ”التيار”ذُو الأغلبية داخل الحزب، لَا يُـقَيِّدُ نفسه بِتَـنْـفِـيـذ قرارات مؤتمر الحزب، وإنما يمارس توجّهات مخالـفة، أو مناقضة لها. ويظهر ثانيًّا أن ”التيارات”لا تلتزم عُمُومًا باحترام صَارِم للقوانين الداخلية للحزب.وَيَعْجِزُ عامّة المناضلين المعارضين، أو غير الرَّاضِين عن الفوضى التنظيمية الجارية داخل الحزب المعني، عن إِجِبَار ”التيارات”على احترام مُجمل بُنُود النظام الداخلي للحزب.
وكلما كان الحزب يعمل بأسلوب ”التيارات”السياسية، يصبح «الوَلَاءُ لِلتِّيَار» السياسي أقـوى وأهم من الوَلَاء للحزب المشترك. وَتَغْدُو «العَصَبِيَة لصالح التيار» السياسي أَوْلَـى من العصبية لصالح الحزب المشترك. وحتّى المبادئ، والمناهج، والأهداف، والمُـقَرَّرَات، التي يُسَطِّرِهَا مُؤتمرالحزب بِصُعُوبَة في وثائقه الداخلية، تُصبح فَورًا ثانوية بِالمُـقارنة مع ضرورة الانـتماء إلى ”التِيَّار” السياسي، والدِّفَاع المُتَـعَصِّب عنه. ويُصبح المطلوب من العُضو في الحزب هو أَوَّلًا الانضباط ”للتيّار”السياسي، بينما الانضباط للحزب يبقى ثانويّا، أو ضعيـفًا، أو ضئيلًا، أو مُنعدمًا.
ويؤدّي العمل بهذه ”التيارات”إلى انـتشار العمل بـ «الزَّبُونية السياسية»داخل الحزب المعني. وهذه «الزبونية»تُمارس على شكل مُكَافَأَة مَن يُناصر”الزَّعِيم”، أو مَن يُناصر”التيّار”المعني،عبر منحه بعض المسؤوليات في الحزب، أو عبر إعطاءه بعضالامتيازات (سواءً كانـت مَبدئية، أم غير مبدئية،وسواءً كانـت معنوية، أم سياسية، أم غيرها).
وفي إطار العمل بأسلوب ”التيارات”داخل الحزب الواحد، تُصبح مُمارسة المُراقبة المُتبادلة، والمحاسبة المُتبادلة، غير مُمكنة. لأنه مهما كانـت أخطاء، أو نَـقَائِص، أو عُيُوب، أيّ عُضو مُحدَّد في الحزب، فإن المطلوب منه هو فـقط أن يكون مناصرًا مُتَعَصِّبًا ”لِتِيَّارنَا”السياسي الخاص. أما إذا كان هذا العُضو من تِيَّار منافس، فهو مَيْؤُوس منه، ولَا أمل في نَـقده، وَلَا في مُراقبته، وَلَا في مُحاسبته، وَلَا في تَـكوينه، ولا في تَـثْـقِيـفِه، ولا في إصلاحه.
وقد أدّى العمل بأسلوب ”التِيَّارات”السياسيةداخل ”الحزب الاشتـراكي الموحد”إلى اِحْتِدَام المُنافسات الشخصية، وإلى تَأَجُّـج الصِّراعات الذاتية، وإلىتَضْيِـيـع مُعظم طاقاتالحزب في صراعات داخلية مُعَـقَّدَة، وَغَامِضَة، وَعَـقِـيمَة، وَمُزْمِنَة،فيما بين ”التِيَّارات”السياسية الموجودة داخل الحزب. وإذا اِسْتَـثْـنَـيْـنَا المشاركة في الأنشطة الانتخابية العمومية، يكاد الحزب لا يُساهم في أية أنشطة نضالية جماهيري مشتركة. وَبِسبب العمل بأسلوب”التيارات”السياسية خلال قُرَابَة عِقْدَين، تحوّل ”الحزب الاشتـراكي الموحد”إلى نَـقِيضِه، أي أنه تَحَوَّلَ إلى حزب ”غير اشتـراكي”، و”غير مُوَحَّد”.وأُصِيب بعض أعضاء هذا الحزب باليأس، أو الإحباط.
وبعد قُرابة عِقْدَيْن من العمل بأسلوب ”التيارات”، حدث ما كان مُحَتَّمًا، وهو انـفجار ”الحزب الاشتـراكي الموحّد”، وانقسامه إلى ”تيّارات”تَائِهَة، أو مجموعات مُعَادِيَة، أو فِـرَق نَاقِمَة.وقد سبق لي أن نَبَّهْتُ، في كتاب ”نـقد أحزاب اليسار”، المنشور على الأنترنيت مُنذ قرابة سنة 2012، إلى أن ”التيارات”السياسية التي تـعمل داخل حزب مُحدّد كَـ «قبائل سياسية»مُتَـنَافِسَة، وَمُتَـنَاقِضَة، وَمُتَـنَاحِرَة، ستـكون نـتيجتها الحتمية، وفي آخر المطاف، هي أولًا انـقسام هذا الحزب المعني إلى جماعات متنافسة. وهي ثانيًّا تَـكْـبِيل طَاقَات الحزب. وهي ثَالِثًا خَنْـق مُجمل المُبادراتالمقترحةداخل الحزب المشترك. وهي رابعًا إضعاف الحزب، وَحَبْس إشعاعه السياسي.
ومن إِيجَابِيَّات العمل بِأسلوب ”التيارات”داخل الحزب، أنه يَدفع كلّ ”تِيَار”إلى أن يُـعَبٍّرَ بِالملموس عن طُموحاته السياسية الخَـفِيَة. ورغم المناورات السِرِّيَة لبعض ”التيارات”داخل ”الحزب الاشتراكي الموحّد”، اِنْـفَضَحَت(منذ سنة 2006)اِتِّصَالاتزُعماء بعض هذه”التيارات”بالسُّلطة السياسية، أو بِخُدَّام القصر الملكي (مثل المستشار فُؤاد عَلِي الهِمَّة)، واتَّضَح تَوَجُّهُهُم نحو العمل السياسي الإصلاحي والانتهازي، مِن داخل المُؤَسَّـسَات الشَّكْلِيَة، أو المَغْشُوشَة، التابعة للنظام السياسي القائم.وَانْكَشَـفَ استعداد بعض ”الزعماء”لِمُمَارسة الكَوْلَسَة، والحلقية، والمُساومات المَخْـفِيَة على المناضلين القاعديّين.
والعمل بأسلوب ”التيارات”السياسية، ليس خَاطئًا، أو سلبيًّا، أو مرفوضًا، بشكل دَائِم، أو مطلق. وإنما يكون العمل بهذه ”التيارات”خاطئا حينما لا تتوفّر شُروطها الضرورية. ومن أهم شروط العمل بِـ ”التيارات”السياسية، أن تـكون هذه ”التيارات”مجموعات فكرية، أو فِرَق ثَـقَافية، أو عِلْمِيَة، وأن تـكون مَرِنَة، وَمُتَحَوِّلَة، حسب تطور الظروف، وحسب تطور الاجتهادات الـفكرية، أو النظرية، أو العلمية.لكن حينما يكون المُجتمع المعني متخلّفًا، أو حينما يكون فيه الجهل عميـقا، والغِشُّ شَائِعًا، أو مُنـتشرا، مثلما هو الحال في المجتمعات المُسلمة، وفي المُجتمعات الناطقة بالعربية، فإن ”التيارات”السياسية تتحوّل بسهولة إلى «جماعات مُتَعَصِّبَة»، أو تتطوّر إلى «قَبائل سياسية» غير مبدئية.
ومن خلال قراءة هذا المقال، قد يظهر لبعض القرّاء أن أحزاب اليسار التي تَعمل بِـأسلوب ”التيارات”السياسية داخل الحزب الواحد هي أحزاب مُخطئة، وأن أحزاب اليسار الأخرى (التي لا تستعمل ”التيارات”) هي أحزاب جَيِّدة أو مُمتازة. وسيكون هذا التأويل خاطئا. والحقيقة المُرَّة هي أن مُجمل أحزاب اليسار بالمغرب تعيش في أزمات مُعـقّدة، ومركّبة. وَتُعَانِي مِن ضعف بِنْيَوِي ومُزمن. لكن هذا موضوع آخر.
وإذا لم تـقم قـوى اليسار بعمليات التَـقْـيِيم، والتَـقْـوِيم، والتَـثْـوِير، فإنها سَتُصبح مُتخلّفة، ثم ستَخْتَـفِـي مِن السّاحة السياسية. وقد تُعوّضها قوى ثورية أخرى من نوع جديد. لأن الصراع الطبقي لَا يتوقف إلّا مع زوال الطبقات من المُجتمع.
(حرّر المقال في 9يليوز 2021).