
إشكال النظرية والمنهج في بناء النموذج التنموي الجديد

شكيب بنموسى أثناء تقديمه لخلاصات تقرير النموذج التنموي للملك محمد السادس
في المنهج التشاركي للنموذج التنموي الجديد
آراء أخرى
لقد أشاد التقرير العام حول النموذج التنموي كما جل الوثائق المرفقة به والكثير من المتتبعين بالمنهج التشاركيالذي تم اعتماده لصياغة النموذج التنموي الجديد، وذلك من خلال استجلاء مميزاته كمنهج حرص على تحريك الذكاء الجمعي وتخصيص متسع من الوقت للاستماع إلى كل مكونات المجتمع وإلى الساكنة والمراكمة المعرفية عبر استثمار التجارب الفردية لأعضاء اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي. وقذ شكل هذا المنهج نقطة بارزة في كل محطات تواصل اللجنة حول النموذج، وذلك من خلال تمثله كمنهج قوي وقويم لاستقاء وجهات نظر مختلفة ولجس النبض بخصوص متطلبات وحاجيات المجتمع والساكنة. وبغض النظر عن أهمية هذا المنهج بخصوص الإنصات إلى امال المجتمع، ماذا عن نجاعته كمنهج علمي لبناء نموذج اقتصادي نظري، وكيف تم تمثله واستثماره من طرف اللجنة في محاولة منها الاجابة على قضية استعصى حلها في المغرب مند الاستقلال وشكلت قطبا معرفيا في مجال الاقتصاد السياسي مند نهاية الحرب العالمية الاولى.
بالنظر إلى طبيعة مخرجات عمل اللجنة وإلى الصيغة النهائية التي أخرج بها النموذج التنموي يمكن توصيف هذا المنهج بكونه عملية واسعة من الإصغاء خصت مختلف مكونات المجتمع، وهو منهج، بالرغم من الإيجابيات ذات الطابع السياسي والأخلاقي والتي ترتبط بفعل الاستشارة الواسعة، لا يمكن الجزم على كونه منهجا علميا أو بالأحرى منهجا قياسيا علميا يتوخى منه تجريب فرضيات مستشكلة للعملية التنموية في المغرب سابقة في تحديدها عملية الإصغاء هاته.
فالنموذج التنموي من حيث المبدأ هو نموذج نظري يستوجب إحاطة نظرية وتاريخية بإشكال التنمية. والإحاطة النظرية هاته ملزمة لتحديد فكرة التنمية المراد سياقها من داخل النموذج وضرورية ليتسنى معه تحديد الخيط الناظم لعملية التنمية. فما انفصلت يوما عملية التنمية عن الاصطفاف النظري، و تاريخيا كانت مسألة التنمية من بين الاشكالات الاقتصادية الاكثر إثارة للتجاذبات النظرية كونها في ذلك عملية تهتم أساسا بإعادة توزيع القيمة المنتجة وبإحداث تغيير بنيوي في عملية تراكمها وتوزيعها، وكونها أيضا تلك القضية التي لا يمكن حلحلتها دون إيجاد توافق بنيوي لعملية الصراع العضوي بين العمل والرأسمال والذي تحتويه بشكل دائم عملية الإنتاج.
فالصيغة النهائية التي اخرج بها النموذج، ومنهجه الجمعي، تسوق فكرة برغماتية ونمطية عن التنمية، تستند اكثر إلى مصفوفة واسعة من الأهداف الطموحة، والتي تعكس في ذلك فعلا الانتظارات الواسعة التي تم استقاؤها عبر عملية الاستماع، ولا ترتكز على فرضيات وبناء نظري مسبق يتم معه حصر مبتغى جديد من التنمية في إطار نموذج جديد. فكل ما أوصى به النموذج الجديد قد تم تجريبه نسبيا في المغرب على مدى طويل يتجاوز ستين سنة، وكل الاهداف المسطرة في هذا النموذج تم تسطيرها مسبقا، بنسب وطموحات متفاوتة، في عدة مخططات وسياسات قطاعية ومبادرات تنموية شاملة…وهي تجارب كان يخوضها المغرب دائما في معزل تام عن المرتكزات النظرية المؤطرة لفعل التنمية. ففي أحسن التقديرات، كانت هاته التجارب تستنسخ الاختيارات الخاصة بالاقتصاديات المتقدمة والتي تشتغل بشكل تام وفق ميكانيزمات اقتصاد السوق المتقدم، كنظرية التوازن الماكرو اقتصادي والتي تبناها المغرب كشرط موجب للإقلاع الاقتصادي (Le démarrage économique) مند نهاية الثمانينات، على مدى يتجاوز الثلاثين سنة، والتي في الحقيقة كانت شرطا قياسيا لتحقيق بعض التوازن الماكرو- مالي مقابل تقليص هوامش السياسات التنموية. فالمغرب قد انسلخ في سياساته الاقتصادية عن نظريات التنمية وعن التشخيصات المنبثقة عن الاقتصاد السياسي مند بداية الستينات، حينما قرر مراجعة أول مخطط خماسي تم تبنيه بعد الاستقلال ما بين 1960-1964 في أقل من سنة عن انطلا ق تنفيذه، وهو المخطط الخماسي الوحيد الذي تمت صياغته بناءا على مرتكزات اقتصاد التنمية .
وإذ ندفع بهذه الملاحظات نعتبر أن المغرب قد عرف أزمة للتنمية على مدى جد طويل تمحورت بشكل اساسي في فهمه للعملية التنموية، وبذلك قد راوحت قضية التنمية مكانها في المغرب مند الاستقلال معلنة على أزمة في النظرية والمقاربة والنموذج، حيث كانت كل التجارب والمخططات والسياسات القطاعية ومختلف المبادرات تعجز في النهاية على إحداث فارق تنموي وعلى التأصيل لمفهوم ناجع للتنمية. وإذ نصف التجارب التنموية التي مر بها المغرب على هذا الشكل نستحضر فهما خاصا ومحددا لعملية التنمية كعملية معقدة تستوجب تفكيرا علميا ودقيقا يبتدئ بالحسم في اختيار المقاربة كما تشترط من بين مقوماتها تمكين الأفراد من حد أدنى من القدرات الاقتصادية والانتاجية وكذا تمكينيهم من حد أدنى من الاختيار في المسألة الاقتصادية (A Sen ; J Rawls, M Nussebaum) وهو الشيء الذي لا يمكن تحقيقه في غياب رؤية جديدةيكرسها نموذج جديد لتوزيع القيمة المنتجة والتغيير الهيكلي في أنماط تراكمها. ومن هذا المنطلق يتضح أن التأسيس لفهم اقتصادي جدري لقضية التنمية يقتضي في البداية إرساء نموذج يتيح أمكانية التغيير الهيكلي لبنيات الإنتاج وللتشكيلة الاجتماعية التي يكون فيها الاقتصاد هو المحدد الأخير والرئيس .
ماذا سيحمله النموذج الجديد من جديد في مجال التنمية إذا لم يكرس توزيعا جديدا للقيمة المنتجة وتغييرا هيكليا في أنماط تراكمها. من وجهة نظر علم الاقتصاد، نسبيا لن يكون هناك فارق جديد، فصياغة نموذج تنموي جمعي وشامل لا ينطلق من ضرورة تغيير أنماط التراكم والتوزيع الموروثة عن البنية الاقتصادية القائمة والتي لم تسمح تاريخيا عبر زمن طويل بإحداث فارق تنموي لا تعدو أن تكون تجربة أخرى في نفس السياق الاقتصادي القائم، إذ لم يحدث تاريخيا ان حصل تغيير تنموي فقط بمجرد رسم أهداف شاملة جديدة مهما كانت طموحة ومها كانت محفوفة بحسن النية السياسية مقارنة بالتجارب السابقة. فإحداث الفارق التنموي يتأتى عبر تجريب وجهات نظر جديدة وتغيير للبارديكم خصوصا في المجالات المرتبطة بتراكم وتوزيع القيمة. فربما كان الأجدى هو التأسيس لنموذج يقطع مع بارديكم تاريخي أطر السياسات الاقتصادية في المغرب على مدى تجاوز الستين سنة .
يرتكز دفاعنا عن هذا التوصيف الخاص للمنهج التشاركي الذي تبنته اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي من خلال تقديرينا بكون المدخل الرئيس للتفكير في العملية التنموية هو بالأساس مدخل اقتصادي أو بشكل أدق مدخل مرجعه الفكري هو الاقتصاد السياسي. ولعله التقدير الذي جعلنا نقف على طبيعة المنهج التشاركي في هذا التقرير والذي لم يكن منهجا قياسيا او منهجا تجريبيا قياسيا تم تبنيه حينما تقرر استشكال قضية التنمية في الاقتصاد المغربي والتي تستدعي وجوبا استحضار فكر الاقتصاد السياسي, وهو ما جعلنا أيضا نقول بأن هذا المنهج هو منهج يكتسي أكثر الطابع الأخلاقي والسياسي كونه ينحصر في جمع أكبر عدد من المتطلبات وتدوينها وإعادة صياغتها على شكل أهداف على المدى المتوسط.لقد قدم التقرير طريقة الاشتغال على هذه العناصر من خلال ما أسماه بالمنهج التكراريdémarche) itérative ( والتي بين انه منهج يعمل على ربط ما ينبثق عن عملية الاستماع في الجلسات الميدانية بآراء الخبراء وأعمال التشخيص المؤسساتية.
فهذه المقاربة المنهجية في شموليتها لا تسمح بتحديد مدخل دقيق ومركز حول فكرة التنمية المراد التأسيس لها ولا بحصر الاصطفاف النظري والمرجع الفكري والتاريخي والذي تستدعيه حتما كل عملية تخص التفكير في سؤال التنمية، وهو سؤال يستوجب الحسم مبدئيا في الفرضيات والمفاهيم، كما يستوجب معه الاستلهام من النماذج النظرية التي طورها الاقتصاد السياسي. والغرض من هذا المطلب ليس ترفا فكريا أو إيديولوجيا ثانويا بل الغرض منه هو الحسم في شرط المقاربة المؤهلة والناجعة (Approche pertinente) والمتوافقة مع البيئة المجتمعية والاقتصادية للمغرب، ذلك على اعتبار أن المقاربة النظرية هو شرط إمكانية (Les conditions de possibilité) نجاح النماذج الاستشرافية في الاقتصاد. وشرط صرامتها الفكرية والإمبيريقية (Empirique).
ما يمكن أن يختلف عنه إتنان في هذا الصدد هو المدخل النظري الذي يمكن اختياره كمدخل ناجع محدد لأفاق النموذج التنموي المراد إرساؤه، وهي مسألة تستوجب بدورها البرهنة والتبرير النظري والإمبريقي. وفي غياب الحسم النظري في المنهج والمقاربة يغيب الاطار المعرفي المحدد لصيرورة التنمية ولطبيعتها والتي يراد التأسيس لها من داخل أي نموذج محدد، وبذلك تغيب الفكرة المؤطرة لإشكال التنمية ولا تتضح من داخل النموذج نفسه، والذي يبقى نموذجا عاما لا يستجيب لشرط الصرامة الفكرية والمعرفية الدقيقة ويتحول بذلك لنموذج تمت صياغته بمتطلب براغماتي وبأفق نمطي كسابقيه من المبادرات الأخرى والعديدة والتي تم تجريبها في المغرب على سنوات طوال. نعم فالنموذج الجديد يختلف عن ما سبقه من مبادرات، وهو اختلاف لا يتجاوز المستوى الكمي من حيت الأهداف والطموحات والإشراك الواسع لمكونات المجتمع، لكن لا يمكن أن نقول أنه نموذج مختلف في معنى التنمية المراد التأسيس لها وفي الافكار والفرضيات التي يبني عليها نظرته الجديدة لعملية تراكم وتوزيع القيمة، والتي ندكر أنها تشكل ماهية عملية التنمية في كل نموذج.
بخصوص الاختيارات المؤطرة للنموذج التنموي نفترض أنه لا يمكن بناء نموذج لا ينتصر لاتجاه نظري معين، ففي وقت معين من صيرورة بناء النموذج لابد من الخوض في ضرورة الاصطفاف والدفاع عن خيارات نظرية صرفة، إذ لا يستقيم القول بنموذج ينتصر للأجماع على إشكال يهم اساسا إعادة توزيع القيمة ويروم إعادة تنظيم العلاقة الانتاجية بين العمل والرأسمال بشكل جدري وبشكل يغير في المحصلة التركيبة العضوية للقيمة المنتجة، بحيث ترتفع معها القيمة التفاوضية والانتاجية لقوة العمل من داخل عملية الانتاج، ذلك على اعتبار أن رفع قيمة العمل لا يمكن ان تتأتى إلا من داخل بنية العلاقة الانتاجية وهي علاقة صراعية بالاساس. والقول بالأجماع لوصف نموذج شامل حول إعادة توزيع القيمة والثروة قد يعيد إنتاج نفس الرؤية التنموية التي سادت لسنين ولم تحقق الفارق التنموي، تلك الرؤية التي كان متحمسة على الدوام لمجال النظريات المعرفية التي تستند إلى أطروحة النفعية(utilitarisme) والتي طال اعتبارها بشكل دغمائي مرجعا ناجعا لتحقيق شروط التنمية، وإن كانت أطروحة تهتم أساسا برفع نسبة النمو في العملية الانتاجية ولا تعير أهمية لمنطق التوزيع ولضرورة تحقيق عدالته–التوازن بحسب باريطو(Optimum de Pareto) . إن عدم الدفع برؤى بديلة واستقاء فرضيات جديدة هو أيضا دليل على عدم الاكتراث لسؤال ضرورة تغيير المرجعيات الفكرية والقياسية التي رهنت عملية التنمية لعقود من الزمن في المغرب…فالثبات عن اختيار نظري دون اخر في هذا الشأن يحدد مدى جدية التأسيس لنوع جديد من التنمية على مدى طويل، ومطلب استحداث الاختيار النظري في هذا الصدد هو بمثابة حيرة نظرية وتساؤل حول عجز النظريات التي تم تجريبها لسنوات في المغرب وحول ضرورة تجاوزها، ومطلب الاستحداث النظري هذا وجب الوقوف عليه مليا من طرف المعنيون باستشكال عملية التنمية وهو شرط واقف لصياغة نموذججديد يخص هذه العملية.
في فكرة للتنمية .. تنفصل عن النظرية
في البداية، ولرفع أي لبس في فهم فكرة التنمية التي ثم سياقها في خضم إنتاجات اللجنة فيجب أن نقر بكون الثيمات والمحاور التي تم حصرها لتفعيل عملية التنمية استراتيجيا هي في غاية الاهمية في حالة تنفيذها. ما يثير الملاحظة في ذلك، هو كونها عبارة عن ثيمات بمثابة توصيات، وهي على شكل مداخل للتغيير وللإرساء التنمية في أفق محدد زمنيا، وهو أفق قصير، لا يتجاوز 14 سنة، كما انها عبارة عن توصيات متعددة ومتداخلة تنكب في مجملها مباشرة على وصف ما ينبغي ان يكون عليه الاقتصاد المغربي في الافق الزمني السالف الذكر، ولا تأخذ عناء الخوض في تحديد مكامن الخلل والتي جعلت الاقتصاد المغربي لم يتمكن من الولوج للمرحلة التي يسميها الاقتصاديون بمرحلة الاقلاع، ولو بشكل جزئي أو قطاعي؛ ودون الاستيهاب في الجرد التاريخي للبنية الاقتصادية وتوصيفها، كونها تلك البنية التي لم تكن قابلة لاستنبات شروط التنمية كما شروط الاقلاع، والتي اقتصرت على تحقيق ما يسميه الاقتصاديون بالتوازن الهش دو المستوى الدنيء (Equilibre de bas niveau) خصوصا مع بداية الالفية الثالثة حين تمكن المغرب من إدراك مستوى جديد ومتميز من معدلات النمو ولم يتمكن من ولوج مرحلة الاقلاع الاقتصادي ومن تجريب مرحلة تنموية صارمة.
غالبا ما يتم وصف بنية الاقتصاد المغربي، في المرحلة الحديثة، مند بداية الالفية الثالثة، بالبنية الغير الصارمة(structure molle) على اعتبارها بنية يمكن أن تسمح بتحقيق معدلات مرتفعة من النمو بين الفينة والاخرى، دون أن تتمكن من تحقيق ذلك بشكل مستمر على مدى متوسط، وهو ما يجعلها بنية مضطربة لا تسمح بتخفيض نسبة المديونية العمومية ولا تتمكن من الحصول على هوامش مهمة لسن سياسات اقتصادية من ِشأنها تحديث البنية ككل وتوسيع نسبة النشاط الاقتصادي ليشمل كل النسيج الاقتصادي. وهو ما يستمر معه رهن كل محاولة ضهور شروط التنمية. هذه التوصيفات، بغض النظر عن مدى نجاعتها العلمية، تتيح إمكانية استقاء فرضيات وأفكار جديدة والتي بتجريبها يمكن الولوج إلى بارديكم جديد والانسلاخ عن مأزق إعادة إنتاج نفس التجارب السابقة. هذا النوع من التوصيفات، كما غيرها، لم يتم الإحاطة بها ولا الإشارة لها من داخل النموذج التنموي الجديد، وهو ما يصعب معه تحديد فكرة محورية لماهية التنمية التي تم التأسيس لها من داخل هذا النموذج.
يقوم النموذج التنموي الجديد بتقديم الوضعية الراهنة والتشخيص كمدخل لكل مذكراته القطاعية كجانب نظري مبرر لتحديد الأهداف الكلية للنموذج. يقتصر هذا الجانب على تناول بعض النقط على شكل كلمات مفاتيح، دون تبرير اختيارها. فمثلا في المدكرة الخاصة بريادة الاعمال والتحول الانتاجي يتم اختيار كلمات مفاتيح من قبيل كلمة التحديث وكلمة التنويع وكلمة التصدير كما يتم استقاء بعض المعلومات وبعض الارقام من بعض المؤسسات كالمندوبية السامية للتخطيط…كما يتم استخدام نفس المنهج في التشخيص حيت يتم إدراج بعض المعيقات والتي يتم حصرها ببعض العوامل المرتبطة أساسا بالتكلفة ومناخ الأعمال والمبادرة الحرة وميكانزمات التحفيز، بعد كل هذا يتم الانتقال مباشرة إلى تحديد الاهداف والطموحات ، مثل هدف رفع القيمة المضافة الصناعية والتكنولوجيا العليا من نسبة 28 في المائة إلى 60 في المائة في أفق 2035 . هذا ما يشكل الأساس النظري الذي تم اعتماده لتحديد التوجهات الاستراتيجية في الافق الذي حدده النموذج.
هكذا يكون النموذج لا يحيل على توجه نظري خاص في تأطيره لعملية التنمية من داخل النموذج، بحيث يقتصر على مستوى ضيق في التشخيص والذي لا يسمح باستنتاج ضرورة إحداث تحول في البارديكم المتحكم في الرؤية التنموية ولا يتسأل حول مدى نجاعة القطع مع الرؤية القائمة وهل من الأمثل الاستمرار في اعتمادها، رغم عقمها التاريخي في احداث الفارق التنموي. بذلك يستمر النموذج الحالي كما النماذج والسياسات السالفة عليه في تبني طموحات تنموية في غياب فكرة واضحة ومحددة لصيرورة التنمية بذاتها، وهو ما يستنتج معه وجود أزمة عميقة في النظرية وفي فكر التنمية لدى القائمين على إنتاج التصورات التنموية في المغرب.
إذ كيف يمكن استشراف التحول الانتاجي دون الخوض في مناقشة مفصلة حول عوامل الانتاج والعلاقة البنيوية بين العمل والرأسمال وكيف يمكن ان نحيط بجوانب العملية الانتاجية دون نقاش مستفيض حول بنية التوزيع القطاعي للقيمة المنتجة وحول مستوى انتاجية عوامل الانتاج وحول كيف يتم تنظيم العملية الانتاجية مجاليا وقطاعيا ومن داخل المقاولات. وكذلك، كيف يمكن النجاح في توجيه السياسات الاقتصادية استراتيجيا في خدمة تطوير الانتاج دون الإحاطة بالكيفية التي تتمثل بها المقاولة عوامل الانتاج وخصوصا قوة العمل وكيف تدبر العلاقة العضوية بين العمل والرأسمال في عملية انتاج القيمة.
يبدو أن هناك مشكل في بناء وفي توثيق النموذج التنموي الجديد وخصوصا في جانبيه النظري والامبيريقي، حيث لا يمكن في ذلك اعتماد هذا النموذج كتصور نظري جديد يطرح فهما جديدا لإشكال التنمية في المغرب ويحيط بمعوقاته التاريخية ويؤسس لأفاق تجاوز هذه المعوقاتعلى مدى زمني محدد بشكل منطقي وفق منهج استشرافي علمي. تتجلى أزمة الفكرة التنموية في النموذج الجديد في غياب العناصر النظرية والامبريقية الكافية لتكوين الشرط المعرفي لتحديد أهداف تنموية بشكل عقلاني ومنطقي واستشراف مدى تحقيقها من عدمه، والتي تكون في مرحلة التوصيف والبناء النظري عبارة عن فرضيات. في البحث عن الفرضية المؤسسة للنموذج التنموي لا نجد سوى الكثير من الاهداف والرهانات والتي لا يمكن توضيبها بشكل تركيبي ومركز على شكل فرضية أساسية لتكوين الفكرة الجديدة للتنمية والتي يحملها النموذج الجديد.
في اتجاه أخر وعلى المستوى الاقتصادي الصرف تتخلف مخرجات النموذج التنموي الجديد في تناولها للمجاميع الاقتصادية (les agrégats économiques) حيث لا نجد تفصيلا مهما حول بنيتها وحول تطورها الزمني، عدا بعض الارقام التي يتم استعمالها لعرض الوضعية الراهنة والتشخيص، إذ لا نجد تحليلا من قبيل العلاقة البنيوية بين البطالة والعمالة الهشة وهشاشة بنية الطلب الداخلي الخاص- على مستوى الاستهلاك وعلى مستوى الاستثمار – ومن قبيل العلاقة بين توزيع الدخل القومي والنظام الضريبي ومن قبيل نوعية التراكم النشيط في الاقتصاد المغربي على أساس أنه تراكم لا ينبني على اقتصاد تنافسي اكثر منه على اقتصاد ريعي وحمائي في الكثير من القطاعات الحيوية…عوض ذلك يقدم النموذج مجموعة من الرهانات من قبيل أهمية المنافسة وأهمية اصلاح النظام الضريبي وأهمية تطوير العمالة دون الخوض في محدداتها البنيوية.
إن تقديم النموذج الجديد في صيغة مصفوفة من الأهداف والرهانات هو انتصار لخط منهجي يبتعد عن تكريس الرؤية البنيوية والشمولية للاقتصاد المغربي ولا يسمح باستنتاج نوعية ديناميته الشاملة ونشاطه الكلي كنسق رأسمالي متكامل، إذ ان هذا النوع من المقاربات البنيوية والمتكاملة هي الوحيدة التي ستسمح بتكوين الفكرة الأساس عن نوعية الطبقة التي تولى إليها مهمة ريادة الأعمال وتحريك الاستثمار، والتي تاريخيا في المغرب كانت تلك الطبقة التي أعطيت لها العديد من المحفزات الضريبية والمالية والمساعدات المباشرة لعقود طويلة لتضطلع بدورها في تحريك الاقتصاد وتطويره، كطبقة بورجوازية محلية، والتي رغم كل المحفزات، بما فيها المحفز البنيوي المرتبط بتوفير العمالة الرخيصة، اختارت عوض نقل الاقتصاد المغربي من نامي لمتقدم الاستمرار في التحكم في عملية الانتاج والتراكم مؤسسة بذلك بشكل تاريخي ومستمر عبر الزمن لبنية اقتصادية مزيجه( بول باسكون، عزيز بلال؛Paul Pascon, Aziz Belal) تختلط فيها التشكيلة الاقطاعية التقليدية بالتشكيلة الرأسمالية الحديثة وترهن امكانية إحداث الانتقال السلس إلى بنية اقتصادية رأسمالية صناعية والتي شرطها المعرفي الأساسي هو تحديث قوة العمل والرفع من قيمتها في عملية إنتاج القيمة.
الاقتصاد المزيج هو من بين المميزات التاريخية للاقتصاد المغربي، وهي الميزة التي حافظ عليها لعقود طويلة، وقذ كان من الاهمية بمكان ان يشير النموذج التنموي الجديد إلى ضرورة تفكيكها وهو بذلك سيكون قد أسس لشرط تاريخي جديد محدد لانتقاله الاقتصادي، وهو شرط جدري في صيرورة تقدمه الاقتصادي، شرط متعارف عليه في ابجديات الفكر الاقتصادي والتجارب الاقتصادية المقارنة (Transition économique) لعل عدم الاشارة إلى هذا النوع من الافكار في بناء النموذج الاقتصادي الجديد من شأنه تغييب الاتجاه البنيوي في تناول قضية التنمية، وهي قضية أضحى الاهتمام بها في العالم الثالث قريب منه من الموضة الاقتصادية من كونه اهتمام ينم عن هاجس حقيقي يرتبط بضرورة تفكيك البنيات الاقتصادية القديمة القائمة. ومن بين تلك البنيات القديمة التي يكون من الضروري تفكيكها تلك العلاقة المؤسسة بين العمل والرأسمال –كما تسميها مدرسة الضبط الفرنسية Ecole de la régulation– والتي لا تعدو أن تكون مؤسسة هجينة، لا يكتسب فيها العمل ابسط الشروط التي من الممكن أن تسمح له بالرفع من قيمته الانتاجية ومن محصلته في عملية تراكم القيمة. حقيقة أن النموذج قد نبه في هذا الصدد إلى ضرورة تطوير قدرات العمل وتقوية اندماجية العمال في سوق الشغل حيث اوصى لذلك بالرفع من كفاءات العمل وهذا قد يكون له أثر إيجابي وذات أهمية بالغة في تنمية الشروط الذاتية لقوة العمل، ولكن تبقى هذه التوصيات رهينة في تحققها بمدى تقدم العلاقة بين العمل والرأسمال، وهي العلاقة الموضوعية التي تحديد نوعية الرأسمالية التي يتم التأسيس لها محليا والتي تكون الإطار الجامع لشروط الإقلاع والتنمية. لعل هذا الإطار الاخير هو الشرط الموضوعي الشامل الذي وجب على النموذج الجديد تفكيك نمطيته واستحداثه على شكل بنية اقتصادية تتيح قابلية التنمية، والذي يكون شرطه الخاص هو صياغة رؤية جديدة ومتقدمة لبنية العلاقة العضوية بين العمل والرأسمال، وماعدا ذلك يبقى اجتهادا يمكن أن تكون له أثار إيجابية على النمو وعلى بعض المجاميع الاقتصادية الأخرى ولكن يبقى من المستبعد أن تصل تلك الأثار إلى حد إحداث انتقال بنيوي للنسيج الاقتصادي ولديناميته التراكمية القديمة.
ـ ـ ـ
*باحث في الاقتصاد السياسي
[1] باحث مستفل، دكتور في الاقتصاد من جامعة محمد الخامس بالرباط، قدم أطروحة حول الاسس النظرية للسياسة التنموية في المغرب مند الاستقلال، 2018 ( بالفرنسية).
Khettar H (2018), Les fondements théoriques des politiques de développement au Maroc,[2] thèse de doctorat en Sciences Economiques, Université Mohammed V de Rabat.
Belal A. (1980), L’investissement au Maroc (1912-1964), les Editions Maghrébines, Casablanca.
Ministère de l’Economie Nationale. (1960), « Plan quinquennal 1960-1964 », Division de la Coordination Economique et du Plan, Rabat.
Sen A. (2005), Rationalité et liberté en économie, Odile Jacob, Paris. [3]
Sen A. (2009), Ethique et économie, PUF, Paris.
Nussbaum M. (2012), Capabilités : Comment créer les conditions d’un monde plus juste?, Flammarion, Paris.
Rawls J. (1987), Théorie de la justice, Paris, Seuil, 1987.
Myrdal G. (1973), Procès de la croissance : A contre-courant, PUF, Paris.[4]
العديد من الاقتصاديين المتخصصين في مجال التنمية يوصون بضرورة إحداث التغيير الهيكلي والبنيوي في نمط تراكم وتوزيع القيمة. على سبيل المثال لا الحصر؛فيرتادوسيلزو (FertadoCelso) والذي درس سبل تحقيق التنمية في البرازيل وفي أمريكا اللاتينية خلص إلى أن التنمية تستوجب تحقيق إعمال سياسات اقتصادية هدفها الاول هو التغيير البنيوي قبل تهيء جيل ثاني من السياسات التنموية ( FertadoC, (1973), le modèle brésilien, in tiers-monde, tome 14, n° 55 ). ألبير إيرشمان ( Albert Hirschman) وهو من كبار اقتصادي القرن العشرون نادى بخصوصية اقتصاديات الدول الثالتية وحث لذلك على التخلي عن المناهج والمقاربات الاقتصادية المتعارف عليها (la théorie standard et conventionnelle ) حينما يتعلق الامر بإعداد سياسات تنموية ورأى أيضا ضرورة العمل بأفكار الاقتصاد السياسي والتي تأخذ بعين الاعتبار أهمية الصراع الاجتماعي من داخل بنيات الانتاج، وان إهمال هذه الخصوصيات لصالح نماذج جمعية ليست بالرؤية الناجعة (hirschman A, (1986), Vers une économie politique élargie, les Editions de Minuit, Paris). ،نورسك راكنار (NurskeRagnar) كانت جل نظرياته تعالج مسألة الدوائر الغير النافعة أو الغير الناجعة في الاقتصاد (les cercles vicieux) ويقصد بذلك التوازنات الاقتصادية داخل الدول الثالتية والتي تحد على المدى المتوسط والطويل من التراكم لصالح الطبقات الفقيرة (Rainer K, KregelJ,-A, Reinert, eds. RagnarNurkse (1907-2007): ClassicalDevelopmentEconomics and its Relevance for Today. London – New York: Anthem, 2009
[5] يمكن تقسيم مسيرة المغرب في بحثه عن إحداث فارق تنموي مند الاستقلال إلى مرحلتين بارزتين.في مرحلةأولى،ما بين 1958 و1983، كانت جل السياسات الاقتصادية تؤطر من خلال المخططات. خلال هذه المرحلة تبنى المغرب 8 مخططات (مخطط 1958-1960،مخطط 1961-1964 تمت مراجعته سنة 1961، مخطط 1965-1967، مخطط 1968-1972،مخطط 1973-1977،مخطط 1978-1980 ، مخطط 1981-1985). المخطط الأخير ما بين 1981 و1985 سيتخلى عنه المغرب مباشرة بعد الازمة المالية الكبيرة التي حلت باقتصاده مع بداية الثمانينات وسيحل محل هذه المخططات برنامج التقويم الهيكلي والذي سيتبع المغرب من خلاله بشكل دقيق توصيات المؤسسات المالية الدولية إلى نهاية الثمانينات؛ذات البرنامج الذي سيرخي بضلاله على كيفية إعداد السياسات الاقتصادية والتي لن يكون هدفها الاول هو التنمية بل هو رفع نسب الناتج الداخلي، تخفيض نسب التضخم وتثبيت الاستقرار الاقتصادي ( بما معناه ضبط التضخم في إطار توجه تقشفي عام )، ستتوالى السنوات بعد ذلك تاركة تنفيد السياسة الاقتصادية بعيدا عن كل تخطيط ولو كان تخطيطا قصير الأمد. سنة 2000 سيتم مرة أخرى تبني مخطط خماسي 2000-2004 والذي لا يعدو أن يكون تصميم دون تنفيد، حيت سيتم التخلي عن مجمل ما أتى به هذا المخطط تاركا مرة أخرى العملية التنموية تحت توصيات المؤسسات المالية وتحت ما تسمح به الهوامش المالية التي يتم برمجتها من خلال قوانين المالية. تخللت الفترة الممتدة بين بداية التسعينات إلى حدود الان عدة مبادرات تنموية، أخرها كان هو المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وسياسات قطاعية أخري تمتد في بعض الاحيان عم مدى متوسط، كل هذه المبادرات والسياسات القطاعية كانت تتبلور بغية تحقيق اهداف مسطرة وواضحة على المستويين القطاعي والاجتماعي، إلا ان الفارق التنموي لم يحصل أبدا خلال كل هذا المسير الاقتصادي. القاسم المشترك لكل السياسات الاقتصادية التي استحدتها المغرب منذ بداية الثمانينات والتي تخلى على إثرها بشكل مباشر عن التخطيط هو الالتزام الصارم على احترام ما يطلق عليه التوازنات الماكر واقتصادية كشرط تبناه بتوصية مباشرة من المؤسسات المالية الدولة، ذلك ولو أن هذا الشرط لم يثبت أبدا في الادبيات الاقتصادية انه شرط محفز للتنمية وشرط يتوافق مع بنية الاقتصاديات الثالثية، وهو شرط جازم للتقشف، إذ ان المغرب عاش ما قرابة 40 سنة على إثر نمط اقتصادي تقشفي. في المرحلة الاولى ما بين 1958 و 1982 قد راوح المغرب ما بين مخططات كان هدفها هو الدفع الاقتصادي والاقلاع كمخطط 1960-1961 في نسخته الاولى ومخطط 1973-1977 وبين مخططات أخرى سطر لها هدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي. خلال هذه الفترة الاولى تبنى المغرب بين الفينة والأخرى بعظ المرجعيات التي استقاها نسبيا من مجال اقتصاد التنمية، أنداك حقق المعرب تراكما محترما من الرأسمال المنتج العمومي وأنشأ أغلب المؤسسات التي شكلت قطب الرحى للاقتصاد المغربي لفترة طويلة قبل أن يتم خوصة جل هذه المؤسسات. لتفاصيل اكثر أنظرKhettar H (2018), Les fondements théoriques des politiques de développement au Maroc, thèse de doctorat en Sciences Economiques, Université Mohammed V de Rabat.
[6] لا يمكن ربط ما يرد في التشخيص والوضعية الراهنة بالأهداف التي يتم تحديدها كعلاقة سبب بنتيجته، فالأهداف هي عبارة عن توصيات يمكن قرأتها بمعزل تام عن التقديمات الواردة في التشخيص وفي الوضعية الراهنة، والتي لا يمكن اعتمادها كبناء نظري كافي لتبرير الأهداف التي تم تسطيرها .
Pascon P. (1986), «Adoption des modèles en l’absence du renouvellement» (en arabe), trad. de Mesnaoui M, Revue [7] Beit Al-hikmah, 1ère année, n°3, octobre, Imprimerie Anajah Al jadida, Casablanca
Belal A. (1980b), Développement et facteurs non-économiques, SMER, Rabat.