البلدان العربية التي قبلت بالتطبيع، طوعاً أو كرهاً، قد لا تكون قد أخذت في الحُسبان، كما يجب، ما كان لابد أن يحصُل من مأزق ليس لها منه من مَنْجم. وها هو قد حصل. عناصر الخطاب المُروِّجة للتطبيع تمْتح من قاموس الحداثة، أو هذا ما يدَّعُون : العقلانية، الواقعية، النفعية. يقولون إن الإيديولوجيا لم تُجْدِ نفعاً، والقضية قد غشاها الغلو فلم تتململ قيد أنملة منذ 1948. ويخلصون إلى أن لا مندوحة من الركون إلى الواقعية، وإلى أن في التطبيع جلبٌ للمنفعة، ودرءٌ للنيران الصديقة. لكن الواقعية آلت إلى الوقوعية، بينما تحولت هزيمةُ الإيديولوجيا إلى إيديولوجيا الهزيمة. “الاعتراف شرط السلام“، تلاه “الاعتراف مقابل السلام“، تلاه “الأرض مقابل السلام“، تلاه “السلام مقابل السلام “، والنتيجة صفرية، بل هي قسْمةٌ ضيزى بدأت مفاوضة، وانتهت مقايضة، صفقةٌ  الرابحُ فيها بيِّن، والخاسر فيها بيِّن. التطبيع لا يكون مع الاحتلال، مع الاستيطان، مع الاضطهاد؛ التطبيع، بموجب القانون الدولي، لا يستقيم مع الكيان الصهيوني، المارق، العنصري، الذي يجْترح الإرهاب دأَباً  منذ 73 عاماً، بوحشية لامتناهية، ويرتكب الجريمة تلو الجريمة، بإسراف، بلذة جنونية؛ يهلك الزرع والضرع، يقتل بلا رحمة، بلا تمييز. المأزق الذي وَحَل فيه التطبيع مأْتاه، في الأصل، من لاطبيعية الاحتلال، ومن لامشروعية الكيان المريض الذي خُلق من عدم، خُلق ليجْتثَّ شعباً، ويهْضم حقاً، ويخطف وطناً. نحن أمام كيان شاذ،  وُلد حراماً ليحُلَّ نسْلُه فوق أرض تمْتدُّ، حسب الأساطير، من وادي العريش إلى النهر الكبير، وتترامى خريطتُه من النيل إلى الفرات. لن يتوقَّف الكيان المُحْدَث عن التوسُّع، لأن له في التوسُّع حياة. لن يوقفه التطبيع عن الفساد، والإفساد، وسفك الدماء ، ولن يحُدَّ من غطرسته، وعنْجهيته، وطغيانه، بل لن يزيده سوى غروراً. ما حصل من اعتداء دموي على المسجد الأقصى، والشيخ جرَّاح كان في الحسبان، لأن الاستيطان سلاحُه الاعتداء والبطش، ولأن الاحتلال يضاد السلام، ولأن السّلم تحت الإرهاب استسلام. في اتفاقيات التطبيع التي تُعقد في شروط الاحتلال البغيض شيء ما يشبه ما يُسمِّيه الاقتصاديون “الخطر الأخلاقي” Moral Hazard))، الناجم من “النية السيئة“، ومن البنود المضللة، ما ظهر منها وما بطن.     

الهبَّة الفلسطينية العارمة، وغير المسبوقة، إذ تُعيد القضية إلى سابق جوهرها، قضية اغتصاب، وتضعها من جديد على الطريق الصحيح، الطريق الذي ما كان لها أن تحيد عنه؛ الطريق الذي يؤدي إلى التحرير، إن عاجلاً أو آجلاً، “غداً  أو ربما بعد يومين” يقول الأب لابنه في قصيدة “أبد الصُّبَّار” لمحمود درويش. تحرير فلسطين كاملة غير منقوصة أرضاً وشعباً ومقدسات، وبما  تمثِّله من تراث إنساني، ومن عمران حضاري. أقول، إن الهبَّة الفلسطينية الأخيرة، التي توحَّدت فيها كل فلسطين في الضفة، والقطاع، وفي الداخل، وفي الشتات، هي إعلانٌ عن إفلاس مسار المساومة، وإبرامٌ للحق في المقاومة ضد الاحتلال المقيت. الحق في أداء المقاومة بجميع الأشكال، التي تكْفلها التشريعات بجميع الأصول. يقول محمود درويش: “سجِّلْ برأس الصفحة الأولى/ أنا لا أكره الناس/ ولا أسطو على أحد/ولكني إذا ما جُعتُ/آكُل لحم مُغْتصِبي/حذارِ، حذارِ من جوعي/ومن غضبي“.