لم تكن بنيتي الكتابة في هذا الشهر الكريم، لكن للأسف من الصعب السكوت عن الجرائم الأخلاقية والتربوية التي ترتكب في إعلامنا العربي تحث ذريعة الفن والترفيه، فتحول شهر رمضان الذي هو شهر عبادة و تراحم و سمو روحي وأخلاقي ، إلى شهر تتهافت فيه وسائل الإعلام العمومية و “الخاصة”  لتقديم كل غث، في محاولة لضرب الهوية الإسلامية و تغييب المشاهد بالتركيز على جملة من القيم السلبية و الترويج لها بشكل فاضح، بدعوى هذا هو واقع مجتمعاتنا و لايمكن “إخفاء الشمس بالغربال” ، كما لو  أن ما يعتري مجتماعتنا العربية من فساد سياسي واقتصادي وفقر و نهب للثروات وظلم إجتماعي،  وتضييق لخيارات الناس و تضييع حاضرهم و مستقبله بفعل فاعل، ليس من الواقع الذي ينبغي أن تعمل الدراما على  محاكاته وتناوله بالنقد والتحليل؟

فن هابط في الغالب ونساء كاسيات عاريات، ومواضيع تافهة و قضايا اجتماعية ينبغي علاجها بالتربية والتعليم وليس بالترويج لها جهارا نهارا وفي شهر رمضان الفضيل، فهذا الشهر وصفه رب العالمين بأنه شهر القرأن، وهو شهر الإنجازت الكبرى في تاريخ المسلمين بدءا من غزوة بدر وغيرها من الفتوحات الكبرى التي خلدها التاريخ إلى حرب رمضان 1973 ضد الكيان الصهيوني فشهر رمضان الذي قال فيه الله تعالى  “شهر رمضان الذي أنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان “،  أصبح هذا الشهر بالنسبة للقائمين على البرمجة التلفزيونية، فرصة سنوية لترويج الإسفاف والضحالة، وتخدير وإستحمار جمهور المشاهدين..

لسنا ضد الفن والإبداع والترفيه على جمهور المشاهدين، لكن ينبغي بنظرنا أن يكون للفن رسالة هادفة ودور مثمر في توعية المجتمع والرقي بأفراده، وليس دعوة مفتوحة للهبوط للقاع، نعم فالواقع العربي عموما ملئ بالسلبيات والانحرافات الخطيرة، والاختلالات الاجتماعية التي نراها ونسمع بها ولسنا في حاجة الى الفن وكتاب السيناريو والسادة صناع الدراما لتجسيدها وتشخيصها ، وللأسف تمجيدها في كثير من الأحيان، وتصوير هذه الانحرافات على أنها شيء طبيعي وعادي، مثل الزنا و المادية المتطرفة والاستهلاك المظهري والسعي نحو تحقيق المكسب المادي دون وضع اعتبار لقيم الحلال والحرام ، والحرص على نسونة الرجال و العكس ، مع إهمال صريح لقيم هذه المجتمعات وأعرافه وفي مقدمة هذه القيم الضوابط و الأحكام الإسلامية…

فمن يتابع أغلب الأعمال الدرامية يتساءل هل نحن فعلا في بلدان إسلامية؟، وفي شهر رمضان؟!،  ما أستطيع قوله أن هناك جهد محموم لتمييع هذه المجتمعات وتشويه قيم الدين الإسلامي الحنيف، و دعوة صريحة في الغالب للميوعة و الانحلال والتطبيع مع الفساد والعهر الأخلاقي، في وقت نرى أن أغلب البلدان العربية تعيش تحث نير الاستبداد والظلم و الطغيان، فحكام هذه البلاد لا يتورعون في تقديم صورة مخزية عن دينهم وشعوبهم ، فغياب الديمقراطية والعدل وسيادة القانون والمساواة بين الحاكم والمحكوم، وتبذير المال العام، والسفه في إدارة الثروات الوطنية الطائلة، و غياب الفصل بين السلط و الخضوع المذل للأجنبي و الإهانة و التنكيل بالمعارضين للحاكم، وتكبيل حرية الرأي والتعبير، والتفريط في الأوطان والتعاون مع العدو لإلحاق الأذى بالأخ في العقيدة والوطن، كلها قضايا خطيرة وتهم المشاهد وهي التي تحدد حاضره ومستقبله..

فالأولية هي  تحرير الإرادة الشعبية ووضع حد للحكم الاستبدادي، ولاحتكار السلطة والثروة من قبل القلة، و في مثل هذا الظرف أي حدث أخر هو حدث هامشي وغير ذي أهمية، فحال العرب اليوم مع حكامهم ، كحال من نشب ببيته حريق، وهناك من يدعوه إلى الاحتفال أو الصلاة أو التفرغ للعبادة،فالأولوية هي إطفاء الحريق، لذلك فإن أي دعوة غير دعوة إطفاء الحريق هي دعوة “خائن”، والانصراف إلى عمل أخر غير إطفاء الحريق هو المقصود ب “الاستحمار”، حتى وإن كان عملا مقدسا كالصلاة أو عبادة المولى عز وجل، أو الانشغال بالقراءة أو الكتابة…

ما نراه على شاشاتنا في هذا الشهر الكريم وفي زمن وباء كورونا الذي أفقد كثيرا من الناس أقواتها ونزع فئات واسعة نزعا نحو قاع الفقر، في وقت تنفق الأموال الطائلة على التفاهة والإسفاف ومحاربة الدين الإسلامي والأخلاق الفضيلة بذريعة الانفتاح والتحرر والتطبيع والتسامح والانفتاح على روح العصر والتقدم، أي تقدم وانفتاح وتحرر هذا الذي سبيله محاربة القيم الفاضلة وزرع قيم الخيانة و التسلق الاجتماعي والقبول بالظلم والطغيان وزرع قيم الغاية تبرر الوسيلة؟؟،

وبحكم تخصصي في الصين وشرق أسيا أستطيع الجزم بأن السبيل للتقدم والتغيير ينبع من الحفاظ على قيم المجتمع وثوابته الأخلاقية ففي  مثلا اليابان هناك قاعدة أساسية حكمت تقد هذا البلد مفادها: ” التقنية الغربية والروح اليابانية” نفس المبدأ أخدت به الصين التي جعلت بدورها من كل الأيديولوجيات والقيم الكونية خادعة لمصفاة “الخصائص الصينية”  أما تجربة  ماليزيا فهي قصة أخرى ، فهذا البلد جعل من  القيم والمبادئ والأخلاق الإسلامية قاعدة لبناء المجتمع وتحقيق الإقلاع الاقتصادي والنهضة الشاملة ، فماليزيا  اليوم المتقدمة و المزدهرة رائدة في الصيرفة الإسلامية وقائدة الإقتصاد الإسلامي، بل إن التدين بهذا البلد أمر يثير الإعجاب، فهو ليس من صنف التدين الشكلي في مجتمعاتنا العربية وإنما تدين شعاره الدين المعاملة ..

لكن للأسف علينا الإقرار أيضا، أن  حملة تشويه الاسلام وقلب الحقائق  لها مناصرين في صفوف بعض المسلمين ، و لايمكن الخروج من هذه الحلقة الشيطانية، إلا  بالتعرف على الأسباب والعوامل الكامنة وراء تشويه روح الإسلام، تم البحث في كيفية التخلص من هذه العوامل،  وسأكون مجانبا للصواب إن قلت بأن هذا المقال سيجيب عن هذه المحاور الكبري، لكن غاية المقال هو توجيه القارئ إلى تعميق البحث والنقاش في أصول الإسلام والبحث في روحه، بعيدًا عن موجهة التشويه الممنهج و العداء المدروس لهذا الدين..

فالتغلب على حالة الخلاف والشقاق و الحرب الطائفية المستعرة بين المسلمين، والتي يأججها من دون شك أعداء الإسلام وفي مقدمتهم أنظمة وحكام وساسة ومثقفين وإعلاميين يحملون أسماء إسلامية ويعيشون بيينا، ويحملون شعارات التجديد في الدين والحداثة والوسطية، لكنهم يمررون السم في العسل،و يخربون العقول ونتجون التطرف والغلو،  والتغلب على ذلك بوابته العلم و المعرفة، والرجوع إلى حقيقة الأحداث والظروف والمساقات التي أطرتها، فعندما تنكشف الحقيقة، تزول الأوهام والانحرافات، والدعوة موجهة  إلى شباب الأمة وأكاديميها وعلماءها في التاريخ والسياسة والاقتصاد وفي كل الميادين العلمية، أن يحاولوا الاستفادة مما تتيحه أدوات البحث العلمي، والانفجار المعرفي لإعادة إكتشاف حقيقة الإسلام و نبعه الصافي، والقرآن والسنة الصحيحة متاحة ولم تطلها أيادي التحريف، واجتهادات علماء الإسلام الربانيين في الماضي والحاضر متاحة ومتنوعة وكفيلة بإماطة كل لبس و تشويه وتحريف..فمحاربة الاسلام بشتى الطرق والوسائل  والاصطفاف في صف الباطل، حرب لا جدوى منها، والطغيان بكافة أشكاله مصيره إلى زوال ولا يصح إلا الصحيح،  لأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…