التعليم حلّ لكل العلل والنواقص والمثالب المجتمعية، التي يعاني منها الوطن العربي. فالتعليم أولا وقبل كل شي حق من حقوق الإنسان، ليس منّة من أحد بل إنه مصلحة استراتيجية عليا للوطن واستقراره وأمنه وتقدمه. بالتعليم نحارب الفقر ونحسن صحة الجميع، وننشر روح المواطنة المتساوية، ونحارب العنصرية، ونعزز المساواة بين الجنسين، ونضع الوعي الديني في مكانه الصحيح، بعيدا عن التطرف والفتاوى الشاذة وتكفير الآخرين. وحسب تقارير البنك الدولي فكل سنة إضافية في التعليم هناك زيادة في دخل الفرد بنسبة 9%. بالتعليم السليم والواعي نحفز الابتكار ونشجع على التفكير النقدي والبحث عن الأفضل والأنسب لسوق العمالة والتحول نحو اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا المعلومات ومجاراة عالم متطور بسرعة خيالية.

تقارير دولية حول التعليم في الوطن العربي

أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سلسة من التقارير عن التنمية البشرية في العالم العربي ركز تقرير 2003 على «بناء مجتمع المعرفة» في العالم العربي، وأصدرت اليونسكو تقريرا مشابها عام 2014 تحت عنوان «التقرير الإقليمي للتعليم للجميع الخاص بالدول العربية لعام 2014» كما أصدر البنك الدولي تقريرا عام 2019 عن التعليم في العالم العربي تحت عنوان «التوقعات والطموحات». الإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا) أصدرت تقريرا تحت عنوان «التقرير العربي للتنمية المستدامة 2020» حول مدى التقدم المحرز في تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 السبعة عشر ومن بينها الهدف الرابع «ضمان التعليم المنصف والجيد، وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع».

جميع هذه التقارير تؤكد بشكل لا لبس فيه تخلف النظم التعليمية في العالم العربي من النواحي البيداغوجية والإدارية والتكنولوجية والجندرية، وملاءمتها لسوق العمل، وارتباطها بالتطورات العلمية ومناهج البحث وسبل الابتكار والإبداع. كلها تشير إلى ضرورة تحديث طرق التعليم، واعتماد المناهج التحليلية الإبداعية، بدل المذاكرة والحفظ والاهتمام بالنجاح في الامتحان.

التعليم وأنظمة الحكم

قليلة تلك الدراسات التي ربطت بين أنواع أنظمة الحكم وتخلف التعليم. فقد ركزت تلك الدراسات، على المعلومات الكمية والكيفية، بدون أن تشير إلى دور أنظمة الاستبداد في تعميم أنماط معينة من التعليم، يقدم للطالب ما يعمق الولاء للنظام، ويعزز النقل لا العقل، ويؤكد على الطاعة والخضوع، واتباع التقاليد واحترام النص كما دونه الحاكم وبطانته، بدون إعطاء مجال للتفكير الخلاق النقدي، الباحث عن الحقائق العلمية حتى لو كانت صادمة. بين يديّ الآن مجموعة دراسات مهمة وميدانية أشرف عليها مولاي هشام العلوي، الأستاذ والباحث في جامعة هارفرد مع مجموعة من الباحثين، وصدرت هذه الدراسات في كتاب بالإنكليزية عام 2021 تحت عنوان «الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي». وللعلم فهشام العلوي هو الذي اختار البحث العلمي والتعليم الجامعي، بعد أن أوصدت في وجهه الأبواب السياسية في بلاده، بسبب دعوته القوية للتحول إلى نظام الملكية الدستورية في المغرب، بحيث يصبح الملك حكما ورمزا موحدا للبلاد لا حاكما. وهذه الدراسات تربط أساسا بين نوع نظام الحكم والاقتصاد الريعي، أو المرتبط بمساعدات خارجية، وكلاهما منضبط لإرادة النظام وأساليب التعليم التي تكرس نظام الاستبداد. يقول مولاي هشام في نقاشات أجريتها معه حول الكتاب «تنظر الأنظمة إلى نظامها التعليمي، بما في ذلك محتواه ومناهجه وإبداعه، كأدوات للرقابة الاجتماعية. على سبيل المثال، ضع في اعتبارك أن العديد من الدول العربية منذ نشأتها فرضت احتكارات على كيفية تدريس الدين داخل الفصل، من أجل ضمان نقل التفسيرات المفضلة لديهم. وكمثال آخر، تذكّر أن التعليم كان يُنظر إليه في العالم العربي على أنه استراتيجية لغرس الروايات الموحدة للأمة، مثل تاريخها وأيديولوجيتها وثقافتها المدنية. وفي بعض البلدان من غير المسموح تدريس مواد كاملة مثل الفلسفة والعلوم السياسية ضمن مناهجها الوطنية».

ويشير البحث إلى أن مقاييس الأنظمة العربية في تطور التعليم عادة تعتمد على الأرقام الجافة، بحيث تشير إلى الأعداد الهائلة من الطلاب الملتحقين بالمدارس، إضافة إلى الأعداد الهائلة من البنات اللواتي يكملن المرحلة الثانوية والجامعية. كما يقدمون إحصاءات بعدد المدارس والجامعات، التي تم افتتاحها في عهد الرئيس أو الملك أو الأمير. لكن لا أحد يشير إلى مضامين التعليم ونوعيته، ومواكبته علوم العصر واتجاهات السوق، والتحول إلى التعليم الرقمي. لا أحد يشير إلى إدماج المرأة في سوق العمالة والتقدم المنهجي نحو إلغاء التمييز ضد النساء في العمل والوظيفة والدخل وحرية الاختيار. أنظمة ينتشر فيها الفساد والرشوة والمحسوبية والتعامل المزدوج، من الطبيعي أن يؤثر ذلك أيضا في نظام التعليم، بل يتجاوز ميدان التعلم والتعليم ويقوض جهود التنمية وقد يصيب الدولة كلها بالشلل.

التعليم حق من حقوق الإنسان

الأنظمة السلطوية ما يهمها أساسا البقاء في الحكم، وكتم أنفاس أي معارضة أو اتجاهات نقدية للنظام. فكل الأنظمة العربية تعمل على ترسيخ هيبة النظام بالإغداق على القوات المسلحة، والأجهزة الأمنية والاستخباراتية، التي تحصي على الناس أنفاسهم. يقول العلوي: «نحن نجادل في الكتاب بأنه لا توجد بالضرورة مقايضة صارمة بين الإنفاق على الأمن وإصلاح التعليم. مشكلة التعليم ليست مسألة نقص الموارد. الأمر يتعلق بكيفية تخصيص هذه الموارد وإنفاقها. ومن ثم ، فإننا نجادل في أن الإصلاحات الناجحة للمدارس تتطلب أكثر من ترقية البنية التحتية، أو تحسين أصول التدريس. يتطلب تحرير التعليم من القيود السياسية».

يشمل الكتاب بحثا في التعليم والديمقراطية ودراستين عن التطور التعليمي في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، بالإضافة إلى مجموعة من «دراسات حالة» للتعليم في بعض الدول العربية مثل، مصر وتونس والجزائر والمغرب والسعودية. وتتناول هذه الدراسات مواضيع مثل، المواطنة والإصلاحات الجامعية في كل من مصر والمغرب، والسياسات التعليمية في مصر وأثر الفقر والفساد في النظام التعليمي في تونس، وافتتاح فروع لجامعات أجنبية في دول الخليج، وإرسال الطلاب في بعثات تعليمية إلى الخارج في كل من السعودية والجزائر. وما تشير إليه الدراسات، أن كل هذه السياسات تأتي من منظور الحكم، وليس بالضرورة للارتقاء بالمناهج التعليمية.

حسب البحوث الواردة في الكتاب، فلا توجد جامعة عربية واحدة ضمن أول 300 جامعة في العالم. كما أن نتائج الطلاب العرب في برامج التقييم الدولية في الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا متخلفة. مواضيع الدراسة لا علاقة لها بسوق العمل ولا تؤهل الخريجين. فالتعليم التقني والمهني متدنٍ جدا، وفقط ثلث الخريجين مهيأ لدخول سوق العمل. لقد شكلت انتفاضات الشعوب العربية فيما سمي بـ»الربيع العربي» نقطة ضوء كان يمكن الاستفادة منها لإجراء الإصلاحات اللازمة في نظم التعليم. فقد بينت تلك الاحتجاجات مدى التناقض بين نظم التعليم، التي تفرز سنويا آلاف الخريجين، قياسا بسوق العمالة التي لا تستوعب إلا عددا بسيطا منهم. وتشير بحوث الكتاب إلى أن موجة الانتفاضات العربية الثانية، خاصة ما حدث في الجزائر ولبنان عام 2019 وانتشار وباء كورونا عام 2020 كشفا عن نقاط ضعف في أنظمة الحكم. في الماضي، كان يتم استيعاب أوجه القصور في الخدمات العامة عن طريق الخطابات القومية، والنضال ضد إسرائيل أو الالتزام الديني. أما الآن فإن الطلب على تقديم خدمات محسنة وعادلة، حلّ إلى حد كبير محل المناشدات الوطنية. ومن المرجح أن يتكثف الضغط من أجل إصلاح الخدمة العامة، مدفوعا بالواقع الاقتصادي والديموغرافي، بسبب زيادة سكان المدن، وانتشار أحزمة البؤس والتنافس على التوظيف في القطاع الخاص ورقمنة الاتصالات.

هل من حلول لأزمة التعليم

يقول الأستاذ الباحث هشام العلوي ردا في معرض مناقشاتنا حول ما العمل كي ننهض بالتعليم في الوطن العربي: «إن حل الأزمة التعليمية صعب للغاية. الأنظمة في مأزق، لأنها تدرك الحاجة إلى الإصلاح، ولكنها تخشى عواقبه. التغييرات المتقطعة مثل الخصخصة ليست هي الحل، لأنها تميل إلى تفضيل النخب وتفاقم عدم المساواة. علاوة على ذلك، المدارس الخاصة غالبا ما تعيد إنتاج مشاكل التعليم العام لارتباطها بالنظام السائد. ومع ذلك، يمكننا تخيل سيناريو تتجذر بموجبه الإصلاحات بطريقة تدريجية من خلال تحالف بين التربويين والمسؤولين والمواطنين المشاركين. وأي تغيير من هذا القبيل يتطلب وقتا، لكن النتائج طويلة المدى ستفيد الأمة بأكملها».

الإصلاح لا يكون فقط في تحسين الوصول إلى مقاعد الدراسة في المدرسة والجامعة وتيسير استخدام التكنولوجيا، بل إلى جذور المشكلة المجسدة في الاقتصاد السياسي القائم على، إما المساعدات الخارجية للدول الفقيرة، أو الدخل الريعي للدول النفطية. التغييرات المطلوبة يجب أن تتعامل مع أربع ميزات في الاقتصاد السياسي العربي: النمو الاقتصادي غير المتوازن، النمو السريع للسكان، خاصة فئة الشباب، التمييز (سواء ما يتعلق بالأقليات أو المرأة أو ذوي الإعاقة) وأخيرا التخفيف من دور الدولة وتعزيزه بالفئات المعنية من طلاب وأهالي ومعلمين وقطاع خاص. الطريق إلى الإصلاح الهيكلي والجذري طويل، ولابد أن يبدأ الآن ليعطي ثماره على المديين المتوسط والبعيد، الخوف أننا سنراجع ما يكتب الآن عن تخلف التعليم في الوطن العربي بعد عشر سنوات لنجد المشاكل لم تحل، بل تفاقمت أكثر.

• محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي