كغيري من عشاق كرة القدم، وهم كثيرون في عالمنا هذا، شاهدت مباراة نهائي كأس ملك إسبانيا التي تفوق فيها نادي برشلونة على فريق أتليتك بلباو. جرت أطوار المقابلة في ملعب غابت عنه جماهير الناديين بسبب جائحة كورونا. لكن ملك إسبانيا كان حاضرا بكمامته. كما حضر أعضاء إدارة الناديين، وزوجات وأطفال اللاعبين. إنهم من فئة محظوظي كوكب الأرض. ومع ذلك كان مشهد الملعب المترامي الأطراف بئيسا وحزينا، على الرغم من إصرار النقل التلفزي على تأثيث أطوار اللقاء بأصوات مسجلة لجماهير غائبة.

تكرر نفس المشهد، بشكل أو بآخر، في لقاء الديربي المصري بين الأهلي والزمالك، في ملعب القاهرة الكبير. فتباذر إلى ذهني سؤال غبي: كيف يمكن لنوادي الكرة ولمسؤولي مسابقاتها، أن يستمروا في تنظيم مباريات بهذا الحجم على الرغم من غياب الجماهير؟

وصفت سؤالي بالغباء، لأن مسؤولي كرة القدم أصبحوا لا يعيرون أدنى اهتمام لجماهير الكرة منذ أن تحولت الرياضة الشعبية الأولى في العالم إلى تلك الدجاجة التي تبيض ذهبا، من خلال نسق رأسمالي عماده حقوق النقل التلفزي، والإشهار، وبيع تذاكر مقصورات “كبار المتفرجين” إلى شركات عابرة للقارات. نسق رأسمالي أوجد بورصة للاعبين والمدربين، ولأسهم النوادي. نسق أًصبحت معه الجرائد والمجلات والمواقع الإعلامية المتخصصة في الرياضة، تفرز حيزا كبيرا لكي تحدث الجماهير الفقيرة عن أرقام فلكية بالعملة الصعبة.

أرقام من قبيل 150 مليون يورو: سعر لاعب نرويجي، يسجل أهدافا “خرافية” لفائدة نادي بوروسيا دورتموند. ذاك هو ثمنه في بورصة اللاعبين. هنا أطرح سؤلا أكثر غباء من الأول: هل يستحق إيرلينغ هالاند هذا الثمن؟ ما هو ثمن أي فتى لم يتجاوز العشرين من عمره يا ترى؟ ما هو ثمنه في بورصة بني البشر؟

وأنا في خضم تساؤلاتي الغبية، طلع السيد فلورينتينو بيريث، الذي يتربع منذ سنوات على رأس واحد من أشهر أندية الكرة في العالم، طلع علينا واحتل عناوين الصحافة بحديثه عن مشروع جديد (قديم) اختار له من الأسماء “سوبر ليغ”. بطولة حصرية، لا يشارك فيها إلا من له ظهر صلب من مليارات الدولارات واليوروهات. من يفوز بها يحصد أرباحا خيالية. ومن يخسر يحصد أيضا، ولا يعاقب بالنزول إلى درجة أدنى، لكي يصعد ناد آخر إلى الأضواء. لأن ما يهم ليس الأحقية الرياضية، بل حساب الرياضيات الخاص بالأرباح اللامتناهية.

يقول بعض من “الإعلاميين المتخصصين” إن مشروع رجل المال والأعمال الإسباني ما هو إلا تطور طبيعي لأمور الكرة. بمعنى آخر: إنها سنة الحياة يا أيها الجمهور الغبي، الفقير… لا تتعبنا… الزم صالون بيتك، إن كان لك بيت… شاهد السوبر ليغ على تلفازك… وشارك في ألعاب الحظ والياناصيب بالنقر على هاتفك “الذكي”… قد تفوز معنا بفتات، فتات، الفتات، الذي قد نتركه لك…
أما السيد بيريث فيقول لمن يريد أن يستمع إليه إن مشروع “السوپر ليغ” جاء لإنقاذ كرة القدم من كارثة ستحل بها. قبل أن يضيف أن الأندية الكبيرة، التي تصنع الفرجة في نظره، خسرت أموالا كثيرة بسبب الجائحة.

لكن الحقيقة هي ما لم، ولن، يقوله السيد بيريث، الذي يعتبر واحدا من أغنى أغنياء إسبانيا، والذي يتحكم من خلال نفوذه المالي والاقتصادي في عدد لا يحصى من وسائل الإعلام الإسبانية.

لم، ولن، يتحدث السيد بيريث عن الفقاعة المالية التي صنعتها تجارة أو صناعة كرة القدم في الأعوام الأخيرة. ولن يقر بأن “أندية الصفوة” وجدت نفسها حبيسة فقاعة مالية يقتات عليها أًصحاب صناديق الائتمان الجشعة، التي تقف وراء مشروع “السوبر ليغ”.

لندع الرواتب الخيالية للاعبين ووكلائهم، وأثمنة بيع وشراء اللاعبين – مرتين في الموسم الواحد – جانبا، ولننظر فقط لرواتب المدربين. ما معنى أن يكون راتب أحدهم مثلا 2 مليون يورو في الشهر؟ ما معنى ذلك؟ ماذا سيفعل بكل هاته الأموال؟ هل سيعيش أكثر من حياة واحدة؟

أسئلة غبية، لن تقض، بالتأكيد، مضجع السيد فلورنتينو پيريث ومن معه من تجار صناديق الائتمان وشركات المراهنات ومؤسسات الدعاية والإشهار. فهم رأسماليون حتى النخاع. لا يحركهم إلا وازع تكديس الأموال. ولا علاقة لهم بتطوير كرة القدم ولا بحلاوة الكرة.

فقط نحن، الأغبياء، من تثيرنا حلاوة انتصار قد يخطفه فريق أيسلندي مغمور من قلب ملاعب الريال مدريد أو برشلونة أو يوفنتوس، الخاوية على عروشها، والخالية من جماهيرها الفقيرة، الخائفة من المرض والضياع والجوع.

وأخيرا سؤال أشد غباء من كل ما سبق: ماذا عن مبدأ الجدارة؟ أو ليس الأجدر هو من يفوز بالمباراة، سواء كان اسمه النادي الملكي أو النادي القنيطري؟

بالنسبة لي، كواحد من الأغبياء، تلك هي حلاوة الكرة، ومكرها، الذي يصفه المغاربة بمثل شعبي جميل: “الكرة جلدة منفوخة بالهوا”.

حلاوة ستتبخر لا محالة في زمن الجائحة وفي ظل “صعود رأسمالية الكارثة” وتغلغل إعلام ما بعد الحقيقة.

******

ملحوظة لها علاقة بما سبق: كنت سأكتب نفس الكلام حتى لو كان جوان لابورتا هو عراب السوبر ليغ.