لا حديث هذه الأيام في أوساط موظفي وزارة التربية الوطنية وخصوصا أطر التوجيه منهم إلا عن المسطرة الجديدة للتوجيه التي تعتمد على مجموعة من الروائز الدراسية والنفسية والمهنية.

ورغم أن النقد الموضوعي لهذه ″النقلة النوعية″ التي يحلو للقائمين عليها تسميتها، لن يغير من واقع الأمر شيئا وخاصة في ظل الانبهار الشديد بتكنولوجيا الإعلاميات وتقنيات القياس النفسي، إلا أنه ومن باب المسؤولية التاريخية والأمانة العلمية فلا بد من تقديم بعض المعطيات الدقيقة حول هذه العملية التي تأتي في ظرف حساس جدا من أزمة النظام التعليمي المغربي.

لهذا سنقدم مجموعة من الملاحظات ممزوجة بتساؤلات قد تبدو مستفزة للكثيرين، لكن لا مناص من طرحها علها تدعو الممسكين بزمام أمور هذه الوزارة إلى مراجعة سياساتهم الخاطئة في حق أبناء وبنات المغاربة المنحدرين من الطبقات الدنيا.

1 – أولا، الغرق في محيط من التفاصيل التقنية :

من مسطرة عادية ورقية تنطلق من تعبئة بطاقة الرغبات، سيضطر التلاميذ ومعهم أسرهم والأطر الإدارية والتربوية وأطر التوجيه إلى السباحة في محيط من التفاصيل التقنية التي لا بد من الإحاطة بها لتعبئة المسطرة الرقمية الجديدة. وإذا استحضرنا المستوى الدراسي والتعليمي لغالبية الأسر المغربية والصعوبات التي تعترض تلاميذ سلك الباكلوريا في الترشيح مثلا إلى كليات ومدارس ومعاهد التعليم العالي، جاز لنا أن نتساءل كيف سيستطيع تلاميذ الثالثة إعدادي التعامل مع روائز هذه المسطرة الرقمية التي تتجاوز بنودها المائة؟

2 – ثانيا، لماذا هذه المسطرة؟

هذا السؤال الجوهري يطرح نفسه بإلحاح لسبب بسيط وهو أنه للإجابة عليه لا بد من الإجابة على أسئلة سابقة له من قبيل :

– أين يكمن المشكل بالضبط في المسطرة العادية للتوجيه؟

– هل أجريت دراسات حول هذا المشكل في حالة وجوده؟ وما هي الخلاصات التي انتهت إليها هذه الدراسات؟

– ما علاقة توصيات الدراسات أعلاه بأهداف المسطرة الرقمية؟ وهل يوجد انسجام بينهما أم لا؟

للأسف الشديد لا تتوفر إجابات إلى حدود كتابة هذه السطور عن هذه الأسئلة، وكل ما يقدمه القائمون على هذه المسطرة هو تقرير المفتشية العامة حول منظومة التوجيه الذي صيغ بألفاظ عامة وغير دقيقة تحتمل كل شيء ولا شيء في نفس الآن.

3 – ثالثا، الخلط ما بين الوسائل والغايات :

هل هذه المسطرة الرقمية أداة فقط ولا غير في عملية التوجيه التربوي؟

أم أنها هدف وغاية لذاتها وفي حد ذاتها؟

بتعبير آخر، إذا كانت هذه المسطرة وسيلة من بين الوسائل العديدة للرقي بالممارسة التربوية في التوجيه فيجب أن تبقى اختيارية وتوضع رهن إشارة التلاميذ وأسرهم والأطر التربوية والإدارية وأطر التوجيه لاستثمارها كل من موقعه كلما دعت الضرورة لذلك، ولا يجب بأي حال من الأحوال أن تكون إلزامية وإجبارية.

4 – رابعا، هل هذه المسطرة محايدة؟

نطرح مشكل الحياد لأن الكل داخل الوزارة ينادي بتكافؤ الفرص وبمراعاة الظروف الاجتماعية والاقتصادية للتلاميذ وأسرهم.

وهذا الحياد لا يمكن أن يتحقق إلا في حالة واحدة :

أن تكون هذه المسطرة وسيلة فقط لا غير!

لكن، وأخذا بعين الاعتبار لمبدئين أساسيين في التطور التكنولوجي كما يقر بذلك علماء اجتماع التكنولوجيا، يحق لنا أن نتساءل إلى أي نسق تقني ستدخلنا رقمنة التوجيه؟

لا يحتاج الأمر لكبير عناء لنكتشف أن هذه المسطرة ستؤدي حتما إلى النتائج التالية :

– توحيد عملية التوجيه التربوي كمرحلة أولى في أفق..

– تنميط عملية التوجيه التربوي وتقنين الحق في الاختيار لدى التلاميذ وفق مبدأ الفعالية التي لا تقاوم

للأداة التقنية، هنا البرنام المعلوماتي. Le principe de l’efficacité irrésistible

– التحكم في مخرجات التوجيه ونسب الاختيار إلى الشعب والمسالك ″النبيلة″ التي لن تبقى في متناول أبناء وبنات الطبقات الدنيا وفقا لمبدأ الهامش الكبير للمكن أي ما تتيحه التقنية من إمكانات مادية للفعل الإنساني على الواقع.      Le principe de l’accroissement du possible

5 –  خامسا، الجانب الأخلاقي والقانوني :

رغم أننا في مجتمع استهلاكي لا يعير أهمية كبرى للمسألة الأخلاقية، لكن الأمر يختلف عندما يتعلق الأمر بمستقبل الأبناء. هنا بالذات ينتظر الآباء سلوكا أخلاقيا وتربويا من الأطر الإدارية والتربوية بخصوص فلذات أكبادهم. هنا أيضا تصبح المسؤولية الملقاة على عاتق أطر التوجيه جسيمة جدا. لنوضح..

ما الذي تعنيه ضمنيا فكرة الروائز؟

الجواب..

– أن التلاميذ وآبائهم لا يعرفون أنفسهم.

– أنهم بحاجة إلى من يعرفهم بأنفسهم.

– أننا نحن-أطر التوجيه- نعرفهم أحسن منهم..

– أنهم مجبرون على الامتثال والخضوع لمن يعرفهم أكثر منهم..

هل يوجد استلاب أكثر من هذا؟

وما معنى الحرية والمسؤولية في ظل هذا التحكم التربوي؟

ثم ما مدى قانونية هذا التوجيه القسري الناعم جدا؟

ألا نعيد تكرار ما وقعت فيع فرنسا التي نأتم بها في نظامنا التعليمي أواخر ستينيات القرن الماضي؟

(أنظر أحداث ربيع 1968 ومسبباتها)

6 – سادسا، ما هي القيمة المضافة لهذه المسطرة الرقمية؟

على المستوى الكمي فالمدة الزمنية التي تتطلبها تعبئة روائز هذه المسطرة من طرف التلاميذ لا تقل عن الساعة، وهي عملية إدارية إضافية للأطر الإدارية والتربوية وإضافية أيضا لأطر التوجيه.

فما معنى هذا؟

على المستوى النوعي ولكي نجيب عن السؤال أعلاه سننطلق من المسلمة التالية :

الهدف المفترض لهذه المسطرة الرقمية هو وضع التلميذ المناسب في المكان المناسب أي تحديد المسار الدراسي والمهني المناسبين للتلميذ.

بالمقابل، هل تخضع كليات ومدارس ومعاهد التعليم العالي لمسطرة التوجيه الرقمية؟

وهل تتحكم هذه المسطرة في نسب الولوج إلى هذه المؤسسات العليا؟

هنا مربض الفرس، لأن الجواب لا يخفى على أحد :

الخيارات السياسية والاقتصادية للدولة هي التي تتحكم في نسب الولوج إلى التعليم العالي.

فما الجدوى إذن من هذه المسطرة الرقمية؟ وماذا سيقول القائمون عليها حول كيفية تحقيق المشاريع الشخصية للمتعلمين..وأحلام الأبناء وأسرهم في الولوج إلى عالم الشغل على بساط من الورود المفروش بالمفردات الجميلة وووو…

واحد من اثنين..فإما أن هذه المسطرة زخرفة أو موضة تقنية ليس إلا، يمكن تصنيفها في خانة المشاريع الشخصية لمهندسيها للنجاح المهني والاجتماعي لهم..هم..لا للتلاميذ..أو أن هذه المسطرة وضعت أساسا للتحكم في مخرجات النظام التعليمي.

وأظن أن الجواب واضح جدا!

كلمة أخيرة لأطر التوجيه التربوي :

1 – أنتم أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية في تكريس مزيد من النخبوية داخل النظام التعليمي..

2 – أنتم أداة في يد المتلاعبين بمصير جيل كامل من أبناء وبنات المغاربة المسحوقين..

3 – ستجهزون على ما بقي من الهوية المهنية لإطار الاستشارة والتوجيه بالقبول بهذه المكننة المقنعة لخدمات التوجيه..

4 – ماذا أنتم فاعلون؟