كيف نصنع الطغاة...
عكفت خلال الأيام الماضية على قراءة كتاب أصدرته رئاسة الجمهورية التونسية في فترة الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي و عنوان الكتاب ” الكتاب الأسود منظومة الدعاية تحث حكم ابن علي” ، و الكتاب يتضمن معلومات قيمة و دقيقة عن الصحفيين و الجامعيين و المحاميين و مختلف وسائل الإعلام المحلية و الأجنبية التي كانت لها صلات عميقة بنظام بن علي و يحلل الكتاب آليات اشتغال دائرة الدعاية في عهد هذا الرجل، و كيف تم تضخيمه و تمجيده و تأليهه، في مقابل محاصرة و التضييق و الافتراء على معارضيه في الداخل و الخارج…فعدد كبير من الصحفيين و الكتاب و المثقفين كانوا يحصلون على اعتمادات مالية و عينية بشكل دوري مقابل تخدير الشعب التونسي خاصة و الرأي العام الدولي عامة، و تصوير تونس بن علي على أنها معجزة اقتصادية وواحة للديمقراطية و حقوق الإنسان…و الغريب في الأمر أني في أحد الندوات “حول الديمقراطية في العالم العربي” تم تنظيمها بعد غزو العراق مباشرة ، و بينما أنا ألقي كلمتي انتقدت وضع الديمقراطية في المغرب و مصر و غيرها، لكن بمجرد أن قمت بانتقاد نظام بن علي بدأت أتعرض لسب و التشويش من قبل بعض الحضور ، و الآن أتيحت لي الفرصة لفهم السبب فبعض الأسماء واردة في هذا الكتاب… لذلك علينا الاعتراف صراحة، أن الحالة التونسية في عهد بن علي، و كما صورها الكتاب الأسود، تنطبق على كل الأنظمة العربية وبدون إستثناء، فعملية شراء الذمم و تضخيم الطغاة، لم تكن نتاج لشعبية هؤلاء الحكام أو فرادة إنجازاتهم ، و إنما نتاج لمطبيل و مثقفين و إعلاميين و سياسيين أقل ما يقال عنهم أنهم “شهود زور”…
آراء أخرى
و يقال أن الرئيس الراحل “عزت بيغوفيتش” دخل يوما إلى المسجد متأخرا و هو أنداك رئيس للبلاد، فأفسحوا له المجال ليقدم إلى الصفوف الأمامية فالتفت إليهم وقال مقولته الشهيرة” هكذا تصنعون طواغيتكم” ، قال هذه الكلمة لأنه أولا من صنف المثقفين الربانيين، و ليس من صنف أشباه المثقفين، و ثانيا لأن الرجل مدرك لطبيعة النفس البشرية ، فكل رجل هو مشروع ديكتاتور إذا وجد البيئة و المناخ الملائم لنمو فيروس الديكتاتورية و السلطوية ، فرئيس البلاد أو الملك أو رئيس الحكومة.. و بشكل عام كل موظف عمومي، يجب أن تتم معاملته كأي موظف أخر في بيروقراطية الدولة، موظف يتقاضى أجرا من ميزانية الدولة أو بالأحرى من أموال الشعب لقاء ما يقوم به من عمل…
و سنحاول من خلال هذا المقال البحث في سيكولوجية الطغاة و مسار صعودهم من خلال مقالة “العبودية المختارة” و من خلال قصة فرعون الواردة في القران الكريم و تحديدا سورة القصص…
أولا- صناعة الطغاة وفق تصور “إتيان دو لا بويسي” و “العبودية المختارة”
و موقف الراحل “عزت بيغوفيتش” عبر عنه إتيان دو لا بويسي في مقالة فريدة “العبودية المختارة” المنشورة عام 1576، و تحلل المقالة بدقة العلاقة بين الحاكم والمحكومين ودور الشعوب في صنع الطغاة ومنحهم صفات وقدرات خارقة، فيما هم في الأساس بشر ليس لهم من القوة والبطش إلا بقدر ما يمنحه لهم المحكومون الذين إن توقفوا عن طاعة الحاكم فقد كل مصادر قوته…و يرى “لا بويسي” أن شخصية الطاغية لها خصائص معينة، ومن ذلك أنه لا يثق بأحد حتى أقرب الأقربين إليه، وأنه يستعين بالمرتزقة في حروبه خشية من أن يقوى الجيش أو يُخرج قائدا قد ينافسه في الحكم أو ينقلب عليه…و يرى “لا بويسي” ” أن سر كل طغيان إنما يكمن في إشراك فئة قليلة من المستعبدين في اضطهاد سائرهم وهكذا يرمي الطاغية بالفتات إلى زمرة المتملقين من أتباعه فلا يكتفي هؤلاء بما يغنمون منه ولا بدوام طاعتهم له بل إنهم يستبقون رغباته ويحدسون ما يريد قبل أن يفصح هو عنه. وهؤلاء المتملقون المقربون إلى الطاغية يختارون العبودية طواعية، بينما يكون الشعب مكرها عليها”…
و يعطي “لا بويسي” وصفة سحرية للشعوب للتخلص من الحكم الإستبدادي واستعادة الحرية فيقول: “صمموا على ألا تخدموا بعد الآن وسترون أنفسكم أحرارا. لا أريد منكم أن تدفعوه دفعا، ولا أن تخلعوه خلعا، بل كفوا عن مساعدته فقط ولسوف ترونه ينهار كتمثال ضخم أزيحت قاعدته فهوى وتحطم”. فالبشر و فق تصور “لا بويسي” “يولدون أحرارا وتولد معهم غريزة الدفاع عن حريتهم، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يقول إن الحيوانات أيضا تعشق الحرية وإن عشقها للحرية هو ما يجعلها تقاوم عندما تقع في الأسر بمخالبها ومناقرها وقرونها ويدفع بعضها للموت كمدا لفقدها حريتها أو التنازل عن “العاج” بكسره على جذوع الشجر كما تفعل الفيلة حين يقبض عليها الصيادون فداء للحرية….فالبشر يعشقون الحرية ولا يستسلمون للعبودية إلا في حالتين: إما أن يكونوا مكرهين بالقوة أو مخدوعين كما يفعل الكثير من الطغاة في العصر الحالي حين يروجون بأنهم صمام الأمان والاستقرار للبلاد وأن ذهابهم يعني أن تنزلق البلاد في أتون الفوضى ويتفشى العنف والجوع والتشرد حتى يرضى الناس بهم حكاما رغم علمهم بفسادهم وظلمهم.
و للتدليل على هذا العشق الفطري للحرية يذكر “لا بويسي” قصة الإسبارطيين “بولس” و”سبرثيوس” اللذين نشآ على عشق الحرية ورفض الاستبداد، وتطوعا ليفديا “أسبرطة” من بطش الفرس والحديث الذي دار بينهما وبين قائد جيوش ملك الفرس “إنداران” الذي سألهما عن سبب رفضهما لصداقة الملك ورغبتهما عن المغانم الكثيرة التي قد يحصلان عليها إن وافقا أن يخدما الملك. فأجابه الإسبارطيان: “أنت يا إنداران لم تحسن نصحنا في هذا الأمر، لأن النعمة التي تعدنا بها خبرتها أنت، لكنك لا تعرف النعمة التي نتمتع بها نحن ؟ لقد حظيت بإنعام الملك عليك غير أنك لا تعرف شيئا عن الحرية ولم تذق طعمها اللذيذ، ولو أنك ذقتها لنصحتنا بالدفاع عنها لا بالرمح والدرع فحسب بل بالأسنان والأظافر أيضا”…ويختم “لا بويسي” مقالته بالتصريح عن اعتقاده بأن الطغيان هو “أبغض شيء” عند الله و”أن الله قد أعد للطغاة وشركائهم عقابا خاصا في الدار الآخرة”…
ثانيا – صناعة الطاغية من خلال القران الكريم و قصة فرعون
“لابويسي” لم يكن مسلما بل إنه كان ينظر لخليفة المسلمين على أنه نموذج للطاغية و المستعبد لشعبه، لكنه صدق في قوله بأن الطغيان هو “أبغض شيء” عند الله، و في القران الكريم نجد أن الله تعالى قد ذكر مسارات وأفعال الطغاة في أكثر من موضع، فذكر شيئا من طغيان النمرود ، باستحضار أقواله وأفعاله في سورة “البقرة” و “البروج” ، كما ذكر الله تعالى قصة طغيان فرعون في أكثر من سورة، و بشكل مفصل في سورة القصص …
و سورة القصص حددت بدقة طغيان فرعون و مسار تطوره و قواعده ، و الذي يعد أنموذجا لسلوك وطريقة الطغاة في استعباد الناس وقمع تطلعاتهم، دون اختلاف أو تغيير إلا في الوسائل والأساليب التي تتطور وتتغير بتغير الزمان، قال تعالى في سورة القصص : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُون } (القصص4-6 ) و هذه الآيات تلخص بدقة فلسفة و ميكانزمات عمل الطاغية و نمو الطغيان فالآية تحدد ثلاث قواعد أساسية في مسار كل طاغية:
أولى قواعد الطغيان كما ذكرها القرآن الكريم هو العلو والاستكبار، وهو القاسم المشترك والصفة الجامعة بين جميع الطغاة في كل زمان ومكان، فقد ذكر الله تعالى علو فرعون في بداية سورة القصص { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} ، أي تكبر وتجبر وطغى ، كما ذكر استكباره في موضع آخر من نفس السورة: { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ } (القصص-39) ووصل علو فرعون إلى ادعاء الألوهية والربوبية من دون الله تعالى…
أما القاعدة الثانية فتبني سياسة “فرق تسد” قال تعالى : { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } أَيْ فِرَقًا وَأَصْنَافًا فِي الْخِدْمَةِ، يشيعونه على ما يريد ويطيعونه، فلا يملك أحد منهم مخالفته ، وقد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته ، وقد أغرى بينهم العداوة والبغضاء كي لا تتفق كلمتهم ولا يتفرغون للتفكير فيما يقلقه ويهز عرشه من تحته، فيظل هو مطلوبا من الجميع ، ويكون الجميع له أطوع .
وهذا فعل كل طاغية يريد السيطرة والاستبداد والتحكم في كل زمان ومكان، يجعل الناس في دولته فرقا وطوائف يوالي بعضهم ويعادي الآخرين ، ويوحي لحاشيته وأعوانه بأنه الحامي لهم والحافظ لحقوقهم ووجودهم ، بينما الحقيقة أنه يفعل ذلك حفاظا على استمرار ملكه واستبداده ..كما أنه { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ } وهم “بنو إسرائيل” في حالة طغيان فرعون، يستعملهم في أخس الأعمال، ويكُدُّهُم ليلا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته كما قال ابن كثير، و طغاة العصر الحديث قد تفوقا عن فرعون، فقد إستضعفوا الأكثرية والأغلبية من شعوبهم وهم بذلك فاقوا فرعون في العتو والاستكبار والاستعباد …وإذا كان فرعون قد حرم هذه الأقلية من أي استفادة من خيرات مصر أو من نتاج عملهم ، فإن طغاة العصر يحرمون الأكثرية من شعوبهم أيضا من خيرات بلادهم وأموالها ، رغم أنهم أصحابها ومنتجوها الحقيقيون , فما أشبه الأمس باليوم وما أدق وأصدق كلام الله تعالى في هذا الوصف العظيم للطغاة والمفسدين …
أما القاعدة الثالثة فهي التنكيل والتعذيب والإجرام بحق النساء والأطفال قال تعالى : { يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } ، وهذه سمة من أبرز سمات وأفعال الطغاة في كل زمان ومكان، وما الدماء التي تجري اليوم في مختلف الأقطار العربية من قبل الطغاة إلا صورة مشابهة للفرعونية الإجرامية المذكورة في القرآن الكريم.
و عموما فقواعد الطغيان كما أوردها القران الكريم من خلال سرد قصة فرعون، إمام و معلم الطغاة في كل العصور، تقوم على مبادئ وهي : العلو والتفريق والاستضعاف والذبح والاستحياء و يضاف إليها عنصر الدعاية و هو الدور الذي لعبه سحرة فرعون و كهنته، و هم في عصرنا بعض الإعلاميين و أشباه المثقفين الذين لايتورعون في تحويل سيئات الحاكم حسنات و نواقصه إلى كمال، و فشله إلى إنجازات، و تفاهاته و خطبه إلى أقوال خالدة إلى حين موته أو سقوطه أنذاك يصبح مثلا “الكتاب الأخضر” للقذافي مجرد ترهات بعدما كان في أعين بعضهم بمنزلة القران الكريم و هلم جرا …
و الواقع أن القران الكريم أعطى للبشرية عامة و للمسلمين خاصة توصيفا دقيقا لسيكولوجية الطغاة و المستبدين و منهجية عملهم، كما رسم بدقة سيكولوجية الجماهير المستضعفة، و لعل كاتب مقالة العبودية المختارة و هو يحلل علاقة الحكام بالمحكومين ، و يشرح كيفية نشأة و اشتغال الطغاة، كان بين يديه سورة القصص و قصة علو فرعون تحديدا ، و ذلك الأمر غير مستبعد فكتابات “فولتير” و “مونتيسكيو” و غيرهم من فلاسفة عصر الأنوار قد تأثروا بكتابات الفلاسفة المسلمين، و ربما اقتبسوا منها الكثير من أفكار التحرر و المساواة و نبذ عبودية البشر للبشر…
و على العموم أرى أن قصة فرعون و مقالة العبودية المختارة” تشخصان بفعالية العلاقة بين الحكام والمحكومين في العالم العربي ، فالشعوب لم تصل بعد إلى إدراك حقيقة أنها صاحبة الحق والقوة كما لم يدرك الحكام أن تجبرهم وطغيانهم وعدم احترامهم للقوانين ليس مستمدا من قوى خارقة يمتلكونها وإنما من أبناء الشعب الذين لو قرروا عدم طاعة أوامرهم لربما لقوا مصيرا مشابها لمصير الرئيس التونسي “الهارب” و الرئيس المصري مبارك “المعزول” و الرئيس اليمني عبد الله صالح الذي إنتهى به الأمر “مقتولا” هو و الزعيم الليبي معمر القذافي…
و الغريب في الأمر أن هذه الشعوب التي جعلت من بن علي و القدافي و صدام و الأسد و غيرهم من الطغاة “آلهة” و ” أصنام” مقدسة، هي نفسها التي إستخفت بالرئيس المنتخب ” المرزوقي ” في تونس ، و ” محمد مرسي ” في مصر و “محمد المقريف” في ليبيا، و هذه الظاهرة تدفعنا حقيقة إلى طرح العديد من الأسئلة من قبيل هل الشعوب العربية غير مؤهلة للحكم الديمقراطي، و هل الشعوب العربية تقدس القوة و من يعاملها بفضفاضة و استعلاء؟ و هل الشعوب العربية مستبدة بطبعها؟ هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في مقال أخر إن شاء الله تعالى … و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..