كنت غارقا في قيلولة عميقة من يوم صيفي حار من سنة 2007 حتى أيقظني رنين هاتفي وعلى شاشته رأيت اللقب الذي دأبت على مناداته به، تماما مثلما دأب على مناداتي به.. إنه صديقي الحميم وأخي الذي لم تلده لي أمي، الدكتور أفروخ ابراهيم، طبيب العيون الذي هزت وفاته قلوب المغاربة قبل أيام بسبب كورونا بينما كان يزاول عمله في مدينة سطات. فتحت الخط فبادرته :

ـ ألا نستحق معكم ولو دقيقة نوم؟

– هل شاهدت الاخبار على القناة الثانية؟

– لا. الله يسمعنا خير.

– غطوا عملية جراحية أجريتها في قافلة طبية في أزيلال، أعدت فيها البصر لفتاة تبلغ من العمر 17 سنة بعد أن فقدته قبل 14 سنة. الصحف كذلك غطت العملية واعتبروها معجزة.

وهي كذلك فعلا لأن الفتاة لم تبصر منذ أن كان عمرها ثلاث سنوات، أي أنها لا تدكر شيئا عن الحياة بشكل مطلق، وفجأة صارت ترى العالم الذي كان في مخيلتها مجرد أصوات، بمن فيهم إخوتها وأبوها وأمها.

هنأته على هذا الانجاز العظيم، رغم أنني لم أفاجأ إطلاقا بحكم معرفتي لهذا الطبيب النابغة الذي حطم الرقم القياسي في العمليات الجراحية سنة 1994 بإجراء أزيد من 400 عملية جراحية في سنة واحدة، حتى أنه بات يعتبر أحد الخبراء العالميين في مرض الرمد الحبيبي، ما جعل السلطات المعنية تختاره للمشاركة في قوافلها الطبية خارج البلد، كانت أولاها البعثة الطبية المغربية إلى “كوسوفو” أواخر التسعينات.

الدكتور أفروخ ابراهيم رجل ذكي حتى في مرحه، طموح بلا حدود، واسع الإطلاع مثقف من الطراز الأول. يحب للحياة، صادق في أقواله وأفعاله، فاعل للخير لا يميز بين الفقير والغني كما يشهد له الكثير من الذين نعوه من ساكنة سطات التي أتى إليها بعد أن قضي سنين عديدة في مستشفى بوڭافر في ورزازات، التي أتى إليها من مستشفى 20 غشت بالدار البيضاء، وكان بمثابة هدية من السماء إلى ساكنة ذلك الجنوب المنسي من وادي درعة إلى تافيلالت التي ترك اسمه خالدا في ذاكرة أجيالها إلى اليوم.

ما لا يعرفه الكثيرون عن ابراهيم، الذي فقد والده وهو في سن مبكرة جداً، ونشأ يتيم الاب في حضن أمه التي فقدها أواخر التسعينات، أنه ولج المدرسة ككل أقرانه في تاڭنيت، نواحي زاڭورة، إلا أنه غادرها في القسم الثاني الابتدائي لأسباب مادية محضة، وعاش تائها في دروب قريته وآبارها لمدة سنوات، إلى أن شاءت الاقدار أن يلتقي مع مدير المدرسة صدفة في بيت جيرانه أثناء حفل عائلي، فالتمس منه أن يعيد تسجيله وكذلك كان.

هكذا استأنف مساره إلى أن حصل على الدكتوراه في الطب من كلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء، وبعدها تخصص في طب العيون، ليجد نفسه أمام خيارين: إما أن يشمر على ذراعيه ويعمل، وإما أن يتدرج في مراتب المركز الاستشفائي الجامعي كما فعل زميله محمد ميڭيل، البروفسور الذي يرأس اليوم إحدى مصالح المستعجلات في ابن رشد، والذي لا يخفي إعجابه بكفاءة الرجل كلما أتينا على ذكر اسمه.

قرر ابراهيم أن يشمر على ذراعيه ويعمل وعيا منه أنه أن والدته ضحت من أجله، وهو ابنها الوحيد، وأن الوقت قد حان لكي  يعيد لها شيئا مما قدمت له، وقد نجح فعلا في تشريفها حق تشريف. دأب على زيارتي في فرنسا أثناء عطل الصيف رفقة أسرته الصغيرة، وكانت من أمتع اللحظات التي قضيناها معاً.. وكانت تلك، كما يقول، أجمل هدية يقدمها لبناته اللواتي علمهن أحسن تعليم، وأشرف على ذلك بنفسه إلى أن اطمأن على مستقبلهن.

وكان إذا قرأ لي مقالا أو شاهد لي مشاركة تلفزيونية يتصل بي بدعابته التي لم تفارقه أبدا وهو يقول: تكايس اصاحبي.. مازال ما سخينا بك..

شاءت الاقدار أن تفارقنا أنت وبالكاد أستطيع أن أصدق أنك فارقتنا إلى الأبد أيها العبقري..

وداعا صديقي ! وداعاً أخي الأكبر !