يعتبر المشهد الصادم لزعيم حزب إسلامي وهو يوقع على إعلان التطبيع مع الجانب الصهيوني بمثابة إعلان نهاية مسار لاتجاه فرض على التيار الإسلامي أولوياته طيلة العشرين سنة بعد تسجيله خسائر فادحة نالت من سمعة الحركة الإسلامية فأغضبت محبيها والمتعاطفين معها قبل المتربصين بها دون أن تحقق شيئا لتيارها ولمشروعها المجتمعي في الدولة وفي المجتمع بعد أن سجلت قدرة عجيبة على تبني الشيء ونقيضه وقدمت مثالا سيئا عن التلون والحربائية السياسية.

الأمر أكبر من حزب شارد أو مجموعة مغامرة شاذة عن الركب، فنحن أمام نسق فرض نفسه على التيار الإسلامي على الأقل منذ مطلع هذه الألفية والذي أفرط في التنازلات لدرجة اتسع فيها الفتق على الراتق واستعصى كل سلوكه على التبرير حتى طالت مقامراته قضية اعتبرتها أدبياته إلى وقت قريب قضية عقائدية بعد أن أضحت تشكل عبئا عليه في وقت تخفف من جل قيود مبادئه التي كبلته، لذلك فقد كان يتحين الفرص للعب بورقتها استجداء للرضا الغربي عليه الذي سيفتح على مصراعيه ويفك الفيتو المضروب عليه بسببها.

من هنا بدأت اللهجة تتغير عند بعض الإسلاميين بخصوص القضية الفلسطينية، فطفت على السطح عدة اجتهادات التي دست بغية التطبيع معها وتليين مواقف القواعد بالتدريج منها، مثل اتهام موقف الإمام حسن البنا منها بالجمود ودعوة حماس لعقد لقاء صلح مع الكيان الصهيوني وزيارة القدس، وكذا شرعنة الموقف من تطبيع الأتراك والقطريين الذي لم يكن يراد به تسويغ براغماتية الحلفاء فقط، وإنما أيضا التهييء للنسج على منواله إن توفرت الظروف، لذلك فإن ما صنعه العدالة والتنمية لم يكن مفاجئا من الناحية المبدئية فالمفاجئ هو السرعة التي أتى بها.

اللافت أن الزوبعة التي أثارتها خطوة التطبيع داخل البيت الداخلي للعدالة والتنمية سرعان ما تم إنهاؤها في مهدها وتحويلها إلى مجرد ملف من الملفات المتصارع حولها بين تيار الاستوزار وتيار لم يستفد بما يكفي من امتيازات القرب من دوائر السلطة والذي لم يظهر معارضة مبدئية للفعل، وهو ما يؤشر إلى أن الموضوع سبق أن تم التفكير فيه وأن القوم كانوا يحضرون أنفسهم لهاته اللحظة وما ظهر في كثافة المبررات الجاهزة يؤكد ذلك.

نشير هنا إلى أن النبرة المستعلية للإسلاميين المشارقة التي تتهم الحركة الإسلامية المغربية بالتساهل والتفريط بالثوابت غير مقبولة، فهم من تواطأوا مع سلطات تلك البلدان بتغييب التيار الأصيل فيها الذي رفض الإذعان للسلطة وحافظ على استقلاليته وظلت نبرته أعلى من نبرة الكثير منهم، فاستحق التجاهل وغض الطرف عنه وعن أنشطته من طرفهم، حيث لم يجدوا غير تلك المجموعات الصغيرة الملتصقة بخاصرة السلطة والباحثة عن شرعية خارجية لتتفوق بها على غريمها لتدعمها وتلمع صورتها وتعطيها ما تريد ما أهلها لأن تتمدد في الفراغ الذي تركه الحصار الخانق المضروب حوله، وهو ما جعل نموها غير طبيعي رهين بولائها للمخزن الذي يستخدمها لمحاربة الشعب المغربي.

الواقع أن العدالة والتنمية استفاد من دعم التيارين المتصارعين في الحركة الأم، فالجناح المحافظ الذي يسيطر على مفاصل التنظيم اهتم بالبحث عن طرف إسلامي يتبعه في الساحة المغربية وإن بشكل غير معلن متجاوزا القيادة التاريخية للشبيبة الإسلامية والاختيار الإسلامي وجماعة العدل والإحسان الذين لم تتقبل القيادة المشرقية استقلاليتهم. أما الثاني وهو الذي ينتمي إلى مدرسته الفكرية فقد اعتبر أن نجاح تجربة العدالة والتنمية في المغرب من نجاحه وهو يقويه في وجه التيار الذي سبق أن وصف أحد رموزه قيادته بالنطيحة والمتردية وما أكل السبع. وحيث أنه لم يكن يحمل تصورا تجديديا حقيقيا وجل ما كان يهمه أن ينزل من شجرة المبادئ، فقد كان يرحب بأي تنازل يقدم عليه الحزب المغربي مهما تجاوز الشرع أو المنطق أو الأخلاق.

المسؤولية إذا يتحملها داعموه وذلك بسكوتهم عن خطاياه وبعدم تقويمهم لاعوجاجه وخذلانهم للشعب المغربي الذي طحنته سياسات النظام التي مررها هذا الحزب في الوقت الذي انشغلوا فيه بالحديث عن فرادة النموذج الذي يمثله، وهو ما جرأه على اتخاذ هذه الخطوة التصعيدية الأخيرة، ومما زاد الأمر سوءا محنة إخوان مصر مع الانقلاب العسكري الذي سلم قيادة المشروع الإسلامي رسميا إلى استنبول وتحولت أم القضايا عند الإسلاميين هي الدفاع عن سياسات العدالة والتنمية التي حاولت النسخة المغربية محاكاتها.

لا ندافع عن التيار التقليدي داخل الحركة الإسلامية في كل مواقفه إلا أن ما يحسب له أنه ظل محافظا على عدد من الخطوط الحمراء التي جعلته ينخرط في الثورة المصرية ويتحمل تبعات قراره بشجاعة ورباطة جأش، والذي لم يصل إلى حالة التفلت العام الذي تشهده الساحة الإسلامية حاليا، لكن هذا لا يبرؤه تماما من عدد من الأخطاء التي فتحت الباب لاتباع الحركة الإسلامية المسار الراهن.

إن الانخراط في الزمن الأمريكي الرديء فيما بعد أحداث 11 سبتمبر وابتلاع طعم إمكانية الوصول إلى التوافق مع الطرف الأمريكي والطمع في أن يُدْرِجَ هذا الطيف الإسلامي ضمن خانة المعتدلين، تبين أنه مجرد جري وراء السراب، فقد ظن البعض أن اللقاءات مع المسؤولين الأمريكيين ولو على صعيد السفراء والقناصلة قد تحميه من الأمريكي ومن الأنظمة الاستبدادية التي يدعمها، ليتبين فيما بعد أن التواصل مع مسؤول وإن بمستوى وزيرة الخارجية لم يشكل أية حصانة للإسلاميين يوم أريد طي صفحة حكمهم بالانقلاب المدعوم أمريكيا وغربيا وبحملة الاستئصال البشعة لتيار متجذر في البيئة المصرية.

المهادنة لم تقتصر على الشق السياسي، إذ أن رواد التيار الإسلامي المعاصرون تخلوا عن مبرر وجودهم الحركي في رفضه للمشاريع المجتمعية الغربية الاستعمارية وفي سعي آبائه المؤسسين نحو التفرد عن غيره، حيث عملوا على تقبل الثقافة الاستهلاكية التسطيحية الوافدة من بلاد العم سام وتحول جل المجهود المبذول من جهتهم إلى الانخراط فيها والتصالح مع القيم الغربية والتسليم بسيادتها، رغم أن تلك القيم ليست قيما نهائية في عالم أكثر تعقيدا من أن يتم تبسيطه بالشكل الذي يجري.

الإسلامي الذي تَنَوَّرَ حديثا تخلخل توازنه بعد أن فرض عليه عصر الانفتاح الخروج من تقوقعه،والذي بات مهزوز الثقة بنفسه وببضاعته، فبافتقاره للحس النقدي فقد كان يفتن بكل كتاب يطلع عليه من خارج أدبياته وتكاد الدنيا لا تسعه إن سمع إطراء أو مديحا له من سياسي منافس حتى لو اندرج في إطار لغة المجاملات والنفاق المفضوح، كما أن كل صرعة من صرعات هذا العصر تستهويه وتبهره، حيث ينتقل بخفة من النقيض إلى النقيض، فمن الانغلاق غير المبرر على المجتمع إلى فقدان المناعة أمام الرياح الوافدة على ساحته المستباحة دون أية مقاومة حقيقية، ومن حمل هموم الأمة ومن البعد الرسالي الذي تميز به خطه إلى الطموح الفرداني المرضي نحو الغنى والتميز والبحث عن الشهرة والأضواء.

النتيجة أن هذه الفئة قد حققت اختراقا كبيرا في صفوف الإسلاميين وأضعفتهم وكشفت هشاشتهم بعد أن عملت على تقليم أظافرهم وانتزاع نقاط القوة التي امتازوا بها فيما مضى وصولا إلى سرقة قرارهم وتوجيه آرائهم، والتي لم تعد تحمل من الانتماء الإسلامي إلا الماضي وبعض الشعارات الباردة التي لا تستحضر إلا لمصلحة نخبوية ضيقة في اتجاه توريط الحركة الإسلامية في معارك لا ناقة له فيها ولا جمل خدمة لقوى إقليمية معينة.

لقد ضيع الإسلاميون فرصة تقوية صفوفهم وتجديد خطابهم حين أصموا الآذان عن أي صوت ينادي بإصلاح جبهتهم الداخلية، وهم قد قدموا بذلك هدية للتيار البراغماتي بعد استغلاله للضربات المكثفة التي استهدفتهم لفرض نموذجه الرخو. لذلك فإن صدمة التيار الإسلامي اليوم من صنيع العدالة والتنمية في المغرب إن لم تتجه نحو إحداث مراجعة شاملة لهذا المسار الفاضح ستتبعها صدمات أخرى أشد إيلاما من أطراف تنتمي لنفس نسق حزب العثماني وبنكيران والذي سيفضي لا محالة إلى التصدع التنظيمي والتآكل الجماهيري.

إعادة قطار الإسلاميين إلى سكته هو المطلوب لتلافي ذلك المصير مستلهما روح حامل الرسالة التي أمدته بالعنفوان فيما مضى والتي جعلته يصمد رغم كل الابتلاءات التي لحقته، ومتفاديا المزالق التي تسببت في تتالي الانتكاسات عليه تلك المرتبطة بخمود الزاد التربوي واستنزافه في حلبة الاحتراب الحزبي وبتضخم الأساليب الدعوية الزجرية العاجزة عن التأثير في الواقع المادي المستجد وفي الخواء الروحي الذي يطبعه.