عندما نحلل الأمور لا نحللها بوزازع رومانسي بل نحللها وفق مقاربة عقلانية استنادا لعدد من المؤشرات الدالة على أن هناك لحظة تقتضي اتخاد المواقف الحاسمة في سياسة الدولة الخارجية.

القضية الفلسطينية قضية أممية عادلة ومشروعة، وحلها يتوقف على مفاوضات ثنائية بين أطراف هذه القضية، والمغرب عندما يؤكد على حل الدولتين في بلاغه الأخير، فإنه يكون قد احترم مواقف الفلسطينيين أنفسهم،  ولم يتصرف بعقلية أنه فلسطيني أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، التي تتعاطى بها بعض التيارات السياسية في المغرب، دون الأخد بعين الاعتبار مصالح الأمن القومي للبلد التي تبقى فوق كل اعتبار!

بلاغ الديوان الملكي قال ما كان ينبغي أن يقال مند مدة، بلغة واضحة، وبدون لف أو دوران، وفي احترام تام لسيادته، ومن دون المساس بسيادة أي طرف دولي آخر،  ومن أراد أن يقرأ هذا البلاغ الذي كتب بلغة شفافة، من الزاوية التي تخصه فذاك شأنه، وسيأتي اليوم الذي سيدرك فيه الجميع، بأن التعاطي مع القضية الفلسطينية، لم يعد في ظل عدد من المتغيرات الكبرى، يقبل بأي مقاربة رومانسية، لا تأخد مصالح الأمن القومي للبلد بعين الاعتبار، في عالم تزايدت فيه وثيرة الاعتماد المتبادل بين الدول بشكل رهيب، إن على المستوى الاقتصادي، أو السياسي، أو الأمني، أو العسكري.

قبل اسابيع فقط، كتبت مقال رأي، حول أي مستقبل للعلاقات الدولية للمغرب، وكنت واضحا في فكرة المقال الأساسية، واليوم يأتي بلاغ الديوان الملكي، ليضع حدا لسياسة التردد في تبني المواقف الاستراتيجية والحيوية، التي تخدم المصالح المشتركة للدولة المغربية بكل مكوناتها، في علاقاتها الخارجية بمحيطها الدولي.

بلاغ الديوان الملكي، هو خطوة فقط في رحلة الألف ميل، ومن لازال يؤمن بمقولة فلسطين من النهر إلى النهر، التي لم يعد يقل بها حتى الفلسطينيين أنفسهم مند سنوات، فإنه إما أنه يعيش خارج التاريخ، وإما أنه يعاكس إرادة الشعب الفلسطيني الذي ينشد حل الدولتين بشرط أن تكون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، وهذا ما أكد عليه أيضا بلاغ الديوان  الملكي،  بلغة واضحة تمام الوضوح.

بلاغ الديوان الملكي، تضمن موقفا دبلوماسيا نبيلا، عندما ساوى بين القضية الفلسطينية وقضية الصحراء المغربية، وهذا ما لم يسبق تاريخيا للسلطة الوطنية الفلسطينية أن قامت به، بل حتى إعطاء موقف صريح من مغربية الصحراء لم يتم انتزاعه من الفلسطينيين، وبالتالي لا مجال للمزايدة بقضية فلسطين تحت وازع العروبة والإسلام، على موقف الدولة الذي جسده بلاغ الديوان الملكي.

مجال السياسة الخارجية مجال محفوظ لرئيس الدولة، وهذه خاصية مشتركة بين كل رؤساء الدول تقريبا، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي السائد في كل بلد. وقد آن اليوم الأوان للتعامل مع موقف الدولة المغربية بكل موضوعية وتجرد، وبكل روح مسؤولية، لأن السياق الدولي اليوم متغير، والعلاقات الدولية بشكل عام علاقات محكومة بالمصالح. كما أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية صراع عربي إسرائيلي، إلا إذا كان هناك من يعيش في زمن ما بعد النكبة!

في نزاع الصحراء المغربية، ظل المغرب لأكثر من أربعة عقود يناضل من أجل قضيته الأولى بإمكانياته ووسائله الخاصة، ولم يستعمل يوما القضية الفلسطينية كواجهة نضالية لتحقيق مآرب ضيقة، على غرار البعض الذي وظف هذه القضية لعقود من الزمن من أجل مصالح انتهازية للأسف الشديد، وليس حبا في أرض المقدس!

نتمنى للشعب الفلسطيني الشقيق كل التوفيق في مسيرته النضالية، ونؤكد على أن حل القضية الفلسطينية التي تروج في أروقة الأمم المتحدة مند عقود من الزمن، لم يعد ممكنا الرهان فيها على الآخر من خلال توظيف البعد العربي الإسلامي أو ما شابه ذلك، بل على الفلسطينين أن يتوحدوا من أجل صياغة مشروع وطني موحد، قبل التفاوض مع الجانب الإسرائيلي  حول حل الدولتين، كحل ممكن وواقعي ومقبول أمميا،  مادام أن القبول المبدئي بإسرائيل موجود.

ولكي نطمئن الأصدقاء قبل الخصوم، هذا موقف مبدئي، لم يملى علينا من طرف أي جهة، ولا تستطيع أي جهة أن تملي علينا أفكارها، لأن رأسمالنا الوحيد، هو مصداقيتنا وأي موقف نعبر عنه، يكون مبنيا على تراكم معرفي، ومؤسسا على معطيات موضوعية وبعيدة كل البعد عن كل ما هو  رومانسي.

مجال العلاقات الدولية مجال يحتاج إلى ذهنية براغماتية وأي توجه لا تراعى فيه مصالح الدول الاستراتيجية فلا مستقبل له في عالم يتغير بسرعة فائقة، ونحن بحس وطني مسؤول، لا نريد لوطننا أن يظل خارج التاريخ، وخارج دائرة التحول.