نازلة، بل هي أم النوازل على الإطلاق، لم يعرف لها تاريخ الفواجع نظيراً. وقعت الواقعة، ورُجَّت الأرض رجّاً، فكادت أن تكون بيروت هباءً مُنْبثّاً. استنعى الناس، داخل لبنان وخارج لبنان، ورأيتَهُم سُكارى وما هم بسُكارى. فجيعة كان لها ما قبلها، وسوف يكون لها ما بعدها. لن يمر “يوم القيامة”، يوم الرابع من غشت ٢٠٢٠، الذي أتى بغتة، لن يمر دون أن تكون له تداعيات جُمَّة، ليس فقط على مستوى الوجدان، بل على المستوى السياسي، والجيواستراتيجي، وحتى الحضاري. بالنسبة إلى”الما قبل”، فقد نجحت خطة التفكيك العربي، التي دُبِّرتْ بليل، في أن تُصبح لعبةً يُجيدها الحكام العرب، يضيفون إليها من ذكائهم الجماعي الخارق. خطة ماكرة، من خطط التجديد الاستعماري، تحولت على أيدى القوم إلى خطة جهنمية، إلى حروب ضروس للكل ضد الكل، من المحيط إلى الخليج. حروب لا تنتهي ولا ترتوي، حروب مُدمِّرة، مُخرِّبة، بين عرب أشِدَّاء بينهم، رُحماء على الأعداء وعلى الموالي. حروبٌ تشابكت خيوطها، وتناسلت أسبابها. نكبات تلْو نكبات، فِتنٌ عمَّتْ حتى هانت. تنابُذٌ بين الملل والنحل، وجهادٌ بين الإخوة الأعداء. اختلط حابل السلطة والدين بنابل المال والإرهاب. تيْهٌ أيديولوجي، ودوخة سياسية، وعتمة في الرؤية، فترى اليسار يجنح يميناً، فيما اليمين يعطف يساراً. عرب بلا أفق، كتب الفيلسوف كمال عبداللطيف مُخْتصِراً شتيت الكلام. بل هو، بالأحرى، أُفقٌ بلا عرب.
أُفقٌ مُدْلَهِم، “ترى الأرض في نواحيه حَيْرَى، تسألُ السَّحْبَ عن وميض شهاب”. رجَّة الوجدان هذه المرة عساها تُحْيي العظام وهي رميم، عساها توقظ الراقدين فوق التراب. لا بد من صحوة، لا سنية ولا شيعية، صحوة تُفيقُ من ثُمول “الما قبل”، وتمهد لبناء “الما بعد” على قاعدة المصلحة المشتركة. لا بد للعقل أن يجُبَّ الجهل. بيروت فرصتُنا الأخيرة، خيْمتُنا الأخيرة، ونجْمتُنا الأخيرة. وإذا هوت نجْمتُنا الأخيرة، فلن يبقى من مستقبلنا سوى نَفِيُّ الريح