في الأزمات والشدائد تظهر معادن الرجال وكذلك معادن المجتمعات والأمم، وقد أبرز وباء كورونا الذي انتشر النيران في الهشيم بمختلف بقاع العالم وما أفرزه من سلوكات ناجمة عنه كل بضاعتنا القيمية ورصيدنا الأخلاقي وكذلك مناعتنا المجتمعية، لكن ومع الأسف فإن ما أسفر عنه لا يشجع البتة. لقد كان تعاملنا مع هذا الوباء تعاملا قاصرا، حيث أفقدنا الذعر والهلع توازننا النفسي، ظهر ذلك جليا في النزعة الفردانية التي طغت على المجتمع الذي انقسم انقساما انتهازيا في مواجهته للوباء.

فكنا أمام هرولة شريحة من المغاربة ممن توفرت لهم السيولة المالية اللازمة نحو تكديس المواد التموينية غير مبالية بما قد تخلفه من أزمات وراءها والتي أوصدت أبواب منازلها بعد أن أمنت متطلبات عزلتها المخملية في قلة اكتراث بمصير فئة عريضة من المحرومين الذين وجدوا أنفسهم دون سابق إنذار في وضعية حرجة ينتظرون الفتات من الدولة بعدما تم إيقاف نشاطاتهم، بل إن الكثيرين منهم قد فقدوا وظائفهم بصفة نهائية. هذا في الوقت الذي سعى فيه بعض النافذين ممن يقتات على استثمار الأزمات على اغتنام هذه الجائحة عينهم على الصندوق المخصص لدعم الفئات المتضررة من هذه الجائحة.

المفارقة أن هذه الشرائح على تناقض مصالحها أظهرت خضوعا وطواعية غير مفهومة تجاه السلطة ولبسا في فهم أدوارها تجاه مواطنيها، فما يعتبر من صميم واجبات الدولة ظنه المغاربة مِنَّةً تتصدق بها عليهم، وعليه فقد وجب شكر المخزن والتنويه به والتصفيق لقراراته بدل مراقبته وتتبع أدائه ومحاسبته بعد ذلك، فعجت مواقع التواصل الاجتماعي بموجة عالية من التأييد غير العقلاني للخطوات الرسمية تخللتها عرض صور “الأمنيين” الذين تم استحضارهم والاحتفاء بهم بشكل استثنائي وجعلهم نجوم المرحلة دون أي مبرر معقول، حتى أن المزاج الشعبي انتقل إلى تبرير السلوك السلطوي الذي استفحل طيلة أيام الحجر الصحي، حيث سجلت السلطة المئات بل الآلاف من الانتهاكات.

الأمر لم يشمل الأفراد فقط، فحتى بعض التجمعات المعارضة كان انسحابها الإرادي من الفعل المعارض بحجة التعبئة الوطنية ضد الوباء لافتا ومستغربا وكأن اصطفافها في خندق المعارضة مجرد لعبة، يمكن أخذ وقت مستقطع فيها أو إنهاؤها وقتما تريد من أجل مصافحة المنافس وتبادل القمصان الرياضية معه، وليس اختيارا مبدئيا مرده دفع لعدوان على الحقوق من طرف لا يمكن اعتبار الخلاف معه مجرد اختلاف في البرامج مثلما في الأنظمة التي تحترم شعوبها، لأن صفحته قاتمة بالمظالم التي راكمها طيلة قرون من قهر المغاربة وإذلالهم.

الدولة المغربية لم تصنع في هذه الجائحة شيئا استثنائيا يستحق الثناء عليه، فكل الخطوات التي أقدمت عليها هي محاكاة لخطوات اتخذت من طرف جل الحكومات في العالم ومع ذلك فقد كان تنزيلها مرتبكا. والمعارضة إن لم تكن متيقظة في لحظة بالغة الحساسية مثل هذه اللحظة فما الجدوى منها، لكنها اختارت أن تمني النفس بالدعوة إلى المصالحة هي التي تدرك قبل غيرها أن المخزن لا يصالح أحدا ولا يفاوض أحدا إنما يملي ويفرض شروطه بعد أن يذل ويخضع في عملية تطويع طويلة الأمد لمعارضيه.

النتيجة أن عددا قليلا من الأصوات الحرة التي ظلت وفية لخطها في رصد خروقات الدولة واختلالاتها، مما عرضها لنقمة الأجهزة المعلومة التي سهل عليها الاستفراد بها فاعتقلت بعضها كما في حالة الصحفي سليمان الريسوني وشهرت بالبعض الآخر، الشيء الذي جعل تلك الأماني المعسولة التي منى بها البعض النفس تتبخر بعد أن استيقظوا من سكرة الحجر الصحي لكن مع حصيلة حقوقية ثقيلة.

لقد شكلت المرحلة السابقة درسا بليغا للمغاربة تجعلنا ندق ناقوس الخطر بخصوص مناعة ثقافة الحقوق والحريات التي أتت بها رياح الحراك العشريني وما قبلها من مسار نضالي متميز على مدى عقود من الكفاح ضد السلطوية إزاء ثقافة مترسبة تفلح في الأزمات الكبرى في إيقاظ ذلك الكائن المخزني الكامن في نفوس المغاربة، مما يستدعي نقدا ذاتيا صريحا من أجل تشييد أسس أكثر تجذرا وصلابة في مواجهة كيان لا يغير جلده والذي لا يقدم على التنازل إلا تحت الضغط الجماهيري، أما التودد له ومخاطبته بأساليب ناعمة فهو لا يزيد الذات المخزنية إلا تضخما وعلوا في الأرض.