الزفزافي وكهنة سرير بروكرست*
“يجب أن نوقف هذا العقل عن التفكير لمدة عشرين سنة وأربعة أشهر وخمسة أيّام” هكذا صدح المدعي العام لنظام موسوليني الفاشي بإيطاليا في أشهر محاكمة في تلك الحقبة التاريخية الزاخرة بالأحداث و ذلك لإخماد صوت أحد أبرز مفكري الماركسية وأهم منظري الحركة الثورية الإيطالية أنطونيو غرامشي.
آراء أخرى
وجهت له ولرفاقه تهم جاهزة تتربص بكل من حاول واقتنع بحتمية انتصار الثورة ودافع عن فكره نظريا أو عمليا و التهم كانت: التآمر ضد سلطات الدولة، إثارة الحرب الأهلية، التحريض على الكراهية الطبقية، تمجيد الجريمة والدعاية الهدامة، القيام بأعمال تخريبية تعرض أمن البلاد للخطر. ولم يظل إلا التخابر الخارجي ليكون الأمر مشابها لرزمة التهم الجاهزة التي وجهت لمعتقلي حراك الريف.
تشبه محاكمة المثقف الايطالي الشجاع غرامشي إلى حد بعيد محاكمة الحالم الريفي ناصر الزفزافي لا من حيث التهم ولا من حيث الحكم الذي أصدرته المحكمة الجائرة التي لا تزال تتعامل بعقلية القرون البدائية و كأن الزمن لم يتحرك من مكانه قيد أنملة، رغم أن حراك الريف لم يسعى وبشكل واضح لا لبس فيه نحو اعلان الثورة الشاملة على النظام، وبقدر ما كان حراكا سلميا يسعى لتحقيق مطالب شعبية ملحة و بسيطة جدا، الا أن ردة فعل المخزن الانتقامية تجاه شعب الحراك أكدت أن الريف لا يزال في نظر خدام المخزن “سرير بروكرست” و بروكرست هذا حسب المثولوجية اليونانية حداد و قاطع طريق صنع سريرا خاصا به يهاجم الناس و يرغمهم على المبيت عنده و من لم يتوافق حجمه وطوله مع السرير يقوم إما بمط جسده أو بقطع أطرافه ليتناسب طوله مع هذا السرير الحديدي.
و هذا ما حدث تماما بأرض الريف مع فئة الجيل الجديد من الشباب الريفي الذين لم تتوافق أفكارهم وطموحاتهم، مع السياسة العقابية المضروبة حول المنطقة والخطوط الحمر التي رسمها المخزن حولها من خلال ظهير العسكرة ساري المفعول منذ فجر خمسينيات القرن الماضي، عسكرة حولت البلاد والعباد إلى مجرد معتقلين في مساحة جغرافية محددة، كما أن هذا القرار، لم يستصدر هكذا عبثا، إنما الغرض منه هو إيجاد الغطاء القانوني الكافي واللازم لاستعمال العتاد العسكري، متى استدعى الأمر ذلك، من أجل قمع اي تحرك محتمل من الساكنة، وهذا ما تم بالفعل مباشرة بعد جريمة طحن الشهيد محسن فكري البشعة، محسن الذي استشهد على طريقة الفرم بحاوية نفايات لا لشيء الا لأنه حاول استعادة كرامته و رزقه الذي صودر منه بدون وجه حق ، في هذه الليلة الحالكة الظلمة التي وشمتها في الذاكرة الجماعية لشعب الريف و ذاكرة الإنسانية جمعاء في مشهد اقل ما يقال عنه بأنه مروع صرخة محسن فكري المدوية، بائع السمك ، كما أطلقت عليه الشاشات العالمية و ذلك بتاريخ 28 أكتوبر 2016.
من رحم هذه الليلة التراجيدية انسل شعاع نور. و من رحم الموت ولد البطل ناصر الزفزافي، في هذه الليلة المأساوية قضى أهل الحسيمة ليلة بيضاء لهول الحدث و لفظاعة الجريمة التي أخرست الألسن. وحده ناصر من امتلك جرأة الكلام و كان كلامه استمرارية لصرخة محسن التي أيقظت كل الضمائر الحية، صرخة استقرت بالقلوب مباشرة، بدا واثقا، شجاعا وقلة من كان يعرف هذا الشاب اليافع الذي ترعرع بعائلة بسيطة واحتضنته شوارع حارة شعبية بمدينة الحسيمة، كان له حضور سابق بمواقع التواصل الاجتماعي و ظهر بفيديوهات مباشرة توثق اهتمامه بقضايا المجتمع وبالشأن العام بالبلاد. ملك قلوب الناس بخطابه العميق والبسيط وامتلك مفاتيح لغة يعرفها الجميع ، تخلو من تعقيدات الايديولوجيات و المصطلحات السياسية الجاهزة الفضفاضة و التي جعلت خطابه يخترق كل الحواجز ليصل مباشرة للجماهير الشعبية على اختلاف مشاربها و تقتنع برسالته الإنسانية ما جعلها تلتف حوله و تؤمن به قائدا أفرزته المرحلة الحرجة التي خلخلت قواعد المجتمع الريفي، هذه كانت مهارة شخصية وذكاء فطري ميزت الشخصية الكاريزمية لناصر الزفزافي ما مكنه من بناء جسور ثقة بينه و بين الجماهير مكنت الحراك من الاستمرارية لمدة تقارب الثمانية أشهر، رغم تكالب الأجهزة المخزنية و بيادقها على اختلاف تلاوينها من اهل البيت ومن خارجه أيضا، كان عليه أن يمسك بزمام الشارع و الحفاظ على السلمية و في نفس الوقت كان عليه ان يتخطى بليونة فائقة كل السهام السامة التي تقذف باتجاهه قصد كسر إرادته و تثبيط عزيمته من جهات مختلفة التقت مصالحها لوقف الهبة الشعبية التي كسرت حاجز الخوف، ما جعلهم يفتحون كل أبواب الجحيم لترهيب سكان الريف و محاولة التشكيك بأهداف الحراك المشروعة و بنوايا قائده. و بعد فشل المخزن في ترويض الشارع الريفي ترهيبا و ترغيبا و اصطدام محاولاته بعناد الزفزافي و إصراره على مواصلة الطريق حتى تحقيق المطالب التي سطرها الحراك الشعبي قام بشن حملة اعتقالات شاملة وسط الأحرار وبات اعتقال الزفزافي أيضا مسألة وقت لا أكثر بحيث رصد النظام لهذه العملية كل ترسانته العسكرية و المخابراتية لتكون بالطريقة التي يريد و في اليوم الذي يريد ليكون يوم الاثنين الذي يوافق 29 ماي ليلة فارقة في تاريخ الريف. و لا غرابة أن يكون هذا اليوم هو نفسه اليوم الذي تم فيه ترحيل الرئيس خارج الريف عبر فاس و البيضاء و من هناك ستحمله باخرة عبدة نحو مرسيليا و منها إلى جزيرة لارييونيون، ليكون هذا التاريخ بداية تراجيديا الريف و تكتمل مأساة الاثنين برحيل ابنة الرئيس مريم الخطابي بالبيضاء التي لفظت أنفاسها الأخيرة على إثر سكتة قلبية بعد انتشار صور اختطاف ناصر على مختلف الفضائيات واقتياده لنفس المدينة، و كأنها كانت تبصر أباها مرة أخرى و هو يترك الريف مرغما و إلى الأبد، دون أن ننسى ضحايا ظهير 1926 المشؤوم الذي بموجبه تم نفي 19 شخصية ريفية من الريف الى بلاد المخزن الفرنسي بنفس الشهر ولنفس المبتغى.
لن ينسى أهل الريف ومعه احرار وحرائر العالم، مرارة ذاك الصباح، الذي انسل من خاصرة ليلة دامية وهو يجرجر معه سنوات ثقيلة من الظلم والاستبداد وكأنه شريط سينمائي يعيد أحداثا إلى الواجهة تمتد بعمق التاريخ لحدود اواخر الخمسينات مرورا بكل المحطات التي كانت بمثابة زلازل قوية ترنحت على إثرها جغرافية الريف قاطبة ، غيرت معالم أشياء كثيرة ، عمقت جروحا و راكمت تجاربا مؤلمة .
كانت زخات مطرية تنساب بغضب قاهر في تلك الليلة التي بكت فيها السماء تغسل على مهل رتوش المساحيق الكاذبة التي حاول النظام ان يخفي بها تفاصيل وجهه البشع الموغل في النفاق والقمع و كانت خيوط النور التي انسكبت من رحم فجر نازف تسحب ورقة التوت التي تغطي عورة المخزن المستبد الذي كان يتغنى بمزايا العهد الجديد والديموقراطية وحقوق الانسان و المسلسل الكوميدي للانصاف والمصالحة لنجد أنفسنا بعمق سنوات الرصاص بكل تفاصيلها .
تنتصب تازمامارت بكل ثقلها و صور ضحاياها أمامنا وكأن الزمن حوصر هناك ليختصر مساحة كل الوطن وسياسته في سجن وحارس وكرباج موقعة رسائل واضحة لمن يهمه الامر لنتعلم أن نكون عبيدا وان لا نتجاوز بأحلامنا سقف أحلام العبيد .
ونحن نفتح أعيننا على الصور القاسية في ذلك اليوم الكئيب التي تناقلتها وسائل الاعلام المحلية والعالمية والتي تعمدوا ان تكون قاسية ، صادمة و مستفزة لمشاعر سكان الريف عموما و لمناصري حراكه خصوصا، بالشتات والداخل، يظهر فيها ناصر الشامخ ، ناصر الحق الريفي النبيل هو ورفاقه مكبلين ورؤوسهم محشورة بأكياس داخل مروحية بأجساد منهكة يبدو عليها أثار التعذيب والوهن وكأنما القي عليهم القبض بساحة حرب مشتعلة من طرف الجبهة المعادية والفريق الذي قام بالمهمة تبدو عليه علامات الفرح والرضا منتشين بالانتصار الكبير الذي حققوه .
مهزلة بكل المقاييس ومنتهى البؤس أن تحاصر دولة بكل عدتها وجبروتها أشخاصا عزلا لا حول لهم ولا قوة بتلك الوحشية والسادية التي تجاوزت حدود الوصف .
لا شيء يغفر للنظام فعلته . والجرح الغائر الذي فتحه لن يندمل أبدا ، ولا شيء سينسي أهل الريف أفعاله الانتقامية مهما توالت الأيام والسنين و التي كان الهدف منها إذلال كبريائهم وتركيع أنفتهم.
لا شيء سيعود، بالنسبة إلى هؤلاء، الى ما كنا عليه قبل هذا التاريخ الذي له ما بعده وله ما قبله . انكسرت أشياء كثيرة بداخلهم واعادوا ترتيب أوراقهم، واكتشفوا أن لا شيىء تغير بسياسة المخزن تجاه الريف والجدار بينهم وبينه سيزيد سمكا. وكلمة أبناء السبانيول هي التي ستظل تلخص علاقة المخزن بالريف، فقد أسقطت هذه العبارة كل مزاعم دولة المخزن في المصالحة والتغيير والإصلاح.
عم الحزن و الغضب بلاد الريف و استمرت الاحتجاجات التي جوبهت بالاعتقالات العشوائية للشباب و القمع الشديد الذي وصل حد استعمال الرصاص الحي الذي ذهب ضحيته الشهيد عماد العتابي بمسيرة 20 يوليوز التي كان شعارها “الموت و لا المذلة”.
كانت أخبار الشارع الريفي تصل تباعا إلى عكاشة و كان على الزفزافي الذي تعرض لأقسى أنواع التعذيب بدهاليز وأقبية فرقة البوليس السياسي التي حاولت أن تجعل منه عدوا لكل المعتقلين، وأنه سبب معاناتهم من اجل أن يظل وحيدا و تشعل نار الفتنة بينهم أن يخوض حربا يومية ضد إخضاعه و تدجينه، و رغم المعاناة النفسية التي تكبدها و الجراح العميقة التي أحدثتها قساوة التحقيق بدا قويا بقاعة المحكمة، متماسكا، ثابتا لا يخاف من جبروت وغطرسة المخزن. كان صوته يخترق القفص الزجاجي العنصري محتجا و مستنكرا وكاشفا لأكاذيبهم يزلزل حنايا المكان و يبدي مقاومة أدهشت المراقبين دكت قلاع عدلهم الزائف رغم محاولتهم إرهاقه نفسيا بتمطيط مدة المحاكمة. فبدل أن يعطلوا عقله عن التفكير كانت تلك المحنة تجربة صقلت فكره و أوقدت جذوة ذكائه، فهم اللعبة جيدا و استوعب مخططهم فحرص ان يظل رقما صعبا و معادلة عصية عن الإلغاء و هامة تأبى الانكسار و خرج منتصرا من كل المكائد التي حيكت ضده و كل رسائله التي تتسرب أحيانا من خلف أسوار السجن تلخص رسالة غرامشي إلى أمه و هو يطمئنها قائلا:
“.. أنت مخطئة حين تفكرين أننّي منكدّر و فريسة لليأس. لست كذلك مطلقا، بطبيعة الحال لا أطير فرحًا ومرحًا طوال النّهار لكنّي لست كئيبا ويائسا كغراب يحّط على شجرة سرو في مقبرة. صدقا أنَا أحس بالهدوء والسكينة، كما يجب أن يكون عليه شخص يتمتّع بضمير حيّ وينظر إلى الحياة بدون أوهام…”
لم يترك لأحدهم مجالاً كي يحدد مصيره، مصيره حدده بنفسه حين صدح بالحق، و لم يقبل الإملاءات من أصحاب الولاءات الضيقة و النظرة الفئوية المحدودة و الخالية من كل معاني الآدمية. لقن الجميع درسا عن معنى الوطنية الحقة، فالوطن بالنسبة له أكبر من الشعارات الزائفة، أكبر من الأحزاب و الحكومات بوزرائها و برلمانها و أكبر من الجيش و الثكنات و اكبر من الملوك حتى، وطن عماده العدالة والكرامة والقيم الإنسانية السامية. و مخطىء من يعتقد أن حيث تكون الحرية يكون الوطن.. هنا وطن مكبل لكنه يبقى وطن، حتى وان أضحت هذه المساحة الجغرافية صخرة سيزيفية تدمي كتف أبناءه ليل نهار .
تمضي ثلاث سنوات و لا يزال ناصر يحتضن تلك الصخرة السيزيفية دون كلل و لا ملل في غياب تام لسند قوي يحفظ صموده و ثباته ، وحده يقاوم الحرب الضروس التي ترمي إلى ضرب رمزيته ، إذا استثنينا الزفزافي الأب و بعض الاحرار الأوفياء الذين ظلوا يقاومون المد المخزني وأبواق لفيف المخونين بكل ما أوتوا من إمكانيات . كما ساهم الوضع المزري للنخبة الريفية التي غرقت في صمت مطبق يشبه صمت القبور ، و تخلت عن دورها المنوط بها كواجب تاريخي كان عليها أن تتصدى له كي تظل قضية الريف حية، و لكي تظل القضية حية كان لا بد ان يستمر الحديث عن مآسي المجتمع الريفي و دق كل الأبواب الممكنة لإيصال صوت الحراك و معاناة المعتقلين و عائلاتهم وأن يظل اسم الزفزافي هو الجامع المانع للقضية بأسرها، لكن للأسف الشديد ما حدث كان مخيبا للآمال على كل المستويات و أصيب هؤلاء بالخرس و نفضوا أيديهم من الواجب الذي كان يلزمهم بالتحرك و أخذ زمام المبادرة. و اختاروا الاصطفاف إلى جانب المتواطئين و التفرج من زاوية تمنح لهم مسافة أمان كي يظلوا في وضع مريح و كأن الامر لا يعنيهم. لنكتشف مع الوقت أن هؤلاء ليسوا إلا وهما فرخته الجامعات ودجنته الأجهزة الأمنية في زمن الضياع و العبث و هم اجبن من ان يذكروا اسم الزفزافي على ألسنتهم بل باتوا يتحاشون ذكره في حديثهم و حواراتهم مخافة المساءلة القانونية و أضحى اسمه مخيفا و مرعبا، ما يوضح رضوخهم لإملاءات الجهات العليا بغية تقزيم دوره، و كأن هذا البطل الذي ضحى بحياته من أجل الريف لا وزن له . و هذا هو الهدف الذي سعى المخزن لتحقيقه من خلال تشتيت المعتقلين و ضرب التفافهم حول ناصر ليصير كل واحد يتحدث باسمه الخاص و كأنهم يعيشون في جزر معزولة بعيدين عن بعضهم البعض و لا يتشاركون نفس المعاناة و نفس المصير، متناسين أنهم بنفس الباخرة و لا بد ان يكون لهذه الباخرة ربان و إلا كان مصيرها الضياع و الغرق. على مر التاريخ و عبر كل المحطات النضالية كان للحركات الثورية كيفما كان حجمها قادة، اعترفت مجتمعاتهم بدورهم الجبار، ليأتي بعد ذلك اعتراف العالم بأسماءهم و يخلد بطولاتهم الإنسانية، الا في حالة حراك الريف اعترف العالم بالزفزافي في حين أن أبناء جلدتنا يصرون على تجاهله كما يصرون على ان لا يكون لهذا الحراك قائد لغرض في نفس يعقوب و تساوى في هذا الأمر النظام و المتخاذلين . حتى داخل سجون العار هناك من انطلت عليهم الخطة الجهنمية المخزنية التي اشتغلت بكل آلياتها النافذة على عزل الزفزافي عن باقي المعتقلين ليجد نفسه بآخر المطاف وحيدا، لا رفيق يؤنس وحشته بين الجدران العاتية و لا صوت حي بالشارع الريفي المحلي و لا الوطني يشد من أزره و يرفع من معنوياته وتكون النتيجة بالأخير أن يتمكن الأخطبوط المخزني من تطويقه من كل الجهات و الاستفراد به و بالتالي ابتلاعه رويدا رويدا حتى يغار وجوده و يتلاشى بأقبية السجون و من ثم تتلاشى القضية برمتها و تعود حليمة لعادتها القديمة .
الصمت تواطؤ، اللامبالاة تواطؤ ، الانغماس في التفاهات تواطؤ، الابتعاد عن جوهر الصراع تواطؤ ، خوض تحديات نشر الصور تواطؤ، امتهان التسول عبر لايفات منحطة تواطؤ. أنما يجب ان نتحدى انفسنا لتكون هناك استمرارية الحديث عن معتقلينا بالسجون و كشف معاناتهم و اقحام ملفهم في اي صغيرة و كبيرة يمر بها مجتمعنا كأدنى واجب يتحتم ان يقوم به من لا يزال يملك ذرة ضمير و ذلك إيمانا منا بأن لا شيء سيتغير بهذا الوطن من شماله الى جنوبه و من غربه الى شرقه اذا لم يتم تسوية ملف حراك الريف و الجلوس مباشرة الى الزفزافي الذي كان دائما رجل حوار، لكن كان يريده فقط حوارا مسؤولا، شفافا و عادلا ولن يكون كالحوارات التي كان يٌدعى إليها في ما مضى و التي كانت تهدف بالدرجة الاولى إلى إذلاله و تصغير حجمه و تقزيم دوره و بالتالي تسفيه القضية و تبخيسها ، و هذا ما لا يمكن ان يحدث، فالزفزافي سيكون اهون عليه ان يقضي عشرون سنة بلياليها و نهاراتها وراء القضبان على ان يرضى بهكذا مصير .
كل تغيير بهذا الوطن إن اراد هذا النظام ان يعبر بسلام نحو مستقبل مغاير ، مستقبل تتفتق فيه بوادر حقوق الانسان و الحريات و تسود فيه العدالة الاجتماعية لا يمكن ان يمر الا عبر تسوية شاملة لقضايا الريف و الا أصبحنا كمن يحرث البحر و لا يحصد الا الملح الأجاج. فما يسري على الريف يسري على المناطق الأخرى، فكيف يمكن أن ينعم أي جزء من اجزاء الوطن الشاسعة بحقوقه الشرعية من عيش كريم و عدالة اجتماعية دون أن ينال الريف قسطه من هذه الحقوق الشرعية التي ناضل و يناضل من أجلها أهله على امتداد العقود المريرة ، وليس من المنطق بتاتا ان تظل هذه المنطقة مكبلة، محاصرة، مقصية و معسكرة و نتوهم ان تصير المناطق الاخرى على النقيض تماما، اي أنها سترفل تحت سماء تمطر عدالة و ديموقراطية.
الزفزافي من بداية الحراك لم تشكل له خطوة فتح الحوار الجدي مع الجهات المسؤولة أي عقدة، إنما نادى إلى ذلك مرارا و قد ثبتت أيام الحراك حسن نيته و لؤم نوايا النظام و صدق الشاعر حين قال:
أنا لا أنظر إلى وطني من ثقب الباب
لكن انظر من قلبي المثقوب
و أميز بين الحب الغالب و المغلوب
وشتان بين من ينظر إلى الوطن من ثقب الباب و بين من ينظر من قلبه المثقوب .
* لاهاي، 29 ماي 2020
* المقال كتب بمناسبة مرور ثلاث سنوات على اعتقال قائد حراك الريف المناضل السياسي ناصر الزفزافي