استطراد حول مجتمع درجة الصفر
لماذا؟
آراء أخرى
قد يبدو العنوان موجها ضد مجتمع معين، وقد يتهيأ البعض لقراءته بنفس سوسيولوجي موضوعي يعبر عن انتماء أكاديمي لكاتبه، وقد يبدو أيضا دعوة أخلاقية، متضمنة لنقد ما وصلت إليه الأوضاع في عدد من المجتمعات الإنسانية خلال الزمن الراهن، للسمو بها، عبر تبني مقتضيات ما وصلت له الحضارة الإنسانية بخصوص تقدير الكون والحياة، وبالتالي استيعاب تراكم معارف الإنسانية وخبراتها لتجاوز تاريخ تفاوتاتها الإقصائية وعدوانياتها المستعلية وصراعاتها الدموية. كما قد يبدو الأمر دعوة لمسح الطاولة وتغيير المنهج والوجهة لاستدراك وتصحيح المسار الذي أنتج الأوضاع المأساوية للمجتمعات، وذلك بالاستغلال الأمثل والعادل للموارد والإمكانات والثروات، بهدف تفادي أو تخفيف شدة الدمار والخراب الذي قد يخلفه السقوط الكبير المتوقع بأكثر من صيغة، وذلك عبر إبداع نماذج جديدة من التفكير والسلوك وتطوير العوائد وطرائق التنشئة الاجتماعية وتدبير متوازن للمشترك الإجتماعي. وقد يتوقع البعض أيضا أن المقال سيبرر بالحجج استحقاق حشود بشرية، محددة في الزمان والمكان، لنعت مجتمعات درجة الصفر.
لذلك، وحرصا على ضبط خط تواصلي معقول مع متلق متعدد ومتنوع التكوين المعرفي والعلمي، نرى ضرورة التوضيح بداية أن المقال لا يحمل هوية علمية معينة، وأن درجة الصفر ليست علامة متحصل عليها نتيجة تقييم كمي بمعايير تخضع لقواعد الدوسيمولوجيا ( Docimologie )، بقدر ما أن الأمر يتعلق بقراءة في أصل المجتمع، كفكرة مجردة، وكمقام سكون مطلق سابق على وجوده. لكن السؤال الذي سيطرح حول الداعي لمثل هذا التفكير في لحظة انشغال العالم كله بأزمة أمنه الوجودي بسبب جائحة كورونا، وهو سؤال مشروع لتصنيف طبيعة الموضوع ودواعي إنتاج نص حوله، خصوصا إذا صار تبويبه خارج سياق الأحداث. لأن الاهتمام بمواضيع فكرية تائهة في الوقت الراهن قد يعبر عن غياب رغبة المشاركة في ظاهرة التفكير الجماعي حول وباء “كوفيد 19″، وإن كان في الإمكان تقبل مثل هذا الاختيار كتحرر من القيد والهيمنة التي تفرض عليها من قبل الغير الذي يذيب التمايزات ويلغي الخصوصيات. لكن الانخراط في التفكير الجمعي بالرغم من سلبياته الوجودية تلك يعد ضمانا لمتلق متفاعل ومناقش. فالحاجة الاجتماعية تبقى محرضا دائما للتفكير الجماعي، وولادة ل”الاختراع” وللتغيير.
كجواب مسبق على السؤال الذي يطرحه الكاتب نفسه قبل القارئ حول ما يمكن أن يقدمه مقال آخر إلى جانب كم المقالات والتقارير التي صدرت من شتى التخصصات المعرفية وبمختلف لغات العالم حول جائحة كورونا، وحول التميز الذي سيحتفظ به هذا النص ضمن كل الركام المعرفي المنتج بصدد الظواهر المصاحبة للوباء. فإن الجواب يتضمن، من جهة، إفصاحا عن رأي ومشاركة في النقاش العمومي العابر للتخصصات المعرفية كرغبة في تفعيل حرية التفكير والتعبير المقدسين عرفا وقانونا، ومن جهة أخرى نزوعا للتحرر في الكتابة، قدر الإمكان، من صرامة القواعد الأكاديمية، وتدقيق الإحالات، وحفظ خطوط العنعنة، وإكراه الوثيقة، وشروط المحسنات اللغوية والبلاغية، وغيرها… ليصير مقال رأي بتلقائية الحكي، تتقاطع فقراته أفكار الغير، ليس سطوا بل تناصا، ولا يقف عند الأسماء ودقة توظيف المفاهيم إلا لضبط المعنى وحماية انسجام الأفكار أو تقابلها.
درجة الصفر وسكون الوجود
درجة الصفر هي منطلق القياسات. نقطة المركز الوهمي الذي تتقاطع فيه محاور قياس الأبعاد، ولكنها أيضا نقطة تمتص كل الأبعاد فتجمدها وتخفيها، إنها ليست عدما ولا مجموعة فارغة بل هي الوجود الكامن والصامت في توازنه المطلق. فدرجة الصفر في الوجود الطبيعي والبشري معا تعبر عن نقطة التوازن المثلى، وهي بهذه المواصفات تبدو مطلبا إنسانيا متجددا. ولكن هل يجدي البحث عن نقطة الصفر في الحياة الاجتماعية دون الانتباه لنقطة صفر وجود الفرد البشري نفسه.. فرد بنقاء الفطرة المعبرة عن أصلها العقلي الأخلاقي المطلق..فطرة تنعكس في سلوكه العملي حالة مثلى من سمو الأخلاق.
إن تعيين درجة الصفر يعني منتهى البحث عن البذرة الأولى..البحث عن بداية ال”كان “، قبل بداية عصر الماء (ازمان اوامان)[1]. لكن هل من الممكن عبور سمك التاريخ، وكل تعقدات وتشابكات الواقع المصنوع والمصطنع عبر الزمن، بكل والحدود التي رسمت بين العصور والأحقاب التي صنفها وحدد خصائصها الفلاسفة والمؤرخون والأركيولوجيون والجيولوجيون وغيرهم، ومضاعفة جهد متابعة التنقيب لتجاوز “عصر الماء” حتى يتحقق اكتشاف بساطة تكوين الأصل الأول، وفكرة تكوينه نقطة وهمية في الفضاء؟.
قد يطرح السؤال أيضا بصيغة: أليس التفكير بهذه الطريقة رمزا من رموز العبث في عصر سقوط عدد من آلهة السماء وتحطم عدد آخر من أصنام الأرض، مع كل ما واكب ذلك من اندراس هياكل من الخيال والوهم المنسجم أمام النزعات الفلسفية والعقلية التي ادعت موضعة تأملاتها بالكون والحياة والتجربة الإنسانية، وصولا إلى نزع السحر عن العالم، وكشف الحجب عن المجاهيل المخيفة، وفضح خذع استغلال الوصاية على العقل الفردي منعا لتحرر الإنسان؟ إذ، كيف يمكن القبول في الوقت الراهن بتأسيس نظريات كبرى يختفي مجمل أجزائها في ضباب مجاهيل الماضي، بحجم لا يفيد فيه التشبيه بجبال الجليد؟ وما قيمة كل التراكم الحاصل في التراث المعرفي والحضاري البشري إذا كنا مضطرين للعودة بتاريخانية مقلوبة لتلمس النواة الأولى لولادة البشرية وولادة المجتمعات؟ وهل يمكن للحظة انتشار وباء ما أن يجعل الإنسان، المثقل نفسه بأوسمة فتوحاته وانتصاراته العلمية، أن يضعف لدرجة استنجاده بقصة بساطة علاقته الأولى بالأرض؟
إن رعب الإنسان من المجهول القادم، المنفلت من توقعاته، ليس أقل ثقلا من توجسه من جهل أو معرفة ناقصة بماضيه. فلعبته مع الزمن لا تنتهي، لذا فهو لا يكف عن الربط بين الماضي والمستقبل. فمطلب استعادة الإنسان لحاجته من التاريخ يظل ملازما لسيرورة حياته الجماعية..يسائل أصوله.. يبحث عن البدايات الأولى لتشكل كيانه الاجتماعي، ماهية وهوية وعرقا وطائفة.. بل يمتد فضوله أكثر لمعرفة الأصول والبدايات لدرجة العودة لوصف لحظة الإنفجار العظيم، في لحظات تأمل عميق، لكتابة سيناريو الخلق الأول..يطيل رحلاته بحثا عن خروج الخلية الحية الأولى من الغبار المتطاير وسديم الكون المادي الذي تشكلت منه أنظمة النجوم ومنظومات من الكتل الباردة التي توزعت في الفضاء الواسع كواكبا وتوابعا.
إن ولع الإنسان برسم وتجديد الخطوط الزمنية للعناصر السابحة في هذا الفضاء الواسع، الذي يختفي حجم الفرد البشري المتناهي في الصغر في حجمه المتناهي في الكبر، مؤسس على فرضية ملزمة مضمونها أن: كل شيء انطلق من نقطة الصفر..إنها مسلمة لحظة الخلق التي تموضعت في نقطة هندسية مضغوطة ومخفية في الفضاء، فكانت بذلك درجة الصفر الأولى.
بعد قناعة أولية ضرورية بخلق الأرض التي أخذت حجما وكتلة وحيزا، فتوزعت عليها مساحات اليابسة والمياه، وكستها طبقة الغازات، لتشكل، بتكامل عناصر بيئتها تلك، درجة صفر الحياة على الكوكب الأزرق، يحاول الإنسان رسم شريط زمن سيرورة الكائنات الحية، ليس بالمعنى الدارويني ضرورة، بل كقدرة على الحياة وكأجزاء من توازنات المادة البيئية. ومن داخل هذا النسيج الطبيعي يبرز خط زمني آخر يتعلق بالإنسان، فردا وجماعة، ليصير الزمن الخاص بالحياة البشرية.. حياة انطلقت من درجة الصفر على محاور قياس الأبعاد الطبيعية، قبل أن تمتد لتحقق تميزا ووجودا ثقافيا متقاطعا ومندمجا بالأول.
دأبت الأسطورة والدين والحكمة الطبيعية والفلسفة والثقافة الشعبية والعلم، منذ زمن بعيد، على نسج حكايات وقصص ونظريات حول الأصول الأولى للوجود والكون والعالم، وتخصصت بعض فروعها في تحديد أعراق الشعوب، وأصول الطوائف، وبدايات الجماعات والمجتمعات، وموتها أيضا لتبدأ أخرى. وحتى إن لم تتفق كلها على تحديد نقطة البداية، فجميعها انطلقت من يقين وجودها بالقوة. ولذلك سيصعب نسبة مجتمع درجة الصفر لمصدر أو صنف معرفي معين، كما لا يمكن تحديده كحدث تاريخي تسنده وثيقة ما، فالجزء المهم من تلك التصورات معبأ بخيال موجه بمرامي تضمر أو تصرح بضرورة إصلاح أو تغيير الواقع الاجتماعي المعيش. وبالتالي فتحديد درجة الصفر هو مطلب لمشروع تصميم المستقبل الاجتماعي. ولم يكن يقتضي رسم نقطة الصفر الوهمية تلك وجود حركة اجتماعية حاملة لمشروع ما، بهدف وقضية، تطرح من خلاله رغبتها الإيديولوجية أو الطوباوية في تحقيق إعادة انطلاق المجتمع، بطموح زمني أو مطلق. حيث يسهل علينا أن ندرك أنه، حتى حالات رغبات الخلاص الفردية، يطرح الفرد نفسه نموذجا للنجاح الذي يعين له نقطة انطلاق خاصة، وقد يضحي بذاته لصناعة القدوة، مهما تعددت التسميات كالنبي، أو الثائر، أو المتصوف، أو الصعلوك، أو المتمرد الخارج من هامش المجتمع أو مركزه، أو غيرها من النعوت.
الفاجعة والعودة للبحث عن درجة الصفر
إذا كان قد سبق التصريح بربط مضمون هذا المقال بالمعيش الراهن، فإن مرد ذلك لقناعتنا بأن التفكير يبقى ظاهرة اجتماعية، لها شروطها المنتجة لها. وهو أمر يغطي ماضي التفكير البشري عامة. فحفاظا على العلاقة الواضحة بعنوان المقال، سنكتفي بالإشارة السريعة لنموذج فلاسفة العقد الاجتماعي، كمثال على تعيين درجة صفر المجتمع، من حيث تخيلهم للأصول الأولى للحياة الاجتماعية. إذ لم ينطلقوا في بناء تصوراتهم الفلسفية من وثائق تاريخية أو آثار أركيولوجية، بقدر ما حاولوا تبرير أطروحاتهم حول التعاقد الاختياري للأفراد للخروج من حالة الطبيعة لحالة المدنية، بالاعتماد على افتراض طبيعة الحياة الجماعية للبشر تجميعا وانعكاسا لطبائع الأفراد المكونين لها. وهم بذلك كانوا يؤسسون لثورة في البنيات والمؤسسات الأساسية التي كان يتركب منها مجتمع القرن الثامن عشر الميلادي بأروبا، حيث أنهم قد أنجزوا قراءة نقدية للمعارف والقناعات والقواعد والممارسات والأوضاع الاجتماعية والحقوقية والسياسية السائدة آنذاك، وعملوا على تقوية مشاريعهم باستحضار نقطة الصفر في الوجود الاجتماعي، مع التفصيل في ما يرتبط بها من إشكالات حول بدايات المعرفة والأخلاق والقانون وسلطة الدولة وغيرها.
سيصعب علينا تتبع تعاقب كل محاولات منظري التغير الاجتماعي لاكتشاف أصل النواة الأولى للحياة الاجتماعية لكثافتها. إذ مع كل القوة التي يحظى بها هذا الافتراض، فإننا نجد أنفسنا مقتنعين أيضا بأن الفكر البشري لا يطلب العودة لنقطة الصفر إلا رغبة في إعادة الإنطلاق وتأهيل قدرات الجماعات البشرية للتكيف مع الضرورات والإكراهات التي تطرحها تغيرات الطبيعة وحركة الناس عبر الزمن. وهي رغبة عامة تغذيها لحظة وعي جمعي بانتكاس واقعي أو متوقع يمنع متابعة الأهداف لتحقيق مشروع سابق. فالرغبة الجماعية في هذا السياق هي رغبة للتحقق في المستقبل، أما الماضي المطلوب فهو التراث البشري المنحدر في اتجاه تحقيق المشروع الجماعي اللاحق. لأن الإنسان الذي دأب منذ زمن على تخليد أثره عبر تسجيله على خط الزمن السائل..أثر بصيغة الجمع.. ينتقيه ويبدع في صياغته كما يجتهد في ربط عناصره، ليرسم به شريط تاريخ تلتقي عليه الأحداث المتقطعة والتجارب والتحولات والطفرات.. شريط تتناسق فوق مسطحه النقوش والقبور والأشياء والخطوط والحكايات والأخبار والممارسات والوصايا.. تظهر وتختفي في سيرورته الأجزاء والمراحل التي يصب السابق منها في اللاحق. لكن مهما كان الوصف والتحليل للطفرات والقطائع والثورات والتغيرات الكبرى التي يحدثنا عنها ماضي البشرية فإنها تظل حمالة لمعنى تجديد فكرة نقطة الانطلاق.. تسجيل نقطة الصفر كل مرة، وإن كان ذلك بدلالات جزئية.
لحظة الوباء الراهن هي سيرورة من التحيينات لعمليات ذهنية: تفكيرا وحكما ومشروع فعل جماعي، وهي أيضا تتابع لمتغيرات حرارة الحياة الجماعية الكلية كما وكيفا، على مستويات متراتبة، وبدوائر متراكزة، منطلقة من أسرة في بيت لحدود كل العالم المحسوس والمتمثل. إنها كذلك سيرورة تقلبات السياسة وصناعة الأحداث التي تفلت من المراقبة والتحكم والعقلنة، لتثير الرعب الجماعي وعدم الشعور بالأمان، ولتنشر وتعزز القناعة لدى العموم بضعف القدرة على المواجهة. فهذه اللحظة بقدر ما شدت الانتباه لقوة ارتباط حياة الناس بالموارد والقدرات البشرية وبالزمن، فهي قد دفعت بهم إلى البحث عن فك لغز متاهة الحاضر، بالعمل على فهم السبب وراء ظهور الوباء في ما تم تسجيله من أنشطة وأوضاع في الماضي القريب، لضبط تسلسل منطقي للأحداث، ومتابعة المستجدات، وعقد مقارنات بتجارب سابقة. وكذا للبحث، بموازاة ذلك، عن سبل التكيف وتقبل الوضعية ومعايشة المخاطرة.. لرسم نقطة صفر جديدة في منتصف الطريق.
إذا كان العلم يتأسس شرط اشتغاله الأول على يقين بوجود نظام دقيق في العالم، تحكمه قوانين خاضعة لمبدأي السببية والحتمية، وما يعنيه ذلك من ضرورة تكرار نفس النتائج مع كل تكرار لنفس الأسباب، فإن وجود نظام اجتماعي محدد بدقة غير ممكن، لأن ما يوجد في الواقع المحسوس هو لحظة معطاة من التقاطعات المعقدة بين مجموعة من الأنساق الواقعية السائلة، تنتج عنها الكثير من الأوضاع غير المنسجمة.
وإذا كان هناك من يعتقد أن التعاقد الاختياري بين الأفراد هو أصل المجتمع، فإن من بين كثرة من انتقدوا هذا الرأي، يبرز التصور الذي يعتبر أن العقد الجنساني ( Le contrat sexuel ) هو العقد الأول، فهو وحده الذي استمر عقدا منظما وحاملا لجنينية الحقوق السياسية. فالعقد الجنساني، حسب هذا التصور، هو بداية التاريخ السياسي للجنسين، وهو الكفيل بشرح كيفية تشكل الأبوية السياسية التي تعيشها المجتمعات الراهنة، وهو الذي ما زال يسمح بفهم شروط حياة المرأة كمواطنة تجاه مجتمع أبوي، وبالتالي فهم الحق السياسي كحق أبوي أو كحق جنساني، إضافة إلى التفسير المقنع الذي يقدمه هذا التصور عن وجود واستمرار سير المؤسسات الاجتماعية القاعدية كالأسرة والدين والثقافة والقانون، التي تعد أسسا يقوم عليها الوصف المسبق للوضعية التي تهم التمايزات الاجتماعية، والتي تترجم لصراعات حول المشترك من رصيد الثروة والسلطة، بحثا عن الاعتراف وعن الكرامة.
وإن كان يبدو الأمر معقولا، لا نريد أن يأخذنا حماس صوفي لنتصور مجتمع درجة الصفر أسريا..أساسه فكرة أسرة.. نقطة وهمية في فضاء مطلق.. تنفجر لتتناثر شظاياها على مساحة الأرض، فتمتد جذور البذور الأولى للمجتمع في أعماق المكان، لتنمو مع زمن يمنح كل فرد وجودا اجتماعيا يتقاسمه مع الآخرين..فقط، لأن الوجود بالفعل هو وجود التحولات.. وجود تنفلت فيه زمام العقلنة والتحكم، ويسوده الخوف من مجاهيل الزمان والمكان. لذا فلحظة صفر المجتمع أو الأسرة -بذرته الأولى- ستكون مصطنعة اصطناع الأمن والسكينة من داخل كل مظاهر اضطراب ورعب الواقع، لكنها تبدو لنا لحظة ضرورية لبذل أفضل ما يملك المجتمع بقصد ضمان استمرار وجوده ومتابعة أهدافه.. لحظة رغبة تتقاسمها غريزة البقاء وإرادة العقل.. لحظة مشروع مجتمع لبلوغ درجة مجتمع المشروع.. لحظة صفاء روح العابد في محراب دين الإنسانية..دينا لا يغفل عن الحب كأصل أول، ونقطة انطلاق، ودرجة الصفر في أسمى معانيها.
خاتمة المقال
إذا كان الحدث الأكبر للحظة الراهنة هو سيرورة تدبير جائحة كورونا، مع كل ما يوازيها من الصخب السياسي والإعلامي العالمي الذي ينذر بانقلاب قادم في العلاقات الدولية، وبتحولات كبرى في الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية، بحدود الأوطان وخارجها، فإن هناك عددا آخر من القراءات الفلسفية والعلمية تحاول منذ الآن توزيع حظوظ الأحياء في عالم ما بعد الوباء. وإذا كان يبدو لنا الأمر مبكرا على تنبؤات وتوقعات علمية أو شبه علمية تخص فترة زمنية لم تتضح حدودها بالزمن الراهن بعد، فإننا لا نستطيع رفض المؤشرات الدالة على تحولات ممكنة ومتوقعة على مستويات عدة. فقد تعلمنا من درس التاريخ أن الأحداث الكبرى تسبب قطائع وانعطافات في مسارات وبنيات المجتمعات، لكننا نستطيع بالعودة لنفس الدرس أن نتعلم، كما يمكن أن ندرك بالتأمل، وبتجاربنا السابقة القريبة كأفراد بمجتمعاتنا أيضا، أن كل حدث يسجل بقوة، سواء كان مفاجئا أم متوقعا جزئيا، هو نتيجة وسيطة لتسلسل لحظات سابقة عليه.
لكن، عندما يثير الحدث اهتمام فئة اجتماعية أو سياسية تستطيع أن تعبر عنه جهرا وتثير حوله النفير، فهي بذلك تستطيع تضخيم مأساة اللحظة بقدرتها على التعبير والإقناع بفداحة أبعاده التدميرية الواقعية أو المتوقعة في الحياة الجماعية للناس. وتستطيع بتلك الطريقة أيضا أن تبعد عنها شبهة المشاركة في حصاد الخسائر، أو أن تهيئ الظروف لسهولة إخضاع إرادات الجميع لاختيارات محددة كسبل وحيدة للنجاة، ودفعهم بالتالي للقبول بتغيرات كبرى في حياتهم ومكاسبهم السابقة. فالتمثل الاجتماعي الشديد للمأساة يدفع الأفراد والجماعات للرفع من قيمة وحجم التضحية بعدد من المكاسب السابقة تعلقا بالحياة، فتترجم الاستعدادات لممارسات وطقوس وقرابين لاستجلاب الأمن والسكينة. لكن هنا تعلمنا دروس الماضي القريب والمتوسط والبعيد، أيضا، أنه حتى المجتمعات التي تقاوم على حافة الموت الجماعي، لم تخل ممن أتقنوا تدبير تعميم الخوف لمصلحتهم، ولم تخل من “من تحسنت أحوالهم يوم جاعت أوطانهم”.
————-
1- تبدأ حكاية الأساطير عادة بمنطقة الريف شمال المغرب بلازمة: “متا مات اجن نهار كي زمان اوامان”، كإشارة لحدث وقع ذات يوم من الزمن المطلق، زمن صراع الخير والشر المحمول في قصص من حبك الخيال الجمعي..زمن “عصر الماء”.
*أستاذ علم الاجتماع
نشر المقال بالتعاون مع منصات للأبحاث والدراسات الإنسانية menassat.org