
التوسع في المديونية العمومية علاج خاطئ ..

ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال لسبب أساسي هو أن ظروف الأزمة التي تمر بها البلاد، تقتضي مرحليا الابتعاد عن الجدل و الخصام و نقد السياسات العمومية و التدابير المتخذة اقتصاديا و إجتماعيا، لأن أولوية الأولويات في الظرفية الراهنة هو حفظ صحة الناس و تجنيب البلاد كارثة إنسانية خاصة في ظل بنية تحتية صحية هشة ووضع تنموي في غاية الهشاشة، كما أني أكاديمي يؤمن عن علم بأن الدولة القطرية بالعالم العربي تجربة فاشلة، و لا تقود إلا لمزيد من الفشل خاصة في ظل أنظمة سياسية عاجزة عن تحقيق مكاسب لبلدانها و شعوبها ، و أن الحل –بنظرنا- يتجاوز حدود البلد الواحد و يقتضي سياسات إقليمية موحدة أمنيا و إقتصاديا و تجاريا،خاصة في زمن كورونا و ما بعدها، فالعالم يشهد تحولات عميقة، و أن مواجهة هذه التحولات الكبرى لايمكن أن يتم بنفس الوجوه و العقليات و بنفس السياسات العمومية التي فشلت في تحقيق نتائج إيجابية في ظروف عادية، فكيف الأمر في ظل ظرفية عالمية غير مسبوقة…؟
آراء أخرى
و ما دفعني لكتابة هذا المقال هو الرد عن مقال كتبه السيد “عزيز أخنوش” تحت عنوان “المغرب الذي نريد بعد جائحة كورونا” و تم نشره ب “موقع لكم” يوم الإثنين 13 أبريل، و أنا أنظر لكاتب المقال ليس بصفته كاتب رأي، و إنما بإعتباره أحد المسؤوليين الأساسيين، عن وضع و تنفيذ السياسات العمومية في المغرب طيلة عقد و نيف، فالرجل وزير في قطاعات جد حيوية في المغرب و منها الفلاحة و الصيد البحري، و تولى المنصب منذ 2007 في حكومة “عباس الفاسي” و “عبد الله بنكيران” و “سعد الدين العثماني”، و هو المسؤول السياسي عن حادثة طحن المواطن المغربي “محسن فكري”، بصفته الوزير المسؤول عن قطاع الصيد البحري ، و قد قلنا ذلك في حينه و من يريد أن يطلع على مقالات الكاتب بشأن حراك الريف و “طحن مو” فذلك متاح للعموم …
لكني سأركز على ما جاء في مقاله و تصوره لإدارة الأزمة الحالية، خاصة و أنني قبل نحو شهر من بداية أزمة “كورونا”، كتبت مقالين حول أولويات الانفاق العمومي في زمن الكورونا ، و نبهنا إلا ضرورة الابتعاد قدر الامكان عن المديونية، و الواقع أني لم أخص بكلامي المغرب و حده، و إنما تحليلي يعم العالم العربي، و مقال السيد “أخنوش” فرصة لإعادة النقاش حول مثالب رفع المديونية و التمويل بالعجز، و قبل نقاش مقاله فإني سأعطي مقتطفات من المقال، و هذه المقتطفات سأعمل على تحليلها..
فقد جاء في مقاله “لقد اختار المغرب منذ البداية ولمواكبة حالة الطوارئ، دعم الطلب الداخلي وتقوية القدرة الشرائية للأسر وإعادة جدولة القروض الاستهلاكية والالتزامات المالية للشركات. ومخطئ من يعتقد أن هذه الالتزامات المؤجلة سيكون بالإمكان استخلاصها فوراً بعد الخروج من فترة الحجر الصحي، لأنه يلزم من الوقت ما يمكن المستفيدين من الوفاء بالتزاماتهم، وإن اقتضى الأمر تمديد الآجال النهائية للأداء..”
لا يختلف إثنين على أن هذا الكلام صحيح و أن مجموعة من التدابير التي إتخدتها الحكومة المغربية بتعليمات و إشراف العاهل المغربي ، تدابير مقبولة و معقولة ، لكن ما أثار إنتباهي في مقاله هو قوله” فالوقت الراهن ليس مناسبا للتقشف: إذ أن مستوى الدين في لحظة ما لا يهم، بقدر ما يهم منحى الدين على المدى المتوسط والبعيد. كما أن لجوء الدولة إلى الاقتراض من أجل التغلب على أزمة خارجية، لا مفر من تداعياتها، أمر جد طبيعي. فلحسن الحظ، يتمتع المغرب بمقومات جيدة ومالية عمومية متينة، وذلك بفضل سنوات من التدبير العقلاني والاستباقي، وهذا يتيح لنا مجالا لتعبئة المزيد من الموارد، إن لزم الأمر..”كما يقترح السيد أخنوش أنه يجب أن يتوقف ذلك الخطاب، الذي يولي الأسبقية لمداخيل الدولة ويضع على كف المعادلة الاختيار بين إنقاذ الدولة أو المقاولات، فبالنسبة له، الترويج لسياسة تقشفية يعتبر خطأً جسيما…ويؤكد أنه من أجل تنظيم مرحلة الخروج من الأزمة لن يكون أمام الدولة من خيار سوى الرفع من مستوى المديونية وتحمل المخاطر، ومواكبة الفاعلين حتى يتمكنوا من تخطي المرحلة…
أولا – أولويات الدعم
من الطبيعي أن تتوجه الدولة إلى دعم المقاولات المتضررة و مساعدتها للخروج من الأزمة، فهذا إجراء طبيعي و بموجب أسلوب المقارنة الذي إعتمده السيد “أخنوش”، فإن الصين خصصت منذ تفشي الوباء في شهر يناير أزيد من 100 مليار دولار لدعم الشركات العاملة في الصين و التخفيف من مديونيتها المرتفعة، وتوفير السيولة الضرورية لمواجهة ظروف الحجر الصحي، و انخفاض الطلب الخارجي. نفس الأمر قامت به أمريكا و بلدان الاتحاد الأروبي و بلدان أسيا و تركيا و ماليزيا و بلدان الخليج..فهذا تدبير لابد منه بل ندعو المغرب إلى رفع الاعتمادات الموجهة لدعم الشركات المتضررة، لكن هذا الدعم ينبغي أن يكون ذا عائد إجتماعي و إقتصادي مجزي ..
لكن المقارنة ينبغي أن تكون شاملة و لا تشمل تقديم لدعم للمقاولات أو التوسع في المديونية، فهذه البلدان الكبرى وفرت دعما “مجزي” للأسر ووزعت إعانات نقدية و عينية مهمة لتشجيع الناس على البقاء في بيوتهم،صحيح أن المغرب إتخد تدابير لدعم الفئات الهشة ، لكن هل من المعقول أن تكفي 100 دولار لأسرة تتكون من 4 أو 5 أشخاص في الشهر؟ فهل تكفي 20 دولار لمعيشة مواطن في شهر ؟ و هل أقل من دولار يكفي لتغطية الإحتياجات اليومية للمواطن؟ كان من الممكن تحقيق نتائج أفضل لو تم رفع هذه المخصصات، لأن ذلك سيعزز الطلب الداخلي، و هذه الأموال سيتم إعادة تدويرها في الإقتصاد المحلي، و هذا أفضل أسلوب أكثر فعالية لدعم المقاولات و قطاع الانتاج، لأنه يعزز الطلب الداخلي و يخلق دورة حميدة تشجع الإنتاج و التوظيف على المدى القريب و المتوسط..
كما أن دعم المقاولات لا ينبغي أن يكون دعما عشوائيا ، فالمقاولات الصغرى و المتوسطة لها الأولوية في الدعم لأن قدرتها على الولوج لسوق الإئتمان أقل من الشركات الكبرى، كما أن الدعم ينبغي أن يتجه نحو الحفاظ على العمال و تفادي فصلهم و ليس مجرد إنقاذ أرباب العمل من الإفلاس، و هو الأمر الذي فطنت له الصين و أمريكا و أروبا، و إستفادت في ذلك من تجربة أزمة 2008 إذ أن الإعانات التي تم تقديمها للشركات و المؤسسات لم تمنع من إفلاسها بل تم ضخ هذه الاعانات في جيوب القلة ..
ثانيا- رفع المديونية ليس بأفضل الحلول:
القول بأن التوسع في المديونية و الابتعاد عن التقشف هو الحل فيه مجانبة للصواب،و الدفع بأن الاقتصادات الكبرى قد أقرت تجاوزات كبيرة، مقارنة بالمستويات المعتادة في نسبة عجز ميزانيتها، لترجيح خيار لجوء المغرب لتعميق المديونية وعجز الميزانية كحل لمواجه الأزمة، يتجاهل حقيقة أن وضعية المغرب تختلف مع هذه الدول اختلافا عميقا و المقارنة بين المغرب و غيره من البلدان الكبرى فيه مجانبة للصواب ، فبلدان الاتحاد الأروبي و أمريكا و الصين، ليست مختلفة عن المغرب بسبب حجم وطبيعة وعمق النسيج الاقتصادي وقوته، ولكن الاختلاف يمتد الآليات و الأدوات النقدية و المالية المتاحة لهذه الدول ، والتي تسمح لها بالحصول على ميزانيات ضخمة من أرصدة الاحتياط والدعم التي تتوفر عليها، إضافة إلى قدرة بنوكها المركزية على إطلاق برامج ضخمة لشراء ديون الدول وتزويدها بالسيولة الأزمة، فالبنك المركزي الصين و الحكومة الصينية تدخلت في الفترة الاخيرة بقوة في سوق الأوراق المالية، و حاولت الاستفادة من إنخفاض أسعار الأسهم و السندات، فعملت على شراء حصص في شركات أجنبية معتبرة، كما إشترى البنك المركزي سندات دين حكومية بمبالغ أقل بكثير من سعرها حقيقي.. أما في أمريكا فعملتها الدولار هي عملة الاحتياط الدولي، و بالتالي فقدرتها على إصدار سندات دين مقومة بالدولار محكومة بقوة عملتها..
المقارنة الدولية فيها مجانبة واضحة للصواب ، فالظروف في المغرب تقتضي ترشيد الانفاق،و أطروحة رفع المديوينية العمومية أطروحة خاطئة و حتى إذا تم تبنيها ينبغي أن تكون مدروسة ، فاليوم المغرب و غيره من البلدان النامية مطالب بالعودة إلى سياسات ضبط الانفاق و تقليص المديونية ، و الرفع من كفاءة الانفاق العمومي و توجيهه نحو الضروري و الأساسي ، خاصة في ظل صعوبة الولوج للإقتراض الأجنبي ، فالسيولة عملة ناذرة، و الأزمة عمت البلدان و الاقتصاديات القوية ..
نحن على إتفاق بأن هذه الظروف تتطلب تجاوز الخلافات السياسية و العقائدية، ولكن بالقدر نفسه على المسؤوليين العموميين عدم إستغلال الظرفية الراهنة لتحقيق مكاسب فئوية تخدم فئة دون أخرى، أو دعم رجال الأعمال على حساب دافعي الضرائب، أو تمرير قرارات اقتصادية وسياسية، من المؤكد أنها ستضر بالأجيال القادمة..نعم ينبغي تعزيز إجراءات التضامن و ترشيد الإنفاق العمومي و توجيهه إلى الفئات المعوزة و الغير قادرة على مواجهة الظروف الطارئة..و أولوية الأولويات توفير المواد الأساسية لغير القادرين بالمجان أو بثمن رمزي، فإغلاق المحلات التجارية و المقاهي و المطاعم و غيرها من المؤسسات و المشاريع الصغرى و المتناهية الصغر ، هو تشريد لملايين البشر ووقف مصدر دخلهم، و أغلب العاملين بهذه المؤسسات من محدودي الدخل، و يضاف إلى هؤلاء معدومي الدخل من العاطلين و العاجزين و العاملين بالقطاع الغير مهيكل، فالتدابير الحكومية ينبغي أن تتجه لدعم هذه الفئات بمنحهم دخل شهري يغطي احتياجاتهم الأساسية طيلة فترة مكافحة هذا الوباء، أو تزويدهم بالمؤن الأساسية و تخفيف الأعباء المالية على عاتقهم..
المعركة بنظرنا، تتجاوز حصار المرض، نعم حماية الأرواح أولوية الأولويات،لكن التحدي الأكبر هو مواجهة الآثار التي أنتجها هذا الوباء، و الذي عمق و سيعمق من معاناة ملايين البشر، فقد أعلنت منظمة العمل الدولية أن العالم سيشهد فقدان 20 مليون فرصة عمل في هذه السنة جراء انتشار الوباء، و في بلداننا التي تعاني من الفقر و الفساد و ضعف التنمية، الأزمة ستكون مركبة و أكثر خطورة، لذلك فإن الساسة و الحكومات مطالبة بالإبداع و التفكير من خارج الصندوق..
و من باب الإنصاف فإني أتفق مع السيد “أخنوش” في بعض مما قال و أختلف معه في البعض الأخر، لكني أدعوه بصفته مسؤول عن أموال عمومية مصدرها دافع الضرائب المغربي، و إلى غيره من الساسة المغاربة و بالعالم العربي عموما ، بضرورة تحمل مسؤولياتهم في هذه اللحظة التاريخية و التفكير من خارج لصندوق و البدائل متاحة و ممكنة..
نعم ندرك جيدا أن الموارد العمومية شحيحة و عاجزة عن الوفاء بالالتزامات الطارئة، و أغلب الحكومات النامية و منها العربية، تتطلع الى التسهيلات الإئتمانية التي ستحصل عليها من صندوق النقد و البنك الدوليين، و نحن نقول لهم لا تراهنوا كثيرا على هذا البنذ من الإنفاق، فالأموال التي سيتم تخصيصها أموال مشروطة، و سترهق كاهل الشعوب لعقود أخرى..
و بنظرنا ، البديل هو الضغط باتجاه ترشيد الانفاق العمومي و استرداد الأموال المنهوبة و المهربة، و هي كافية لتغطية الالتزامات المالية الناشئة، و إذا كان من الصعب استردادها كاملة فعلى الأقل حجز نصف ثروات الفاسدين..و هنا أوجه نظر السيد “أخنوش” إلى تجربة “محمد مهاتير” في سنة 2018 و كيف تمكن من استرداد ملايير الدولارات في أقل من 10 أيام…
أما المراهنة على الإستدانة و الإحسان العمومي و الإنفاق التطوعي من قبل الأغنياء فإن ذلك غير كافي ، فالإجراء الحازم و الفعال و الذي سيدعم مصداقية الحكومات في هذه الظروف العصيبة، هو استرداد الثروات التي تم نهبها بطريقة غير مشروعة، و أجهزة الدولة المختلفة تعرف جيدا المفسد من الصالح، وبدلا من تشكيل خلية أزمة لمواجهة كورونا فينبغي أيضا تشكيل خلية أزمة لإسترداد الأموال العمومية التي تم نهبها، لأن هذه الأموال هي التي ستمكن الحكومات من تمويل جهود محاصرة الوباء، وأيضا مواجهة التأثيرات اللاحقة، و التي نتوقع أنها ستكون أسوأ من الوباء نفسه… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..