في الوقت الذي اعتبر فيه بعض العقلاء أن الظروف مواتية لإحداث انفراج حقيقي في أوضاع المغاربة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وطي سجل بلدهم القاتم في مجال حقوق الإنسان والاعتداء على حرية التعبير كان للسلطة المخزنية رأي آخر، فقد ظنت أن حالة الطوارئ الصحية بمثابة شيك على بياض يسوغ لها التمادي في انتهاك حقوق المغاربة إن عبر الإيذاء المباشر لهم مع استمرار رفض إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومع ارتفاع وتيرة المتابعات والتوقيفات والاعتقالات الناجمة عن تدوينات رأي في مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر الإيذاء المعنوي من خلال حملات التشهير الواسعة التي طالت عددا من الصحفيين والمدونين ورموز لحركات وتنظيمات معارضة ذنبها أنها رفضت أن تتماهى مع الدعاية الرسمية.

لم يفهم المخزن شيئا مما يحدث في العالم ولم يقدر خطورة ما ينتظره ما بعد كورونا والتبعات التي ستخلفها هذه الجائحة على الأوضاع المعيشية للمغاربة والتي تحتاج تعبئة مجتمعية تترفع عن أية حسابات ضيقة الأفق، فقد اعتقد أن وقف تفشي الوباء متعلق فقط بمدى القدرة على ضبط الشعب وإخضاعه مثلما صنع النظام الشمولي الصيني، فيما أخفقت أوروبا عرابة الحقوق والحريات في ذلك لتخلص أدواته الإعلامية إلى أن وسائل المخزن العتيقة أكثر نجاعة من ثقافة الحقوق الغريبة عنه، وهو ما ظهر جليا في الدعاية الفجة لثقافة بائدة أريد لها أن تكون عنوانا للمرحلة الحالية، بل إن الأمر تجاوز كل منطق عند بعض الأصوات الناطقة بلسانه بحديثها عن الاستثناء العظيم الذي يمثله النموذج المخزني في مواجهة كورونا والتطاول حتى على الدول المتقدمة والتهكم على مجهوداتها دون أن يشعر من يقود هذه الحملة الإعلامية بالإحراج مما يروج له.

ذلك أن الحسم في نجاح المقاربة الصينية هو أمر متسرع لا سيما بعد عودة الفيروس إلى الصين، ثم إن غياب النزاهة والشفافية تجعلنا نتشكك في ما تروج له الحكومة الصينية من أرقام، فما يعتقده المخزن وكهنته أنه مصدر قوة الصينيين هو نقطة ضعفهم الرئيسية إذ أن طغيان الرأي الواحد أدى إلى التستر والتكتم الأولي مدة غير قصيرة عن الكارثة الشيء الذي ساهم في انتشار الفيروس وفاقم من خطورته، ومع ذلك فإننا لا نقلل من التجربة الصينية ونقر بحجم ما بذلته الصين وما استثمرته من عقول عالية التكوين ومن بنية تحتية قوية تمكنت من تحمل مسؤولية تطويق الوباء، لكن مخزننا لم يلتقط إلا أسوء ما عند الصينيين كعادته في اقتباسه من التجارب الخارجية المختلفة، ومع ذلك لا يستحيي المخزن المترهل الذي لا يملك إلا سوطه التاريخي من أن يقارن نفسه بإحدى أبرز القوى العالمية.

لكنه الخطاب الشعبوي الذي يستخدمه المخزن مستثمرا حالة الهلع في صفوف المغاربة والذي يستلهم من إعلام السيسي وينسج على منواله، حيث يريد به أن يسوق لنجاحات متخيلة في ذهنه هو لا غير، رغم أن المغاربة يعرفون واقعهم جيدا ويلمسون قصورا واضحا للسلطة في تعاطيها مع هذا الوباء بفعل الهشاشة التي يعاني منها قطاع الصحة الذي يفرض على الدولة أن تقدم اعتذارا لشعبها على عقود من التدبير الفاشل له حتى أوصلت وضع القطاع إلى غرفة الإنعاش، وهو ما أكده العجز عن الرفع من وتيرة التحليلات المخبرية بنسبة معقولة، مما أثر على فرص العلاج الشيء الذي يفسر ارتفاع نسبة الوفيات لحد الساعة من بين المصابين به، وأكدته أيضا اللامبالاة تجاه عدد كبير من الحالات المرضية المزمنة الذين تركوا لآلامهم بعد أن تم رفض استقبالهم في المستشفيات العمومية.

ناهيك عن الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها السلطة التي يفترض بها أن تحارب التجمعات البشرية الكبرى، فإذ بها تساهم في إيجاد المزيد منها بتنزيلها السيء لعدد من القرارات، كإعلانها الفجائي عن حظر التجول دون أية مقدمات الشيء الذي أربك المغاربة وأسفر عن هبة جماعية نحو المحلات التجارية واكتظاظ مهول في محطات المسافرين، وورقة التنقل الاستثنائية ومسلسل البحث عن الكمامات الذي لم ينته بعد، إضافة إلى عدم حل مشكلة الأسواق، وقضية بعض المصانع التي تسبب نشاطها في خلق بؤر جديدة للوباء.

أمام هذا الواقع الذي لا يرتفع لم يكن المخزن قادرا على اجتراح خطاب هادئ مقنع يتفاعل مع المجتمع ويتحمل آراء مخالفيه، فلجأ إلى المنابر الإعلامية الفضائحية التي جنبها العطالة ونقص الاهتمام بها جراء الحجر الصحي الذي فرض على نجومها التواري على الأنظار، تلك المنابر الموجهة بالأساس إلى تسطيح وعي المجتمع وإغراقه في التفاهة، لكن هذه المرة قام باستخدامها للدعاية السياسية له واستثمار المشاهدة العالية التي تحظى بها التي، بالمناسبة، لا يمكن اعتبارها إنجازا يفتخر به أصحابه ما دام صانعو ذلك الإشعاع هم نجوم الفن والكرة وأصحاب “روتيني اليومي” الذين تفوقوا على كبار المفكرين والأدمغة في العالم، وليس في المغرب فحسب، من ناحية الاهتمام بهم والتفاعل مع نشاطاتهم.

لذلك فقد استخدمت في تعاطيها مع الشأن السياسي ذات الوسائل التي تعودت عليها المعتمدة على الإثارة والتهريج والبهرجة عبر تضخيم أي فعل سلطوي والمبالغة في الاحتفاء به وصناعة نجوم لاشيء استثنائي فيما يقدمون، مقابل ذلك عملت على النيل من الشخصيات التي أبدت ملاحظات على أداء السلطة بأساليب النميمة التي تتقنها جيدا والإسفاف بحقهم وبحق عائلاتهم واستحضار أشخاص آخرين لا ناقة لهم ولا جمل في تلك الحرب الشعواء سوى أنهم كانوا على احتكاك بالشخصيات المستهدفة.

حري بالذكر أن الاستغراق في هذا النهج له آثار عكسية لأن الاحتجاج ضد السلطة ليس حكرا على عدد من الأفراد يمكن الانتصار عليهم بإسقاط عدالتهم عبر التشويه والافتراء، فقد أصبح ظاهرة تجاوزت المعارضين التقليديين لتطال حتى من كانوا مغمورين إلى وقت قريب ومنهم من لا سابقة ولا عهد له بالسياسة، أي أن السلطة بدل أن تبحث عن أصل الداء وتعالجه تستنزف جهدها ومواردها في ما لا طائل منه، والمفارقة التي لا تنتبه لها هي أنها تعيد ترميز من تستهدفهم سهامها، فالدعاية السيئة هي دعاية أيضا خصوصا أن الرأي العام يعرف أن سبب التعرض لتلك الشخصيات هو مواقفها المعارضة وأن العملية باختصار مجرد عملية ابتزاز رخيص تتولى كبرها مواقع التشهير المخزني التي تكف شرها عمن يذعن للسلطة المخزنية ويلتحق بحظيرتها وتضرب تحت الحزام كل من يلتصق بهموم الشعب.

لقد كشفت محنة كورونا أن الهرم عند النظام المخزني مقلوب، فما تبذله أنظمة دولية عديدة من مجهودات في إطار قيامها بواجبها بمنتهى الالتزام والمسؤولية تجاه شعوبها يعتبره هو تفضلا منه على رعيته، لأن الأصل عنده أنه يُخْدَمُ ولا يَخْدِمُ يُحاسِبُ ولا يُحاسَبُ، يفهم ما يقع اليوم على أنه رد للاعتبار إليه في وجه معارضيه الذين لم يقدروا قيمته، فيمن عليهم وعلى عموم المغاربة إن هم طلبوا منه توفير الأمن لهم أو الاستشفاء لهم ولذويهم في مستشفيات الدولة أنهم أصبحوا تحت رحمته وكأنهم ليسوا مواطنين لهم كامل حقوق المواطنة يحق لهم الاستفادة من المؤسسات العمومية التي تمول بأموال ضرائبهم وثروات بلادهم ويحق لهم كذلك محاسبة من قصر من المسؤولين في واجباته تجاههم.