كان لوقفته على منصة الحراك الشعبي بساحة الشهداء مباشرة بعد اعتقال ابنه ناصر هيبة خاصة و كانت هذه المرة الثانية التي تلتقط تفاصيل وجهه الحزين  وسائل الاعلام التي وثقت هذا الحدث بالصوت والصورة، وفي المرة الأولى كان ظهوره خاطفا جدا لم يستغرق الا ثواني معدودات بعد أن نجا ابنه من محاولة اعتداء دنيئة بمسيرة حاشدة بالناظور حيث تم تسخير  بلطجية مدججة بكل انواع السلاح الابيض بما في ذلك السيوف التي استخدمت لإثارة الرعب والتي تسببت بجرح الكثيرين من النشطاء وتم تهريب ناصر بصعوبة بالغة من مكان الحدث وحتى بعد مغادرته المدينة ظلت سيارات مجهولة  تطارده على الطريق الساحلي الذي يربط الناظور بالحسيمة، هذه المطاردة الهوليودية كادت أن تسبب له بحادث لولا يقظة مرافقيه وشجاعة مناصرين من شعب الحراك الأبي  وهذا  ما أثار رعب عائلة قائد الحراك ودفعها للالتحاق بساحة الشهداء وقتها ولاول مرة بعدما كانت بعيدة كل البعد عن الانظار للاطمئنان على سلامته الجسدية مباشرة بعد وصوله  من رحلة موت محقق .

وما تلا ذلك من وقائع لم يكن للزفزافي الأب يد في أن يكون طرفا فيها،  دفعت به الظروف دفعا ليجد نفسه فجأة في يم الأحداث و يسحبه تيار الحراك الشعبي لمحطات لم يخطط أن يكون فيها يوما من الأيام خصوصا بعد ان بلغ من الكبر عتيا  ولم يبقى من العمر الشيء الكثير  يبعثره على رحلات سيزيفية تتطلب جلدا وصبرا وطول نفس خصوصا وأنه لم يكن يوما ضمن نشطاء الحراك، صحيح كان متتبعا من بعيد ومهتما مثله مثل كل المنتمين لجغرافية الريف لكنه لم يفكر مطلقا ان يلتحق بالركب الذي كان يعج بالطاقات الشبابية المليئة بالحياة والمكتظة بالأحلام.

في تلك الليلة الفارقة وبعد ان غيب  الاعتقال صوت ابنه الذي كان يزلزل وطن عبد الكريم بقوة خطابه، كان الزفزافي الأب يخاطب الجماهير الشعبية التي حجت للمكان و التي أصرت على مواصلة الطريق في غياب ناصر ومرافقيه معلنة احتجاجها على الاعتقال التعسفي الخارج عن القانون الدولي الانساني الذي طال الأحرار ، خصوصا وأن عملية الاعتقال  كانت منافية لكل القوانين، لما تخللها من تعذيب شديد  وإذلال متعمد و انتقام وحشي، وصفه   ناصر ورفاقه داخل قاعة محاكمتهم، وكأن الامر  كان يتعلق باعتقال خلية ارهابية  او افراد عصابة اجرامية سادية. بصوت حزين ومرتجف بدأ “عيزي احمد” كلامه ، كان يغالب دموعه بين فينة وأخرى والوهن بادي على جسده كأي والد  فجع باعتقال فلدة كبده بتلك الطريقة البشعة .

من الوهلة الاولى ترك انطباعا خاصا لدى المتتبعين وترسخت بالأذهان سريعا فكرة بأنه رجل المرحلة الصعبة التي يمر بها الريف،  بدا ثابتا من أول لحظة رغم مصابه الجلل، حاسما في اختيار الكلمات، عقلانيا في خطابه السياسي، متزنا عند العثرات والمطبات ومنفتحا على كل المواقع النضالية التي قد تساهم  بطريقة أو بأخرى  في حلحلة الأزمة عبر تراب الوطن بأسره، اتسع صدره  للجميع و لم يدخر جهدا للجهر بقضية المعتقلين في المحافل الدولية  والمنظمات الحقوقية والمنابر الاعلامية بالداخل و الخارج.

ظل متشبثا بالملف المطلبي الذي سطره الحراك وشعب الحراك ، لم يعلي السقف حين حاول البعض جره للتصعيد ولم يخفضه أيضا حين طالبه البعض بالخروج من الإطار المحدد والواضح الذي رسمه شباب الحراك ، ظل وفيا لنهج الأحرار، صادقا، أمينا، حريصا على العهد الذي قطعه على نفسه بأن يتحلى بالمسؤولية والشفافية رغم محاولات التشويش على صورته النقية وذلك برميه باتهامات باطلة لثنيه على مواصلة مهمته الانسانية وبالتالي شق صف عائلات المعتقلين خصوصا بعدما ثبت لكل من كان يحاول إقصاءه بانه يملك من العناد ما يجعل كل محاولاتهم تتبخر أمام عزيمته القوية وتمسكه اللامشروط بثوابت الحراك الشعبي وعدم الرضوخ للإملاءات مهما كان حجم الضغوطات والإغراءات. إنه كالقابض على الجمر في زمن الدسائس وتكالب قوى الشر التي تكتلت من اجل النيل منه بكل الطرق الممكنة .

هو من طينة الرجال القلائل الذين لا تغريهم المناصب ولا الماديات الزائلة ، فقد عاش حياته على الكفاف وبالكاد كان يوفر الحد الادنى من شروط العيش لعائلته مثله مثل كل العائلات الريفية الفقيرة وعلى مدى حياته المهنية التي دامت 43 سنة عرف فيها بنظافة اليد والنزاهة في العمل، لم يسرق ولم يرتش ولم يزور وكان بإمكانه ان يفعل ككل الذين يتواجدون على رأس المؤسسات العمومية التي ينخرها الفساد، ولو وجد خصومه ما قد يدينه ما وفروا مجهودهم للتشهير به في مواقعهم المشبوهة ولجعلوه حديث الساعة لعشاق الصيد في الماء العكر.

ليس هناك أسهل من توجيه سهام السب والقذف، وامتهان الثرثرة السوفسطائية التي أصبحت من هواية البعض سواء أولئك الذين تحركهم مباشرة جهات معلومة ويشتغلون تحت إمرتها براتب شهري أو اولئك المسترزقين الذين يبحثون عن موطىء قدم في الخريطة السياسية المستقبلية لمنطقة بلاد الريف في غياب جماعة الكوركاس ، هؤلاء الحثالة هدفهم بالإضافة لتلويث عائلة ناصر و تقويض نزاهتهم يسعون لضرب رمزية الزفزافي الأب وتحقير مجهوداته الجبارة، يحفرون وراءه ويبحثون عن أي نقطة سلبية ليثيروا ضجة حولها لحقدهم على تاريخه النضالي وتاريخ العائلة المشرف الذي يمتد لزمن مولاي موحند.

لا ندري كيف سينتهي ملف حراك الريف و لا حتى كيف ستكون الخطوات التي قد تقود باتجاه حلحلة الوضعية المتأزمة التي تبدو في ظاهرها كبحيرة راكدة لكنها في الحقيقة محيط متلاطم من المعطيات المتناقضة و الخطيرة في آن واحد، في غياب اي رغبة حقيقية لحل هذه القضية الشائكة من جهة النظام الذي يعتمد تكتيكا استراتيجيا لإرهاق الخصم و كسب وقت اضافي يوفر له مساحة للمراوغة و ذلك بخلط الأوراق و تقديم رجل و تأخير أخرى و التلويح بالانفراج ثم العودة سريعا الى المربع الأول و كأن شيئا لم يكن، هذه السياسة المتبعة هي قديمة/جديدة تجعلها الأنظمة الاستبدادية نهجا ناجعا لها تجاه المطالب الشعبية الملحة للتلاعب بمشاعر المواطنين الذي يفضي غالبا إلى اليأس و الاستسلام للأمر الواقع و القبول بأضعف الحلول  تحت ضغط عجلة الحياة التي لا ترحم و الاقتناع  بعبثية المقاومة و استحالة الوصول للهدف على المدى المنظور،  ما يؤدي بالتالي لتشتيت الاهتمام ثم خفوته تدريجيا الى ان يصل مرحلة التلاشي و النسيان  و هذا ما تسعى اليه الدولة المافياوية قصد تمطيط مدة العقاب المفروض على عائلات المعتقلين و  الساكنة بصفة عامة.الا أن وجود“عيزي احمذ” ومعه كل قوى الممانعة و كل الأحرار  يشكلون سدا منيعا و قلعة عصية على الاختراق على كل من تسول له نفسه استغلال الوضعية المتأزمة لنيل مآرب شخصية.

نحتاج عيزي احمد في هذه المرحلة التاريخية لأنه صمام أمان لنعبر بأمان و بأقل الخسائر الممكنة لما يملكه من رجاحة عقل و رزانة تفكير .

لاهاي 7 يناير 2020