كانت ليبيا ومازالت بالنسبة للمغاربة والعرب عموما ، بلدا قريبا جدا بحكم الجغرافيا والحضارة والتاريخ، غير أنها في الآن ذاته بلد بعيد جدا بالنسبة لكثير منهم بحكم أنها كانت وما زالت خارج دائرة الضوء ..فهناك دائما غمامة ما تحجب الرؤية وتمنعك من أن ترى ليبيا كما هي .

جيل مواليد الستينات والسبعينات لم يعرفوا ليبيا قط فقد كانت ليبيا مرادفا، حقيقة أو افتراضا، للاستثناء والغرابة وكل ما يصل من هذا البلد المغاربي غريب بل و” غرائبي ” أحيانا. معمر القذافي كان يحجب الرؤية سواء بطريقة حديثه وبلباسه وتصرفاته أو بتصريحاته ومعاركه.

في الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، كان من الضروري أن تتوفر على مذياع من نوع جيد لتتمكن من التقاط بث الإذاعة الليبية ” صوت الوطني العربي الكبير .. ” غير أن  حظوظك وأنت في مقتبل الإدراك السياسي أو حتى في أوجه ،بأن تفهم شيئا مما يجري في” الجماهيرية” قليلة جدا، أما ما يجري في ليبيا فبعيد المنال.

ستسمع عن اجتماعات متتالية للجان شعبية وأخرى لمؤتمرات شعبية وعن مناصب لا توجد إلا في “الجماهيرية” وستتلو عليك الإذاعة ” الكتاب الأخضر ” ليل نهار فتشعر أن المذيع نفسه يقرأ وكأنه بصدد طلاسم شاء القدر أن تكون قراءتها مصدر رزقه.

كان للجماهيرية قاموسها الخاص وكان بمثابة لغة علم دقيق تحتاج إلى متخصصين لفك شفرتها ، حتى الأحداث الدولية تحتاج إلى صبر وجلد كبيرين لتفهم موقف “الجماهيرية” منها فالإذاعة من ليبيا لا تتحدث عن رونالد ريغن على سبيل المثال بل عن ” الكلب المسعور ” ولا عن بريطانيا فهي ” حاملة الطائرات الأمريكية ” وهلم جرا. “الجماهرية” حجبت ليبيا تماما في الصحف وفي الإذاعات وحتى في القناة الليبية الفضائية عندما التحقت طرابلس بركب العرب الفضائيين بقناة يغطي شعارها جزء كبيرا من الشاشة.

أما إذا بحثت عن ليبيا في قنوات أوروبا وأمريكا فلن تعثر على شيء. بالنسبة للأوروبيين والأمريكيين أيضا،وهذا تواطؤ غريب، ، فإن ليبيا هي القذافي والقذافي هو ليبيا . ولأن العقيد نأى بليبيا وخصوصا بنفط ليبيا بعيدا فإنه عدو وجبت تصفيته في الإعلام في انتظار فرصة تصفيته على الأرض. فمن وجهة نظر أصحاب القرار في أوروبا والولايات المتحدة كان هذا هو خطأ القذافي القاتل وليس ديكتاتوريته، فهو في هذا الباب لا يختلف إلا بحجم الضجيج الذي يحدثه ، عن عدد من حكام المنطقة والقارة .

بدت ليبيا كقلعة حصينة تمنعت على مجريات التاريخ الذي يتحرك خارج حدودها وعلى نظريات الاقتصاد والسياسة والاجتماع أيضا. بل إن لا أحد من هذا الجيل والأجيال الأخرى يعرف شكل مبنى واحد يحيل على ليبيا أو على عاصمتها طرابلس فحتى “النهر العظيم” لم نر منه إلى جزء يسيرا سمحت عباءة القذافي بأن يظهر في نشرة أخبار.

لم نسمع أغان من ليبيا ولا شاهدنا مسلسلات عنها ومنها . أما الأعمال الشعرية والأدبية فالذي يصل منها كان ملوثا باللون الأخضر إلى حد فقد معه أي صلة بليبيا. ألم يكن في ليبيا بالفعل أغان للناس و أشعار للناس ونكت يرددها الناس ؟ بالتأكيد فالمجتمع الليبي وكل المجتمعات تجد لنفسها مساحات للقول و للحكي وللغناء وللإبداع عموما حتى في ظل أعتى الدكتاتوريات غير أنه كان هناك على ما يبدو  حرص ” مشترك” بين الداخل والخارج  على إبقاء ليبيا بعيدة عن الأنظار .

وحتى عندما بدأت تظهر ثقوب في عباءة العقيد فإن الخلفية كانت مغطاة بصورة ” الزعيم المقبل ” وهي صورة بدأت تتمدد فشملت ملاعب الكرة في ليبيا وخارجها ثم تربية الحيوانات المفترسة وصولا إلى التجارة والاستثمار في “ليبيا الغد” .  كانت وسائل الإعلام الخضراء تتحدث عن مشاريع الفتى القادم من خلف أبيه وكان العقيد يمهد للمشهد بتنازلات تلو أخرى لنزع كل الألغام في طريق الابن المدلل دون أن يعلم أن الإنحناءة الأولى ستقود إلى السقوط .

في هذه الأثناء جاء الربيع العربي وكان نصيب ليبيا منه “نصف ثورة ونصف غزو”  فظلت صورة ليبيا مضببة مرة أخرى. ولأن ليبيا أرض المفارقات فإن “نصف الغزو” سيقتل القذافي و”نصف الغزو” نفسه سيتحالف مع بقايا العقيد وستصبح البلاد  بفعل “نصف الغزو” و”نصف الثورة” مرتعا لكل الراغبين في تصفية حساب التاريخ مع أرض استعصت على الغريب.

كل نشرات الأخبار اليوم تتحدث عن ليبيا لكن لا أحد من  الخبراء والمحللين يغامر بقراءة فنجان القهوة الليبي والتكهن بما يمكن أن يكون عليه غد  طرابلس أو بنغازي أو مصراتة أو ترهونة. كل القوى تأمل في موطئ قدم في ليبيا لكن لا أحد منها يجرؤ على دخول الملعب الليبي بوجه مكشوف لأنهم جميعا يعرفون أن أثر أقدام عمر المختار مازالت بادية على تراب هذا البلد الجسر بين مشرق ومغرب خريطة العرب.

لا جديد إذن فصورة ليبيا مازالت غير واضحة كما كانت ومازالت هذه البلاد تأبى الظهور وهي تسعى ربما لأن تكون الصورة الوحيدة التي ترسبت في ذاكرتنا عنها هي صورة بلاد عمر المختار بالتحديد، على الأقل كما رسمتها كاميرا  مصطفى  العقاد، وأن ننتظر جميعا أن يبلغ ذلك الطفل الذي التقط نظارات الشهيد سن الرشد فيعيد كتابة ملحمة أخرى تجعل الصورة واضحة على الأقل..