أمست الوطنية الاقتصادية، أو القومية الاقتصادية (Patriotisme économique)، في نظر البعض، نزعة قديمة الطراز، غير صالحة بالمرة في الزمن الذي يجري.نزعة كَسَحتْها العولمة كما تكْسَح الريح الورق. لم يعد للكلمة ذلك الوميض الذي كان لها في الستينيات من القرن الماضي، حيث خفَّ وزنُها، ونزلت قيمتها. من ثمة، يجدف عكس التيار من يسعى، والحالة هذه، إلى إعادة تدويرها، بل سيكون بالأحرى كمن يفكر خارج الصندوق، ويحارب طواحين الهواء. الوطنية الاقتصادية تعني، نظرياً، اعتماد سياسة حمائية في مجال التجارة الخارجية، وتدفق الأموال، عن طريق سن رسوم جمركية على بعض المواد المستوردة، واعتماد استراتيجية إحلال الواردات، وترجيح الرساميل الوطنية على الاستثمارات الأجنبية، إلى غير ذلك. بالنسبة إلى بلادنا، تعني الحمائية، بوصفها سياسة اقتصادية، بالتحديد تحصين السيادة الوطنية، والتحكم في الاختيارات، والتوجهات، والاستراتيجيات، والسياسات، والمبادرات التنموية، دون قيد، ولا شرط، ودونما رضوخ للأمر الدولي، أوخضوع للإكراه الخارجي. السياسة الحمائية، في الميثولوجيات الاقتصادية، تكاد تنحصر في وضع الأقفال على الأبواب، وفي الانكفاء على الذات، وما هي بذلك. الحمائية موازنة بين الإنتاج، وطنياً، ل”الضروري من التنمية”، والاستيراد عند الضرورة، بموجب الامتياز المقارن. ليس الاكتفاء الذاتي، إذن، كلُّه خيراً ، وليس التبادل الخارجي كله سوءاً. لم يعد خافٍ على أحد ما كان لمبدأ “التبادل الحر”، ولمنظومة “السوق المفتوحة” من دور حاسم في حدوث “التجاوز التاريخي”، وفي استحكام “التباعد الكبير” بين البلدان المتقدمة، والبلدان النامية (أنظر تدوينة ١١ يونيو ٢٠١٩). “الامتياز المقارن” الذي استأثرت به بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها إنجلترا في القرن التاسع عشر ليس مردُّه إلى الثورة الصناعية فقط، بل إلى التبادل الحر أيضاً. وإذا كان الاقتصاد عملية إنتاجية وعملية تبادلية في آن، فإن الأمم ليست متكافئة، سواء من حيث النمو (سمير أمين)، أو من حيث التبادل (Arghiri Emmanuel). تحت هذه الشروط، ليس من النافل أن يتحول التبادل الحر إلى تبادل مقيِّد ومُكبِّل للبلدان النامية. جُلُّ اتفاقيات التبادل الحرالتي عقدها المغرب، إن لم تكن كلها، أسْفرت، لحد الآن، عن عجز تجاري من شأنه أن يُعيق التنمية الاقتصادية، وأن يخالف المصلحة الوطنية.
فريديريك ليست (Friedrich List)، الاقتصادي الألماني (1789-1864) كان يدعو إلى “الحمائية التربوية” (Protectionnisme éducateur)، خاصة في المجال الصناعي. “حماية السوق الوطنية في المدة المتوسطة” هو الشرط اللازب لبناء “التبادل الحر المتكافئ في المدة الطويلة”. مسؤولية الحمائية الصناعية تقع على عاتق الدولة حتى تنهض المقاولة الوطنية، ويصلُب عودها، وتقوى على المنافسة. قُلْتُ، الوطنية الاقتصادية موازنة بين الاعتماد على الذات، وهو الأصل، والانفتاح على الخارج حسب اللزوم، موازنة بين شرط السيادة، وقيد الترابط. هي، أيضاً، موازنة بين المصلحة العامة، والمصلحة الخاصة. لا تستويان بمقياس المصلحة الوطنية. الأولى هي الأرجح في الميزان، وهي الأجدر بالاهتمام، والأَحرى بالإكتراث، في كل الأحوال.